لعْنةٌ سَقَطتْ مِن النّافِذة

لعنة سقطت من النافذة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمود خير الله

إهداء

ملابسها التي قطّعتها

لتكون ملابس داخلية لي

بُلتُ فيها،

جرعةُ السمِ التي أسقيتها

ـ طوال ثمانية وعشرين عاماً ـ

لم تُثْنِها عنِّي

يا أمِّي

ضعي هذه الجُمل على صدرك

فلأسبابٍ كثيرة

أكره “الصَّاغة”.

 

يضربُ.. كأنَّه يُغنِّي

الحسرةُ التي لا تؤاخذ نفسها أبداً

تجيء على غير توقّع،

تبدِّل جلدها في صورٍ كثيرة،

تظهرُ على خمرة خد

فيما شفاه تقبيل الخد

تقف بعيداً دونما رغبة،

أحياناً تنتشر الحسرة

في ساحة انتظار للسيارات

وتأخذ أسماء غريبة

“هيونداي”.. “بيجو”.. “كيا برايد”،

فيما ترتدي جلاليب قذرة

بين قبور الموتى

في واجب العزاء،

والحسرة ملغزة في آخر كل شهر،

كالجبانة التي تريد

“لكنه الحبل”.

في حسرتي الأولى

وقفتُ أمام “مَمح”

رفع قبضة قويةً إلى الجدار،

قابضاً ملابس طفل أنا داخلها،

دعَكني قليلاً بالحائط

فيما الناس يبتسمون،

رفعني أثقالاً مبدياً عضلة

فصرخ طرباً مناصروه المطيعون،

صِرت أكره الجدران التي تضغطني بقبضة “ممح”:

لا يجب أن تطيعه هي الأخرى

ليس إلهاً لتطيعه الجمادات والكائنات الحيّة،

 

ولأنني كرهتُ جدران البيوت القديمة

كثيراً ما سقطتُ خلفها،

سقطتُ ولم أعد أعرف

متى تنتهي حَسَراتُ العالم.

 

أكتشف وقوفي أمامه

كلما ذهبتُ إلى المدرسة

كان أبوه “بائع بطاطا”

يُقدم ثاني أوكسيد الكاربون السام

لعشراتِ التلاميذ

على أن يقبض قروشاً نظير ذلك

وولده

يُثَبِّت تلاميذ بصوتٍ جهوريّ،

أجري إلى العربة بآخر القروش

كي لا أفقد عظامي بعد قليلٍ

بين قبضتِهِ وجدرانِ بيت ما.

 

وفي البيت

تحت غطاءٍ متهالك لأمان أسري

وعبر نوافذ

أراقب:

يتحرك “ممح” إذا بدأت مباراة كرة،

يضرب أفخاذاً

ويحرك العالم بشهقةٍ من أنفه،

في السابعة صباحاً

يزعقُ بسباب موجه للون أبي

“يا إسماعيل يا أسود”

وأبي عدة آلهة تمشي على قدميْن،

يقف حزيناً على “العتبة”

إذا سبَه الصغار

ثم يرد تحيات ذويهم

بفُصحاه التي تُدخل الجنة،

فُصحاه التي تلوِّن الهواء الداخل والخارج بين شفتيه

بلون الأزهري الذي كانه منذ عقود.

 

وفيما احتفى الصغار وراء البيوت الآن

يتردد النداء:

“يا إسماعيل يا أَسْوَد”.

 

“أن تلعب فوق السطوح هو أن تلعب وحيداً”

قالتها أمي وهي تطعم الدجاجات

 

وسط مئات من “طوب أحمر”

معدَّة للبناء

قدّمتُ لطيف حبيبتي الأولى

بيتَ زوجية،

صانعاً مستقبلاً أصابعه نظيفة،

“السطوح”

هو السنوات التي عشتُها فوق الجميع

فيما يجري “ممح” أمام مُطيعيه

لسنواتٍ طويلة.

كأمها كانت حبيبتي الأولى

بيضاء كنبيةٍ

كلما ضايقها “ممح” وهي تعبر الشارع

أكون مختفياً وراء ثًقب

فرحاً لغياب قباحاته عني.

 الآن،

لم أعد أرى وجه “مَمَح”

غابت حسرتي القديمة

ولم أعد أفهم حسراتي الجديدة،

أطلق زوج أخته رصاصتين،

واحدة لها والأخرى لبائع البطاطا

 

هو نفسه غاب

مع جنودٍ أشداء رحَل إلى معسكرات الجحيم،

لكنه عاد كاشفاً في الجسد عن أكثر من مبرر

للهروب من المعسكر،

سجحاتٌ،

إطفاءات سجائر

كسورُ عظام.

