لص بغداد .. ما بين التهريج وفنّ التهريج

لص بغداد
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبد المنعم أديب

مع أصداء الحملة الإعلانيَّة الضخمة التي سبقت الفيلم علمنا أنَّه فيلم يعتمد على أبعاد حقيقيَّة وخياليَّة من قصة “الإسكندر الأكبر” لتكون لبنة لبناء دراميّ، يحمل سمت التشويق والمغامرات، وكثيرًا من الكوميديا. ثم ظهر الإعلان التشويقيّ للفيلم، ورُوِّج له ترويجًا بأنَّه قد شُوهد ملايين المرَّات في عدة ساعات فقط. ورغم الأخطاء الواضحة في الإعلان التشويقيّ، إلا أنَّ الخطأ قد يكون في الإعلان لا في الفيلم؛ قد تفعل ذلك إيمانًا بعدم صحة أن “فحوى الرسالة تتضح من عنوانها” في كل مرَّة. ولكنَّ فحوى الرسالة ساند المقولة التي تربِّينا عليها.

قد نناقش هذه التجربة من خلال وجوه عدة؛ لكنَّ أهمَّها هو طرح السؤال الذي قد يتبادر إلى ذهن المشاهد بعد انتهاء الفيلم: ما الذي أراد صُناع الفيلم من فيلمهم؟! ما الذي أرادوا تقديمه للسيد المشاهد؟! لعل هذا أهمّ سؤال في أيَّة صناعة -والسينما صناعة- ما الذي أريد تقديمه للمستهلك؟ .. هل أرادوا تقديم فيلم ذي دعامة تاريخيَّة ليصنعوا من خلالها -وباستغلالها- دراما؟ هل أرادوا أن يصنعوا منتجًا كوميديًّا مع وجود هذه الدعامة التاريخيَّة كمُبرر دراميّ؟ أم كان القصد صنع تجربة كوميديَّة هزليَّة “فارس” مقصود منها التهريج كقصد أوَّل ثم يأتي كل شيء بعده؟! .. وإذا اخترتَ أيَّ خيار فاعلمْ أن الإشكال الحقيقيّ أن الفيلم نفسه لمْ يخترْ أيَّ خيار منها إنَّما قدَّم كل هذا. والنقطة المحوريَّة التي يجب أن يعلمها السيد المشاهد هنا أنَّ كل اختيار من السوابق يفرض على العمل نمطًا معينًا، وإيقاعًا معينًا، وتمثيلاً مختلفًا. ولأنَّ الفيلم لمْ يختر شيئًا فقد خرج مزيجًا من كل هذا ومن غيره.

الفيلم يقوم -أو هكذا يقدمه مُوزِّعوه- على تنافس مجموعة من لصوص على كنز يُعتقد أنه لـ”الإسكندر الأكبر” يتمثَّل في مقبرة “الإسكندر”. ويظنُّ هؤلاء اللصوص أنَّه العمل الذي سيغنيهم إلى الأبد. وهؤلاء اللصوص على جهات؛ فهناك “محمد إمام” ومعه مساعد “محمد عبد الرحمن” وباحثة في التاريخ “ياسمين رئيس”، وهناك “فتحي عبد الوهاب” يعمل وحده، وهناك “أمينة خليل” وتعمل مع عصابة يرأسها “أحمد العوضي”. كلهم يبحثون عن مفاتيح منتشرة في بلاد عدة؛ ليفتحوا بها باب الكنز. ويكشف لنا الفيلم عن ملامح من تاريخهم، وعلاقتهم السابقة وكيف افترقوا وأصبحوا متنافسين. ويمضي الفيلم في طريقه ليكشف لنا أيَّ سبيل سيصل إليه المتنافسون؟

وهنا وبعد أن طرحنا ما يقدمه لنا صُناع الفيلم -كما أرادوا تقديمه، وهذا حقهم بصفتهم مُقدمي عمل- نأتي إلى مناقشته -وهذا حقنا بصفتنا مُتلقِّي العمل (مشاهدين) ونقطة الوصل بين العمل الفنيّ ومُتلقيه (نُقاد)- وكي لا ندخل في متاهات مناقشة الجزئيَّات فسنقتصر على أكبر ملامح العمل أو اختياراته.

الفيلم مقتبس من ثيمات أفلام غربيَّة، وهذا ليس عيبًا. والعجيب أنَّ به الكثير من عناصر صناعة الدراما. مثل: الخلفيَّة التاريخيَّة المُحرِّكة للأحداث، وخطوط متعددة تلتقي حول هدف واحد، وشخصيَّات مختلفة الأمزجة والأخلاق والتصرفات، بعضها رئيس وبعضها ثانويّ، وحدث رئيس مُوحِّد (البحث عن الكنز)، وأحداث فرعيَّة جانبيَّة (علاقات الشخصيات). كل هذه هي ما تُسمَّى في التنظير عوامل قيام “دراما”، وبناء عمل فنيّ. لكن ليس شرطًا أن تتوفَّر لديك العوامل والخامات لوجود كعكة لذيذة. فقد تتوفَّر هذه المكونات جميعا ويخرج العمل مُفكَّكًا بل مُهترئًا.

