استعادة الموت

استعادة الموت
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

يجمع (لويجي بيراندللو) في قصة (الحرب) بين مسافرين داخل قطار ـ المعادل الأكثر سطوة للقدر ـ لنتبين أنهم يمثلون حالات متباينة من علاقة الآباء بالحرب .. ينشأ جدل بين تلك النماذج حول امتلاك المصيبة الأفدح: الذي أخذت الحرب ابنه الوحيد أم الذي أخذت ولديه الاثنين .. لكن الأب الثالث يقتحم النقاش برؤية أخرى؛ إذ يقدم تبريراً للسعادة والرضى تجاه موت ابنه في الحرب .. يتلخص هذا التبرير في أن الإنسان إذا مات شاباً دون أن يعاني من قبح الحياة ومللها وتفاهتها، ومن مرارتها الناتجة عن خيبة الأمل فهذا جدير بالامتنان لله .. نكتشف هنا أن الآباء الذين أخذت الحرب أبناءهم لديهم استعداد تام للجوء إلى فكرة التضحية من أجل الوطن كحماية نفسية من ألم الفقد سواء كان مؤقتاً أو دائماً .. بدا الأب الثالث الذي مات ابنه كممثل لهذه الفكرة من خلال استعراضه للانفعالات التي أراد أن تُظهره كرجل قوي، يؤمن بما مات ابنه من أجله، لا يرتدي ملابس الحداد، ولديه القدرة على وصف السعادة التي شعر بها هذا الابن قبل الموت لأن حياته ستنتهي كما تمنى .. الأم التي ذهب ابنها الوحيد إلى الحرب ولم تجد ما يعزيها، استغرقت في حديث الأب المتماسك عن الابن الذي مات بطلاً من أجل وطنه دون ندم لتتحوّل مشاعرها معه من الحزن إلى سرور اشتد مع تهنئة المسافرين للأب الشجاع .. إن (بيراندللو) يؤكد العنف الساحر والقوة التأثيرية الباطشة للكلمات الكبرى مثل (التضحية من أجل الوطن)، و(البطولة)، و(الخلاص المبكر بشرف من قسوة الحياة) لدرجة أن الأم لم تجد في حديث الأب عزاءً فحسب بل أن الاستغراق ذهب بها إلى ما يشبه الغياب أو حلم اليقظة الذي خدّر شعورها السابق بالحسرة (خُيل إليها أنها قد دخلت فجأة عالماً لا عهد لها به) .. يصف (بيراندللو) عودة الوعي إلى الأم بـ (كأنها تستيقظ من حلم) .. كأن الكلمات الكبرى ليست أكثر من غيبوبة مبهجة لا يمكنها أن تمحو الألم بل بدا في هذه اللحظة أن استخدامها كتضليل له وهروب منه كان تعميقاً لبشاعته .. تواجه الأم بعد إفاقتها من سُكر الغناء عن الوطن الأب بالسؤال عارياً من الأوهام .. السؤال الصحيح الوحيد، الذي يجب تخليصه من كافة الألوان الزائفة: (إذاً فقد مات ابنك حقاً؟) .. انخرط الأب في العويل مع انهيار السدود التي حاول أن يبنيها من الوقاحة الخبيثة للغة، وتحطمت صلابته الظاهرية مع سؤال المرأة المتجرد من البطولة والتضحية وفداء الوطن وكل هذا الهراء الدنيء .. إن المرأة لم تكن تقصد إزالة الأوهام ـ رغم حدوث ما يشبه إفاقة مباغتة للأب تشبه استيقاظ الأم ـ وإنما كانت تستفسر عن مصير ابنها الذي أخذته الحرب .. رغم يقينها البديهي، كانت تتأكد من وجود شيء هناك اسمه الموت يمكنه حقاً أن يحرم البشر من بعضهم بعد أن وجدت دليلاً أمام عينيها على صحته لم ينجح تنكره في نهاية الأمر .. هذا هو موضوع المرأة .. حياتها بشكل أدق حيث لا يمكن أن تعنيها أي خرافات أخرى.

