استدعى (هيكتور هيو مونرو) كافة العناصر المطلوبة لنسج خدعة مرعبة: رجل مرهق الأعصاب، على استعداد تام للانهيار .. فتاة تحكي مأساة لا تخلو من الغموض .. سيدة تنتظر رجوع موتى من رحلة صيد .. نافذة مفتوحة على ظلام الليل (لن يمر منها سوى الأشباح إذن) .. كلب وأغنية (وما أدراك ما أهمية الكلب والأغنية عندما نتحدث عن قصة رعب) .. لكن لو أنني كاتب قصة (النافذة المفتوحة) فلن أفكر أبداً في كتابة العبارة الأخيرة: (كانت تجيد عند الحاجة اصطناع قصص مثيرة دونما إبطاء)؛ إذ تُعد بالنسبة لي بمثابة قرار اتخذه (مونرو) بغلق النافذة التي فتحها .. هل هي عبارة زائدة؟ .. بالتأكيد؛ فهي لم تنتج إضافة هامة لحقيقة أمكن استنتاجها بسهولة .. هل أحدثت تأثيراً ضاراً على ما يُفترض أنه جوهر القصة؟ .. لقد حوّلت الخدعة في نهايتها إلى مجرد مقلب عادي، وهنا ينبغي توضيح الفرق الذي أراه قائماً بين الحالتين:
إنك لا تستطيع أن تختطف أحداً إلى حكاية عن بشر يغرقون في أرضٍ طينية إلا إذا كنت تعرف ما الذي يعنيه ذلك .. إلا إذا كنت قد رأيت جسدك في زمن سابق يغرق أمام عينيك في تلك الأرض .. أيضاً لا تستطيع أن تشيّد قصة عن مطاردة مجموعة من الكلاب لرجل ما، واضطراره لبقاء ليلة في قبر مفتوح بينما الكلاب تنبح وتكشر وتزبد فوق رأسه إلا إذا تصورت نفسك داخل تلك التجربة الوحشية .. الفتاة الهادئة لم تضع دبابيس في المقاعد كي تُغرز في أجساد الجالسين، ولم تدهن مقابض الأبواب بالصمغ حتى تلتصق بها الأيدي، إنها تتخيل حكايات حدثت لها شخصياً بالفعل في عالمها السري .. يتحقق في العبارة الأخيرة وبقوة الانطباع بوقوف الأمر عند حد الأكاذيب الشيقة، أو المكائد العادية التي يمكن أن يُدبرها الصغار، لكن ما فعلته الفتاة الهادئة ليس كذلك؛ إذ لا تتطلب الأكذوبة الشيقة أو المكيدة العادية ترتيباً حكائياً حاضراً طوال الوقت من الأحداث الوهمية المفزعة .. تقوم الفتاة بما هو أكثر الاصطياد الشائع .. إنها تدفع بالآخرين نحو حياتها المخبوءة، أو تحاول أن تمتد بتلك الحياة من الظلام إلى الواقع، وهو ارتكاب لا ينبغي أن يكون مصطنعاً، أو مشروطاً بحاجة مباشرة مثلما حاولت العبارة الختامية أن تُؤكد .. إن جاهزيتها الدائمة، وقدرتها على الاستعمال الفوري للوقائع المختلفة في تخيل كوارث محكمة دليل على أن هناك بالفعل حياة غير مرئية تقود قراراتها .. هل تصلح معيشة الفتاة مع عمتها وزوجها ـ ليست هناك أي إشارة عن والديها في القصة وكان هذا جيداً جداً ـ هل تصلح كتفسير لتلك الحياة المخبوءة؟ .. ربما، وحينئذ ليس من الخطأ التعامل مع الحكايات المختلقة كأمنيات، كإعادة إنتاج انتقامية للواقع، ولكن بحرص بالغ على عدم تحويل الاحتمال إلى يقين.
في فيلم (The Open Doors) المأخوذ عن القصة بدا جلياً بشكل بائس مدى إيمان مخرجه (جيمس روجان) بدلالة السطر الأخير؛ إذ ـ فضلاً عن خطيئته الفادحة باستبدال الليل بالنهار ـ جعل (شارلوت ريتشي) التي أدت دور الفتاة تُنهي الفيلم بنظرة خبيثة، وابتسامة مقترنة بعضّة خفيفة للشفة السفلية .. الأثر التقليدي الذي يجب أن يظهر على وجه أي بنت صغيرة وضعت دبوساً في مقعد أو دهنت مقبض باب بالصمغ، لكنني ـ بعدما أنتهي من كتابة القصة دون العبارة الختامية لـ(مونرو) ـ كنت سأمنع (ريتشي) من الابتسام على الإطلاق .. بالطبع كنت سأمنعها من التجهم أيضاً، وكنت سأحرم عينيها من أي مكر، وكنت سأُبقي شفتها السفلية في مكانها .. كنت سأجعلها تنظر إلى الكاميرا بوجه محايد، فارغ من الانفعالات كفتاة انتهت للتو من حكاية عادية .. كنت سأجعل ملامحها تقول للجميع دون صوت: هذا هو عالمي الحقيقي، البديهي، وكان يجب أن تتأكدوا من وجوده بأنفسكم.