لم يتركوه ينعم بهروب مجنون

عادوا مقتحمين الحمام

تابعوه طويلاً

نزَلَ بحراً وسبح

سَبحوا

وهم الآن يتابعون سباحتهم خلف ظل

كان اسمه

“أحمد مَمَح”.

 

يخرجون إلى الشوارع مُنكَفئين

كل صباح

يلومُ أصابعه التي

ألقت أقلاماً من شرفة المدرسة،

واقتنت المسامير،

ثم ظلَّت تحملها إلى البنايات في الأعالي،

فيما تهبط أصابعه فارغة

إلى منزل الزوجية.

كل صباحٍ

تُطالبه الزوجة بالجنيهات الأربعة،

فيصفعها نجار البنايات

المتزوج حديثاً من ابنة الخالة”،

وبعد أن يهبطَ السٌّلم

ينسى كسور آخر السلالم

فيخرج للشارع منكفئاً وتعيساً.

 

حدث هذا

في تسعة أعوام متصلة،

باستثناء أيام “الجُمع”،

التي كان ينزل فيها

متباطئاً إلى مسجد الشارع

بطفله الأكبر

وساقين مرهقتين جنسياً.

تسعة أعوام

كانت مُقدمةً ليموتً وحيداً

رغم أنه كان على الطريق،

وعلى “دراجة بخارية” لزميل عمل،

إلا أن عربة ضخمةً

ـ وبعد أن صرخت ـ

ضربتهما بقسوة

كانا ذاهبين لمتعة “الأفيون”.

 

الآن

أشلاءُ رجلين على جانبيْ الطريق

وكلٌ في حقل “برسيم”

يرعى أعوامه الثلاثين.

لم يعد لهما

أن يصعدا بنايةً بمسامير أصابع

صارت بنايتهما

رخيصةً

وواطئة

وبلا شبابيك…،

الآن

كبُر أبناؤهما بطريقة ما،

شرعوا في إلقاء أقلام من شُرفةٍ ما،

وفي الطريق إلى بناية سوف تُبْنى،

صادقوا خشباً على هيئة ألواح تسبح تحت الفجر

صاحبوا فرساً هزيلة جرَّحتها السياط

واشتركوا في سبّ الأمهات

قبل أن يخرجوا

مُنكفِئين إلى الشوارع.

 

إلى تُراب العالم

قلَّما أنِسوا إلى الغُرف الصغيرة،

وقفوا أمام الباب

ردوا تحيّات معروقين

واستسلموا،

قنِطوا،

خرجوا إلى بوَّابة الشارع

رسموا جميلاتٍ بدخان سجائر

ورووا حكاياتٍ صغيرة

عن تعاسات تحرّكت من الشبابيك الواطئة

إلى غرف النوم المجاورة

لبنات الجيران،

رووا غراميَّات شُجاعة

عن عاهراتٍ يسحبن أطفالهّنَ

إلى غرف مراهقين

كشرطٍ للتمومس،

صفَّروا بألسنة مقصوصة

ألحانَ تعاساتٍ عاطفية،

كانوا عمَّالاً في البنايات،

يرفعون أطناناً من الأسمنت والحجارة،

ويعودون بجنيهات للمقهى

وقروشٍ للسكر والسجائر،

 

قَنِطوا

لأن صاحبَ العمل يدفعهم لقُنوطٍ دائم:

شاربه الضخم

أبناؤه النظيفون

زوجته البيضاء التي أسموها

“العَجين”.

 

عضلاتهم وهي تصعد السلالم بالعبوات

تفرّ خارجةً

لتطلُبَ السماحة،

فيما تصرخ أكتافُهم تحت أحمال

ـ لا مزيد لدْينا..

مثقال تشاؤم ونصف

يعطيهم صاحب العمل،

يُقطِّب وهو يدفع

معتبراً أنه يدفع دماً

حينما يدفع فلوساً،

ويسبهم طوال النهار،

لذا قنطوا

خرجوا إلى بوابة الشارع

آملين في ردفين ناعمين يهتزان،

وحينما وصلا

صرخ أحدهم:

“أعطوني واحداً فقط

سأشقه بنفسي وأعمل

في أي خرابة مجاورة.

كانوا يائسين هذا المساء،

تحركوا لشارع

نساؤه يُرضِعن واقفاتٍ

أو نائمات على “العَتَبات”،

تمشوا قليلاً

فوجدوا طفلاً يحاول قضم حلمة هزيلة،

“نصوم مثلما يقال في الجوامع”،

قال أحدهم

فصاموا..