يجمع (لويجي بيراندللو) في قصة (الحرب) بين مسافرين داخل قطار ـ المعادل الأكثر سطوة للقدر ـ لنتبين أنهم يمثلون حالات متباينة من علاقة الآباء بالحرب .. ينشأ جدل بين تلك النماذج حول امتلاك المصيبة الأفدح: الذي أخذت الحرب ابنه الوحيد أم الذي أخذت ولديه الاثنين .. لكن الأب الثالث يقتحم النقاش برؤية أخرى؛ إذ يقدم تبريراً للسعادة والرضى تجاه موت ابنه في الحرب .. يتلخص هذا التبرير في أن الإنسان إذا مات شاباً دون أن يعاني من قبح الحياة ومللها وتفاهتها، ومن مرارتها الناتجة عن خيبة الأمل فهذا جدير بالامتنان لله .. نكتشف هنا أن الآباء الذين أخذت الحرب أبناءهم لديهم استعداد تام للجوء إلى فكرة التضحية من أجل الوطن كحماية نفسية من ألم الفقد سواء كان مؤقتاً أو دائماً .. بدا الأب الثالث الذي مات ابنه كممثل لهذه الفكرة من خلال استعراضه للانفعالات التي أراد أن تُظهره كرجل قوي، يؤمن بما مات ابنه من أجله، لا يرتدي ملابس الحداد، ولديه القدرة على وصف السعادة التي شعر بها هذا الابن قبل الموت لأن حياته ستنتهي كما تمنى .. الأم التي ذهب ابنها الوحيد إلى الحرب ولم تجد ما يعزيها، استغرقت في حديث الأب المتماسك عن الابن الذي مات بطلاً من أجل وطنه دون ندم لتتحوّل مشاعرها معه من الحزن إلى سرور اشتد مع تهنئة المسافرين للأب الشجاع .. إن (بيراندللو) يؤكد العنف الساحر والقوة التأثيرية الباطشة للكلمات الكبرى مثل (التضحية من أجل الوطن)، و(البطولة)، و(الخلاص المبكر بشرف من قسوة الحياة) لدرجة أن الأم لم تجد في حديث الأب عزاءً فحسب بل أن الاستغراق ذهب بها إلى ما يشبه الغياب أو حلم اليقظة الذي خدّر شعورها السابق بالحسرة (خُيل إليها أنها قد دخلت فجأة عالماً لا عهد لها به) .. يصف (بيراندللو) عودة الوعي إلى الأم بـ (كأنها تستيقظ من حلم) .. كأن الكلمات الكبرى ليست أكثر من غيبوبة مبهجة لا يمكنها أن تمحو الألم بل بدا في هذه اللحظة أن استخدامها كتضليل له وهروب منه كان تعميقاً لبشاعته .. تواجه الأم بعد إفاقتها من سُكر الغناء عن الوطن الأب بالسؤال عارياً من الأوهام .. السؤال الصحيح الوحيد، الذي يجب تخليصه من كافة الألوان الزائفة: (إذاً فقد مات ابنك حقاً؟) .. انخرط الأب في العويل مع انهيار السدود التي حاول أن يبنيها من الوقاحة الخبيثة للغة، وتحطمت صلابته الظاهرية مع سؤال المرأة المتجرد من البطولة والتضحية وفداء الوطن وكل هذا الهراء الدنيء .. إن المرأة لم تكن تقصد إزالة الأوهام ـ رغم حدوث ما يشبه إفاقة مباغتة للأب تشبه استيقاظ الأم ـ وإنما كانت تستفسر عن مصير ابنها الذي أخذته الحرب .. رغم يقينها البديهي، كانت تتأكد من وجود شيء هناك اسمه الموت يمكنه حقاً أن يحرم البشر من بعضهم بعد أن وجدت دليلاً أمام عينيها على صحته لم ينجح تنكره في نهاية الأمر .. هذا هو موضوع المرأة .. حياتها بشكل أدق حيث لا يمكن أن تعنيها أي خرافات أخرى.

