فارس خضر
بعد ربع قرن أو يزيد، تبدو التجارب الناصعة فى قصيدة النثر حاليا، مجرد تنويعات شعرية على لحن أساسى. لا أقلل – هنا – من أصالة النصوص الجديدة، ولكنى أُعظِّم من تجربة جيل التسعينيات؛ صاحب الأثر الممتد حتى اللحظة الراهنة.
ولا أظن معيارا أصدق، فى قياس تأثيرات تيار شعرى ما، من أصداء تجاربه وحضوره الفذ فى الأجيال التالية له.. فكلما كان أثره واضحا وعميقا كان دليلا على أصالته، مما يعنى أنه حفر لأجيال بعده دروبا مدهشة من الشعر، كان عليهم أن يمروا بها ويكتشفوها بأنفسهم.. وهذا بالفعل ما قام به جيل التسعينيات، رغم ما عاناه من عسف، وما لقيه من انتقادات، وما تورط فيه من معارك.
وقبل سنوات بعيدة، وفى واحدة من تصريحاتى العنترية الرعناء، قلت إنه لا يوجد جيل اسمه التسعينيات. كنت أبحث وقتها بين تجارب هذا الجيل، عن تلك المشتركات الجمالية التى تربط قصائدهم، كتلك الروابط البنيوية والجمالية الواضحة فى قصائد جيل الستينيات وجيل السبعينيات أيضا، تحديدا تجربة شعراء «إضاءة 77»، لكننى كنت أفشل دائما فى الوصول إلى هذه المشتركات.
كانت تجربة جيل التسعينيات أمرا مختلفا، صحيح أنهم يكتبون قصيدة النثر، بسماتها المتعارف عليها حينها، لكن لكل شاعر صوته المفرد وطريقته الخاصة، حتى بدا لى – وكنت مخطئا – أنها لن تشكل تيارا شعريا، سيرسم فيما بعد ذلك الأثر الذى نراه.
بقى – إذن – حضور هذا الجيل، بينما اختفى أو كاد بريق جيلين شعريين؛ فالقصائد الجامحة للتجربة السبعينية ماتت بالسكتة الشعرية المفاجئة، وكأنها كانت قفزة فى الفراغ، أو بيانا مناهضا لأحلام القصيدة الستينية، بحمولتها السياسية الثقيلة، وانحيازاتها العروبية، وشوقها للنبى المخلص.
انتهى كل هذا الضجيج وبقيت تلك القصيدة النثرية، المتجردة من حمولات خارج الشعر؛ الزاهدة المتأنقة الرهيفة الوادعة الحادة العميقة الصادقة.
بقيت قصيدة النثر وما كانت تملك من مقومات الحياة سوى صدقها، فامتد خيطها السحرى فى التجارب الجديدة، واصلا الأجيال الشعرية ببعضها.
ولو عاد الزمن بهذا الجيل لما كتب القصيدة بيدٍ، وحرص على أن تكون اليد الأخرى قبضة ملاكم، يصد بها غباوات المنتقدين، وهجوم المدعين.. ولما خاض كل هذه المعارك الضارية، التى أهدرت كثيرا من طاقته الشعرية، وغلوشت على فرادة تجاربه ونصاعتها.. ولكان قال كلمته فى صمت.. لأن للشعر رباً يحميه.