………………..
النافذة المفتوحة
هيكتور هيو مونرو
قالت فتاة هادئة في الخامسة عشرة من عمرها: عمتي ستحضر في الحال يا سيد ناتل، وفي هذه الأثناء عليك أن تكون صبورا معي.
وحاول فرامتون ناتل أن يقول الشيء المناسب ليعطي الفتاة ما تستحقه من الثناء دون أن يقلل من شأن عمتها التي ستحضر بعد قليل. وساوره الشك أكثر من أي وقت مضى في جدوى هذه الزيارات الرسمية التي يقوم بها لمنازل غرباء في معالجة أعصابه المرهقة.
كانت أخته قد قالت له عندما كان يعد العدة للسفر إلى هذا المنتجع الريفي: أعرف ما سيكون عليه الحال. سوف تدفن نفسك هناك ولن تتحدث إلى أحد. وستكون أعصابك في وضع أسوأ مما هي عليه الآن بسبب الكآبة. سأزودك برسائل تتعرف بوساطتها إلى جميع الناس الذين أعرفهم هناك. وكان بعضهم فيما أذكر أناسا طيبين جدا.
ولم يكن فرامتون على يقين من أن السيدة سابلتون التي سيقدم لها رسالة من أخته هي من فئة الناس الطيبين.
سألت الفتاة عندما أدركت أن فترة كافية مرت بما فيها من تبادل صامت للأفكار: هل تعرف أناسا كثيرين في هذه المنطقة؟
قال مرامتون: لا أعرف أحدا. كانت أختي تقيم هنا في بيت تابع للكنيسة قبل حوالي أربعة أعوام. وقد أعطتني رسائل أتعرف بوساطتها إلى بعض الناس هنا.
قال ذلك بنبرة تنم عن أسف شديد.
فقالت الفتاة الهادئة مواصلة الحديث: إذن أنت لا تعرف شيئا يذكر عن عمتي.
واعترف الزائر قائلا: أعرف اسمها وعنوانها فحسب. كان يتساءل في قرارة نفسه عما إذا كانت السيدة سابلتون من فئة المتزوجات أو فئة المترملات. ولكنه أحس أن في الحجرة شيئا غير محدد يوحي بأن رجلا يقيم في البيت.
قالت الفتاة: وقعت مأساتها الكبرى قبل ثلاثة أعوام – أي بعد إقامة أختك هنا.
رد فرامتون: مأساتها؟، مستغربا أن مأساة يمكن أن تقع في منطقة ريفية هادئة.
قالت الفتاة مشيرة إلى نافذة فرنسية الطراز مفتوحة تطل على مرج أخضر: ربما تستغرب أننا نبقي النافذة تلك مفتوحة على مصراعيها في مساء يوم من أيام شهر أكتوبر.
قال فرامتون: إنه يوم حار في مثل هذا الوقت من السنة. ولكن هل للنافذة علاقة بالمأساة؟
قالت الفتاة: في مثل هذا اليوم بالتحديد قبل ثلاثة أعوام خرج من هذه النافذة زوجها وأخواها الشابان في رحلة صيد. ولم يعودوا. لقد غرقوا جميعا في تلك البقعة الغادرة في ما كانوا يعبرون البراري باتجاه موقعهم المفضل للصيد. حدث ذلك في الصيف الذي هطلت فيه أمطار غزيرة, فجعلت الأراضي الآمنة غير آمنة على حين فجأة. ولم يعثر أحد على جثثهم بعد ذلك. وهذا أسوأ ما في الأمر.
هنا فقد صوت الفتاة نبرته الواثقة وأصبح أكثر حنانا. وتابعت قائلة: عمتي المسكينة تعتقد أنهم سيعودون في يوم من الأيام، ومعهم كلبهم الأسمر الصغير الذي كان بصحبتهم. ولهذا فهي تبقي النافذة مفتوحة كل مساء حتى يحل الظلام. لطالما روت لي عمتي الحبيبة المسكينة كيف خرجوا: زوجها بمعطفه الأبيض الواقي من المطر على ذراعه، وروني، أخوها الأصغر، وهو يغني: يا بيرتي لماذا تشاكسين؟ كما كان يفعل دائما عندما يريد أن يداعبها فقد كانت تقول إن الأغنية تثير أعصابها. ويغلب علي إحساس في مثل هذا المساء الهادئ أنهم سيعودون ويدخلون من هذا النافذة.