يقارب (بيراندللو) الحرب بما يشبه (الزيادة الأيقونية) في استراتيجية الرسم؛ فكما تحدث (بول ريكور) في (نظرية التأويل)* يُعاد بناء الواقع على أساس أبجدية بصرية محدودة، وهذا ما يعطي التقليص والتصغير القدرة على منح الأكثر من خلال التناول للأقل .. كان القطار في قصة (الحرب) مسرحاً ملائماً لزيادة معنى العالم بالإمساك به في شبكة علاماته المختصرة، والتي تمثلت في استحضار حاملين لوجهات نظر مختلفة أو مواقف متعددة حول فقد الأبناء .. هذا الجهد الأساسي الذي شرحه (ريكور) في مقاومة الاتجاه التناقصي في الرؤية اليومية ـ صورة الظل عند أفلاطون ـ أراد (بيراندللو) بواسطته أن يخلق صورة نقية لمعنى الحرب منزوعة من تفسيرات السلطة .. التفسيرات التي تعتمد في تثبيت الإيمان بقداستها ـ مثل الرؤية العادية المقابلة للرسم ـ على تحييد الخصائص، وتعمية الحواف، وتظليل أوجه الفروق .. كأن الحرب تحوّل البشر إلى كتلة غائمة تتحرك نحو هدف واحد .. قطيع ضبابي يتماثل أفراده داخل قطار عليهم الاستسلام لمشيئته، وهذا ما يبرهن عليه استعدادهم للجوء إلى فكرة التضحية من أجل الوطن كحماية نفسية من ألم الفقد، ودهشتهم من انخراط الأب في العويل بفعل سؤال المرأة بعد حديثه الشجاع عن بطولة ابنه الميت.. تكدّس مخزّن من الأرواح المتعاقبة، التي لا ينبغي لها أن تمتلك إرادة مستقلة، وإنما يجب أن تتباهي بحقيقة أن الجدوى الأصلية لوجودها تكمن في انتظار موعد شحنها إلى أمعاء الوطن كي يبقى خالداً .. لكن (بيراندللو) يقاوم (التآكل البصري) لمشهد الحرب، ويعيد إلى البشر المرايا التي سُرقت منهم حتى يشاهد كل كائن موته الخاص .. الموت الذي أرادت الحرب أن يكون مطموساً، جزءاً من قربان جماعي، مبتوراً من ذاكرته الحقيقية.

* * *

*نظرية التأويل (الخطاب وفائض المعنى) / بول ريكور ـ ترجمة: سعيد الغانمي / المركز الثقافي العربي.

…………………….

الحرب

لويجي بيراندللو

كان على المسافرين من روما بقطارِ الليلِ السريع أن يتوقفوا حتى الفجر في محطة نابيانو الصغيرة ليستأنفوا رحلتهم في قطار محلي يربط الخط الرئيسي بـ”سلمونا“.

وبدت إحدى عربات الدرجة الثانية مزدحمةً ومليئةً بالدخان بعد أن قضى فيها خمسةُ أشخاص ليلتهم , وفي الفجر اندفعت إلى هذه العربة امرأةٌ ضخمةٌ في ثيابٍ سوداء , كحزمة لا شكل لها , وخلفها زوجُها يزفرُ ويئن , رجلٌ ضئيلُ الجسم نحيلٌ ومعتل , وجهه شاحبٌ شحوبَ الموت , وعيناه صغيرتان لا معتان , وفي حركاته خجلٌ وارتباك.

وبعد أن جلسَ في مقعده شكر المسافرين في أدب على مساعدتهم لزوجته, وإفساحهم مكانـًا لها , ثم استدار إلى المرأة وحاول أن يصلح من ياقةِ معطفها وهو يسألها في رقة:

كيف أنتِ يا عزيزتي؟

وبدلا من أن تجيبَ الزوجةُ جذبت ياقة معطفها ثانية حتى حازت عينيها لكي تخفي وجهها. وتمتم الزوجُ في ابتسامة حزينة :”عالم قذر!”.

وشعر أن من واجبه أن يشرح لمرافقيه في السفر أن زوجته تستحق الشفقة لأن الحربَ ستأخذ منها ابنَها الوحيد, وهو صبيٌ في العشرين من عمره , كرس له كلٌّ منهما حياتَه بأكملها , حتى إنهما تركا بيتهما في سلمونا وتبعاه إلى روما حيث ذهب يطلب العلم , ثم سمحا له بالتطوعِ في الحرب ظنا منهما أن السلطات لن ترسل به إلى الجبهة قبل ست شهور على الأقل. والآن تلقيا منه فجأةً برقية ينبئهما فيها أنه سيرحل في خلال أيام, ويطلب منهما الحضور لتوديعه.

وجلست المرأة تنتفض وتتلوى وتهمهم بين الحين والحين كالحيوان الجريح , كانت على ثقةٍ من أن هذا التفسير من جانب زوجها لن يثير عطفا في نفوس هؤلاء الناس الذين لا بد وأنهم يمرون بنفس المحنة التي تمر بها. وقال واحدٌ منهم كان يصغي باهتمام واضح:

اشكري الله لأن ابنك سيرحل اليوم. إن ابني سافر إلى الجبهة في أول يوم من أيام الحرب وقد عاد مرتين مجروحا , ثم أعيد من جديد إلى الجبهة.

