***
ولها معى ذكريات .
التقيتها أول مرة من عشر سنين . كان اكتشافاً مبهراً . . قريبة لأمى عيناها ملونتان ، ذات حسن وفطنة ولطافة . والدها ليس مصرياً . كانت تلك زيارتها الأولى منذ رجوعها لوطن أبيها من سبع عشرة سنة . عراها حنينٌ لأيام طفولتها القاهرية ، و صباها السكندرية . أخذت إجازة قصيرة من عملها بالمطار هناك ، وتتوق لرؤية الأماكن والناس .
لم نفترق طوال تلك الزيارة القديمة.. ركبنا المترو ومشينا في شوارع وسط البلد ، وبلغنا ميدان الأوبرا، فالعتبة، واشترت ملابس من الموسكي؛ شيئاً من رائحة مصر .
طفنا بالقاهرة القديمة وآثارها: المساجد ، والأسبلة و الوكالات . ومضينا إلى القلعة وحي الحسين وخان الخليلي.. وأكلنا معاً فى المطاعم الشعبية ، وجلسنا على المقاهى .
وكانت حريصة على زيارة الأقارب فى القاهرة والمحافظات .
***
عرضت عليها الزواج .
كنت جاداً . . دهشت . . قالت : سأتمُّ 40 سنة بعد أسابيع . . وأنت ؟ 25 ؟
قلت لها فارق العمر لا يهم . . قالت : ليس السن وحده .. فكرة الزواج نفسها.
وحدثتنى عن أكثر من مشروع زواج لم يكتمل . كانت تحلم ببيت سوف تبنيه، وحديقة سوف تزرعها زهوراً ، وتتفرغ لهواية الرسم بعدما تخرج إلى المعاش.
***
اليوم الثانى … هل أنزل ؟
***
فى اليوم الثالث ، أخبرنى الولد أنه ذهب معها فى مشاويرها ، وأنها غيّرت نقوداً من مكتبٍ للصرافة . . وأكلا معاً دجاجاً مشوياً ، وحلوى ، وتناولا مشروباتٍ، فى مكان فخم معظم قصاده من السائحين .. وذهبا للملاهى واشترت له هدايا .. قال إنها ستٌ طيبة وتصرف كثيراً .
***
أشتاق ضحكتها . . حسبى منها ضحكة . تضحك.. تطلق عصافير تغرد فى بستان ليمون مزهر ، وقطيطة تلاحق ذيل رداء أحمر ، لأميرة حكاية أسطورية ، ينساب فوق بلاط من مرمر .
تضحك فأحبّ الدنيا .
***
ستصعد هى إلىّ . . وأراهن بودٍ كان بيننا وتناغم فكر .
***
ولى عليها عتابٌ قديمٌ . . وجديدٌ . . ويصدُّنى عنها حالة كالخصام . تهرَّبت فى الماضى من إعطائى عنوانها أو رقم هاتفها قبل سفرها، وكذلك وأنا أودِّعها في مطار القاهرة . قالت يومها إن الحياة فى البلد الآخر مختلفة ، والناس هناك يرتابون بأشياء عادية .
لم أفهمها أو تقنعنى إجابتها ولكنى لم أناقشها .
***
خامس يومٍ . . الولد يقول إنها باعت البيت وقبضت الثمن.. أفكر بالنزول . . ولكن . . ليس الآن . . ربما غداً . . أو بعد غدٍ.
***
فى الليل ، من شباك حجرتي الخلفية ، أسمع صوتها عبر النافذة السفلية . ماذا بعد الخمسين ؟ متى أستطيع أن أعيش حياتى كما أريد ؟ ليس لى زوجٌ ولا ولدٌ.. أمى و أبى ماتا.. معاشى كبير وعندى فلوس فى البنك . . بنيت بيتا جميلاً . وزرعت أزهاراً . . أرسم . . شقيقى الوحيد سافر لدولةٍ جارةٍ . . أولاده رائعون وكانوا سلوتي.
***
أتراها ستضحك ؟
***
لم تصعد إليَّ . . ما أقصر ما يفصلنا وما أنأى . . عشرون درجة سلم .. كبعد الأرض عن النجوم .
***
فى الليل قالت : ستمطر الآن .
وكأنها استمطرت السماء فاستجابت . وامتدت يدها من الشباك تستقبل قطرات مطرٍ أمشيرية . . لحظة و انسحبت . . هالة نور . . ومضة نشوة . . فى الضوء الشاحب . . وتلاشت . . أغلقت شباكى واستلقيت فى فراشى ، أغالب وجداً وشجناً .
***
فى الصباح كان الولد حزيناً . . قال ” طنط هانية ” ركبت الطيَّارة فى الفجر وسافرت . . ولن ترجع .
وقال والدموع فى عينيه : كنت أريد أن أسافر معها ؛ لأنها وحيدة وكبيرة فى السن وشعرها أبيض . . وليس عندها أولاد .
***
رحلتْ ولها فى فى النفس وحشة . . لم تطلعْ ولم أنزلْ ولم أسمعْ ضحكتها . وخسرت مع نفسى الرهان . . وفات الأوان .
من منا كان عليه أن يذهب للآخر ؟!
ـــــــــــــــــــ
حسن صبرى
قاص وروائى – مصر
ــــــــــــــــــــــ
خاص الكتابة