وصباح يوم عطلة

كان يجب أن يُشترى خُبزٌ

وعلى البلاطات نامت الأرغفة،

بلل صدر امرأة حناجرهم

ألقت ثديين عاريين في حملقاتهم،

وشرعت ترفع خبزها،

خُبزُها رفع

وخُبزُهم سقط

هي امرأةٌ لحيمةٌ

وهم محض عظام موثوقة في البنايات.

 

عادوا،

وفي بيوتهم مشت أجنة،

ممسوسةً بأصابعهم،

ومرميَّة على البلاطات،

البلاطات التي صعدت على أكتافهم للأعالي

تحمل أبناءهم الآن

إلى تُراب العالم.

 

ابتسمت لبرميلِ نِفْط

المسئول عن وقفتها

كل هذه السنوات

“داخل برواز”

في 19 شارع محمد عزب العرب

أبوها،

سعى حثيثاً لأهل العريس،

تودَد

تحايَلَ

متصوِّراً أنه قناص ماهر،

كان من الممكن

أن يرحل العريس

ولا يشتري فستاناً وردياً

ولا تقف هي أمام المُصوِّر العجوز،

الذي استحثها لتبتسم

وهي لا تعرف

أن ابتسامتها ستُجرح المطر

أمام عيون المارة

في شارع محمد عز العرب،

رغم أن حريقاً صغيراً

شبَّ في بولاق

التهمَ الفُستان الوردي،

ومياه ترعة قذرة

حركت الحذاء اللامع

حتى استقر أسفل كوبري “مُسْطُرُد”،

ابتسمت للمصور معتقدةً

أن العريس جاهزٌ

والضيوف أغبياء

والأب قناص ماهر.

لعلها استيقظت الآن

وهي تقف أمام مصلحة الأحوال المدنية

أنها كانت تستطيع

أن تتزوج حبيباً

وأن تبتسم بسعادةٍ للمصور العجوز،

لكي يفرح مطرٌ

ظل يسَّاقط أعواماً

فوق رؤوس المارة

مجروحاً بابتسامتها.

 

أحببتهن فصرن أمهات

يذهبن للأسواق

ويُضاجَعن،

يُرضِعن أطفالهن

ويعملن موظفات،

صرنَ كبيرات الأنوف ومُحجباتٍ

مُجدفاتٍ بعنفٍ إلى “الحرملك”،

ناسياتٍ ذكرياتٍ بعيدة

ودمعاتٍ على قمصاني الرَّخيصة،

حيث كُنّ آنساتٍ جداً

وأنوفهنّ صغيرة

…………

ليتني ما أحببتهنّ.

 

فاترينه

كلهم وقفن أمام الزجاج وتحسسن:

الحاملُ

ـ بقطع العرق المتسللة تحت الجبهة ـ

تحسست انتفاخاً،

المرأة ـ التي خلعت نظارتها الشمسية ـ

تحسست مؤخرةً،

الطفلةُ ـ بذباب حول الوجه ـ

بأسنانها ضَغطت شفتَها السُفلى.

 

الآن غضبا

لم تكفهما ابتسامات العيون

طالبيْن،

لم يكفهما ما ضحكاه وسط الأهل

مخطوبيْن،

الآن فقط

قررا أن يذوبا إلى الأبد كجسدين

………………

……………..

مر وقتٌ طويل

قبل أن يغلق أحدهما باباً ليدخِّن

ويُغلق الآخر باباً ليبكي.

 

نُزهة

ركَّبنا أجنحةً لدموعنا

وطيَّرنْاها بعيداً،

ربما هَبَطت ـ مرة ـ فوق حيّ نظيف،

هناك

لن تجدَ ما تغسله

فالناسُ مغتسلون باستمرار

وأجساد نسائهم مدهونةٌ بالكريم،

كنا أغبياء حين طيَّرنا دموعاً

كانت متعبةً معنا

واستطاعت هناك أن تستريح.

 

عينه التي تواطأت

جرٌّوه في الصباح من عينيه،

أخرجوهما من مِحجريْهما

واستخدموهما كعدستيْن،

بعد ثلاثين يوماً

حاسبوه على نصف أجر

لأن إحدى عينيه كانت مفقوءة

 

عاش الهلالُ مع الصَّليب

في الشارع

تلاواتٌ وتراتيل

في الشارع

مواسيرُ مجاري،

وصباح كل “أحد”

وكل “جمعة”

تصب المواسير ماء

في عرض الشارع

فتكون البرك

على هيئة صلبان وأهلة.

 

سأقولها نيابة عنكم

هُزمنا تحت سماءِ الله

وبين حقول قمحهم،

والجوعُ

يأكل مؤخراتنا بنَهمٍ

الآن

وفي كل مرة تُقرأ فيها هذه القصيدة.

…………….

*الطبعة الأولى، دار ميريت للنشر، 2001

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

بستاني