وقال مسافرٌ آخر :

وماذا عني أنا ؟! إن لي ولدين في الجبهة , وأبناء أخي الثلاثة .

وتجرَّأ الزوجُ وقال:

قد يكون هذا صحيحا , ولكن في حالتنا إنه ابننا الوحيد.

وما الفرق؟! إنك تستطيع أن تفسدَ ابنَك الوحيد , بإغراقه بالاهتمام. ولكنك لا تستطيع أن تحبه أكثر من أبنائك الآخرين , إذا كان لك أبناء آخرون. إن الحب الأبوي ليس رغيفا يقسم إلى قطع توزع بالتساوي بين الأبناء, إن الأب يعطي كلَّ حبه لكلِّ واحد من أبنائه من غير تمييز , سواءً أكانوا واحدًا أم عشرة, وإن كنت إلى اليوم أقاسي من أجل اثنين من أبنائي , فلا يعني هذا أني أقاسي النصف من أجل كل واحد منهم , بل أنا في الواقع أقاسي الضعف.

وتنهَّد الزوجُ في ارتباك:

هذا صحيح…. ولكن افرض- لا أراكَ الله مكروهـًا- أن لوالدٍ ابنين في الجبهة , وفقد واحدًا منهما, ولكن بقي الثاني ليعزيه.. بينما..

وأجاب المسافرُ في غضب:

نعم ابن يعزيه , ابن يجب أن يعيشَ من أجله , بينما يستطيع الأب الذي يموت ابنه الوحيد أن يموت وراءه ويخلص من عذابه. أي الموقفين أسوأ؟ ألا ترى أن حالتي أسوأ من حالتك؟!

وقطع الحديثَ مسافرٌ آخر, رجلٌ بدين أحمرُ الوجه, بعينين رماديتين محمرتين قليلا :

كلام فارغ!

كان يلهث وفي عينيه البارزتين تبدو قوةٌ كامنة لحيوية لا يمكن السيطرة عليها , قوةٌ يكاد جسمه الضعيف يقصر عن احتوائها.

كلامٌ فارغ!

كرر الرجلُ هذه الكلمات وهو يغطي فمه بيده ليخفي سنتين مفقودتين في مقدمة فمه.

كلامٌ فارغ! وهل نعطي أولادنا الحياة لمصلحتنا الخاصة!

وفي حزن تطلع إليه بقيةُ المسافرين, وتنهدَ الرجلُ الذي ذهب ابنُه إلى الجبهة في أولِ يوم من أيام الحرب وقال:

أنت على حق , أولادنا ليسوا ملكـًا لنا, أولادنا ملك للوطن.

فأجاب الرجلُ البدين في سخرية:

هـا ! وهل نفكر في الوطن عندما نهب أولادنا الحياة! إن أولادنا يولدون لأنهم… لأنهم يجب أن يولدوا. وعندما يخرجون إلى الحياة يأخذون معهم حياتنا نحن , وهذه هي الحقيقة. نحن ملكٌ لهم وهم ليسوا ملكا لنا. وعندما يبلغ الواحدُ منهم العشرين من عمره يصبح مثل ما كنا عليه في سنه, كان لكلٍّ منا أبٌ وكانت له أمٌ , ولكن إلى جانب الأب والأم كانت هناك أشياء كثيرة تملأ حياتنا : البنات.. والسجائر .. والأفكار الخيالية.. ربطات العنق الجديدة.. والوطن طبعا.. الوطن الذي كنا سنجيب نداءه في سن العشرين حتى لو اعترض الأب واعترضت الأم. والآن , ونحن في هذه السن الكبيرة , حبنا لوطننا كبير , ولكن أكبرَ منه حبنُا لأولادنا , من منا لا يتمنى أن يأخذَ مكان ابنه في الجبهة لو استطاع؟ وساد السكونُ وأحنى كلٌّ من الموجودين رأسه دلالة على الموافقة , واستمر الرجل البدين في كلامه:

فلم لا نقدر عواطفَ أبنائنا وهم في سن العشرين؟ أليس من الطبيعي أن يكون حبُهم للوطن في هذه السن أعظمَ من حبهم لنا ؟ وأنا بالطبع أتكلم عن الأولاد المهذبين , أليس من الطبيعي أن يكون الأمر كذلك , وهم ينظرون إلينا نظرتهم إلى شيوخ ليس بوسعهم أن يتحركوا من مكانهم , ولا يملكون إلا أن يلزموا بيوتهم. وإذا كان الوطن موجودًا , وإذا كان ضرورة طبيعية , كالعيش لا بد لنا أن نأكل منه لكي لا نموت من الجوع , فلا بد إذًا من أن يذهب الناسُ للدفاع عنه , وأولادنا يذهبون وهم في العشرين.إنهم إن ماتوا يموتون في انفعال وسعادة . أنا أتكلم طبعـًا عن الأولاد المهذبين.