وتوقفت عن الحديث مرتعدة. وأحس فرامتون بالارتياح عندما دخلت العمة إلى الحجرة بفيض من الاعتذارات لتأخرها في الحضور.
قالت العمة: أرجو أن تكون فيرا قد وفرت لك بعض التسلية.
قال فرامتون: لقد كانت ظريفة جدا.
فقالت السيدة سابلتون بسرعة: أرجو أن لا تمانع في الإبقاء على النافذة مفتوحة، إذ سيعود زوجي وأخواي من رحلة صيد، وهم يعودون دائما من هنا. وقد خرجوا اليوم للصيد في البراري الطينية. ولا شك أن ذلك سيتسبب في اتساخ السجاد. هذا دأبكم أنتم معشر الرجال، أليس كذلك؟
وراحت تثرثر في مرح عن الصيد وعن ندرة الطيور والبط في الشتاء. وكان الأمر كله بالنسبة إلى فرامتون باعثا على فزع شديد. وحاول محاولة يائسة وغير ناجحة نجاحا كاملا أن يغير مجرى الحديث إلى موضوع أقل ترويعا. أدرك أن محدثته كانت تفرد له جزءا صغيرا من انتباهها، وكانت عيناها سارحتين على نحو متصل باتجاه النافذة المفتوحة والمرج الذي تطل عليه. لا ريب أنها كانت مصادفة غير سعيدة أن يقوم بالزيارة في هذه الذكرى السنوية الحزينة.
قال فرامتون: يجمع الأطباء على ضرورة أن آخذ قسطا كاملا من الراحة وأن أتجنب الإثارة الذهنية والتمارين البدنية العنيفة. كان فرامتون في قبضة الوهم المنتشر انتشارا واسعا بان الغرباء ومن يجتمع بهم المرء بطريق الصدفة حريصون على معرفة دقائق أمراضه وأوجاعه وأسبابها وعلاجها. وواصل فرامتون قائلا: أما فيما يخص الحمية فهم غير متفقين إلى الدرجة نفسها.
قالت السيدة سابلتون: لا؟ بصوت حل محل تثاؤب في آخر لحظة. بعد ذلك وعلى حين فجأة اشتد انتباهها، ولكن ليس لما كان يقوله فرامتون.
هتفت: ها هم جاءوا في آخر الأمر، في الوقت المناسب لتناول وجبة المساء. ألا يبدو أنهم ملوثون بالطين من إقدامهم وحتى رؤوسهم؟
ذعر فرامتون قليلا. والتفت إلى الفتاة في نظرة تنم عن شيء من التعاطف والفهم. كانت الفتاة تنظر إلى النافذة وقد بدا على وجهها رعب شديد. وفي هلع يمتنع عن الوصف استدار فرامتون بكرسيه ونظر في الاتجاه نفسه.
في الظلام المتعاظم في الخارج ظهر ثلاثة رجال يسيرون على المرج باتجاه النافذة. وكان كل واحد منهم يحمل بندقية صيد تحت إبطه. وكان واحد منهم يحمل معطفا أبيض على كتفيه. وكان كلب أسمر صغير يهرول على مقربة منهم. واقتربوا من البيت دون إحداث أي ضجيج. عندئذ انطلق صوت شاب أجش من قلب الظلام: قلت يا بيرتي لماذا تشاكسين؟
قبض فرامتون بقوة على عصاه وقبعته، وانطلق في لحظة عبر مدخل البيت والرصيف الحجري والبوابة الخارجية. واضطر راكب دراجة أن يصطدم بسياج ليتجنب الاصطدام به.
قال حامل المعطف الأبيض الواقي من المطر وهو يدخل من النافذة: ها قد عدنا يا عزيزتي ملوثين بالطين. ولكن معظم الطين جاف. من كان ذاك الرجل الذي انطلق خارجا عندما دخلنا؟
قالت السيدة سابلتون: رجل غريب الأطوار يدعى السيد ناتل. لا يحسن الحديث إلا عن أمراضه. وانطلق مسرعا دون كلمة وداع أو اعتذار عندما وصلتم. يخيل إلي أنه رأى شبحا من الأشباح.
قالت الفتاة في هدوء: أحسب أن السبب هو الكلب. لقد روى لي انه يخشى الكلاب. ففي إحدى المرات طاردته ثلة منهم إلى مقبرة على ضفاف نهر الغانج وتعين عليه أن يقضي تلك الليلة في قبر مفتوح بينما كانت الكلاب تنبح وتكشر وتزبد فوق رأسه على نحو يفقد أي امرئ أعصابه.
كانت تجيد عند الحاجة اصطناع قصص مثيرة دونما إبطاء.