ودعنا الآن نزن الأمر , إذا مات الإنسان شابا سعيدًا , دون أن يعاني النواحي القبيحة في الحياة؛ ملل الحياة وتفاهتها , والمرارة الناتجة عن خيبة الأمل , فما الذي نريده خيرًا من ذلك؟ يجب على كلٍّ منا أن يجفف دموعه. يجب على كل منا أن يضحك كما أفعل أنا , أو على الأقل أن يشكر الله –كما أفعل أنا- لأن ابني قبل أن يموت أرسل إليَّ يقول إنه راضٍ سعيد لأن حياته ستنتهي خير نهاية كان يتمناها لنفسه. ولهذا لا ألبس ملابس الحداد كما ترون.

وهز معطفه الفاتح وكأنه يريهم لونه , وكانت شفته العليا ترتعش فوق أسنانه المفقودة , وعلى عينيه الجامدتين غشاء من دموع , ثم أنهى كلامه بضحكات رفيعة أشبه بالعويل. ووافق الجميع على كلامه. وكانت المرأة التي تكومت في ركن من الديوان , مختفيةً في طيات معطفها تجلسُ وتنصت. كانت هذه المرأة قد حاولت خلال الشهور الثلاثة السابقة أن تجدَ في كلام زوجها وأصدقائها شيئا يسري عنها حزنَها العميق , شيئا يريها كيف تستطيع أمٌّ أن تسلِّم بإرسال ابنها, لا إلى الموت بل حتى إلى خطر محتمل , ولكنها لم تجد بين الكلمات الكثيرة التي قيلت كلمةً واحدةً تعزيها , وتَضَاعف حزنُها حين حسبت أن إنسانا ما لا يشاركها مشاعرها.

ولكن الآن.. الآن نفذت كلماتُ المسافر إلى قلبها وأدهشتها , وأدركت فجأة أن الآخرين لم يكونوا مخطئين ولم يعجزوا عن فهمها, بل هي التي كانت مخطئة. هي التي لم تستطع أن تسموا إلى مستوى الآباء والأمهات الذين استطاعوا أن يسلموا دون أن يبكوا , يسلموا لا برحيل أبنائهم فحسب بل بموتهم. ورفعت رأسها , ومالت إلى الأمام تحاول أن تنصتَ باهتمام كبير إلى التفاصيل التي يرويها الرجلُ البدين عن ابنه , كيف مات , وكيف سقط كبطل من أجل ملكه ووطنه , سعيدًا وبلا ندم . وخيل إليها أنها قد دخلت فجأة عالما لا عهد لها به. واشتد سرورها حين بدأ المسافرون يهنئون الأب الشجاع الذي استطاع أن يتحدث عن موت ابنه برباطة جأش هكذا.

ثم فجأةً وكأنها لم تسمع شيئا مما قيل , وكأنها تستيقظ من حلم , فجأةً التفتت إلى الرجل البدين وسألته:

إذًا.. فقد مات ابنك حقـًا؟

وتطلع إليها الجميع واستدار الرجلُ البدين أيضـًا , ونظر إليها, وثبَّت في وجهها عينيه الكبيرتين المنبعجتين الرماديتين وقد كستهما طبقةٌ رقيقةٌ من الدموع. وحاول أن يجيب , ولكن الكلمات خانته ونظر إليها واستمر ينظر إليها , كما لو كان قد أدرك إذ ذاك فقط , بعد هذا السؤال الأحمق الخالي من الكياسة , أدرك فجأة .. وأخيرًا.. أن ابنه قد مات حقا , ذهب إلى الأبد دون رجعة , وتقلص وجهُه, وانقلبت ملامحُه بشكلٍ مخيف , ثم انتزعَ منديلا من جيبه في سرعة . وأثار دهشةَ الجميع حين انخرط في عويلٍ مؤلم يهزُّ القلوب , عويلٌ جارفٌ لا يمكن للإنسان أن يسيطرَ عليه.

مقالات من نفس القسم