 

وهذا ما حدث في فيلمنا؛ فالبناء وكأنَّه عناصر كل عنصر وحده. وقد يذكرك بقول الفنان “سعيد صالح” في مسرحيَّة “العيال كبرت” عن سيارة والده: “هي سليمة .. بس كل حاجة لوحدها .. مستقلَّة بذاتها”. وإنْ كانت قولة “سعيد صالح” -وحدها- كانت قادرة على الإضحاك، وذات فاعليَّة أشدّ من فيلم “لص بغداد” كله. وقد ساد التفكك وضعف البناء كل الفيلم. ساعد على ذلك حوار في غاية الضعف، والاعتياديَّة، بل بعضه مستهلك تمامًا. حتى إنَّ المشاهد الأولى تحتوي على حوارات “كوميديَّة” لمْ يشكَّ مشاهد من سماعها مرارًا وتكرارًا من قبل. وكذلك استخدام أسلوب “اللازمة القوليَّة” عند “ياسمين رئيس” في غير توفيق. وكذلك استخدام “اللازمة الحركيَّة” المتمثِّلة في عملية فتح حقيبة الظهر لدى “محمد عبد الرحمن”. وإقحام الكوميديا في كل الأوقات مما حوَّل الفيلم من الكوميديا إلى التهريج إنْ أردنا الحقيقة. وكذلك بعض السذاجات التي تؤدي بنا إلى القول بأنَّ صانع الفيلم يمثِّل علينا، لا يمثِّل لنا. ومِمَّا سيتذكره المشاهد عن هذا -وهي كثيرة جدًّا- مشهد اتفاقهم على خطة الجريمة في وسط سوق مثلاً. ولعل هذا هو الفارق بين أن تقدم “فنّ التهريج” وبين أن تقدم لنا “تهريجًا”.

وما نلاحظه أنَّ كثيرًا من أفلامنا اليوم تكون سيئةً على صعيد الكتابة لكنَّ الإخراج يعمل على رتق الخروق المكتوبة، ومحاولة إحياء ما يمكن إحياؤه. لكنْ هل حدث هذا الأمر؟! الحقيقة لمْ يحدث. لقد كانت السمة الأهمّ للإخراج هي عدم الإتقان لأيّ شيء. ولعلَّ هذا ناتج على أننا لمْ نحدِّدْ ما الذي نفعله؟ وما الذي نريده من فعلنا؟

فعندما نتناول إخراج الحركة “الأكشن” نجد كثيرًا من المعارك الزائفة التي تأتينا من أيام السبعينات التي فيها يقع الشخص قبل أن يتلقى الضربة، وفيها كثير من الأناس المُخلصين في عملهم الذين يقفون في وضع ما بعد الضرب ثم يتلقون الضربة التي ستجعلهم على هذا الوضع، وفيها أوضاع للضرب غريبة وعجيبة، وفيها الأبطال تخرج من المعارك سالمة غانمة بدعاء الوالدين لهم. وقد اختار السيد المخرج أن يُفلت من تصوير كل المشاهد الصعبة؛ فمثلاً نجد موقفًا عصيبًا فيه البطل مقيَّد إلى كرسيّ، وعليه أن يفكَّ قيده بسكين صغيرة، وقد اختار المخرج أن يرينا لحظة أخرى لشخصية تجري في ممر، ثم عُدنا لنجد البطل قد تمكن -بمساعدة المخرج- أن يفكَّ قيده، والأعجب أنَّه أراد أن يسرق انتباه المشاهد عن هذا الفعل بأن وضع نكتة سخيفة لمْ تدارِ أيَّ شيء.

وفيها تصوير لا يمتُّ إلا عن استسهال بعيد. فقد اختار المخرج ألا يُظهر لنا شيئًا في معاركه إلا القليل السهل جدًّا. أمَّا المُعقَّد الصعب فنرى فقط نتيجته، أو يختار تصويره بتقنية تُسمَّى “Super Slow-mo” أيْ التصوير شديد البُطء لكي يتجنب ما يمثل صعوبة له. أو يستخدم “واير” أو حبال أعطت للممثلين أوضاعًا غريبة في مشاهدهم. وفي بعض المشاهد استخدم “الدوبلير” أو بديل الممثل للمشاهد الخطِرة منها أول الفيلم والبطل يقفز قفزات استعراضيَّة في الهواء مراتٍ والكثير يطلقون عليه النيران!! والأعجب أنَّ الإخراج هنا قد بدا متأثرًا بقمم من أفلام الحركة كالسلسلة الخارقة “جون ويك” وهنا يتضح لك أنْ ليس بالرغبة وحدها تُنجز الأمور.

وفي جانب إخراج مشاهد الخُدع التمثيليَّة هناك إيجابيَّة وهي خروج بعض اللقطات بشكل صحيح، وإنْ كان الفارق بين الممثلين (عنصر الحقيقة في الصورة) والرسوميات (عنصر الخدعة في الصورة) بيِّنًا جدًّا. وانظر إلى النيران مثلاً عندما دخلوا المقبرة مقارنةً بالممثلين. أمَّا السلبيات فقد تمثَّلتْ في كثير من الأخطاء في استخدام تقنيَّة “الشاشة الخضراء” في مشاهد المعبد، وفي مشهد الطائرة التي كانت في غاية الضعف، كما المشهد كله. حتى إنَّه مشهد لا أعرف كيف مرَّ على هيئة الإخراج كلها وتركوه على حاله.

فمثلاً جانب الإخراج الكوميديّ (وهو أحد أكبر أهداف الفيلم) كثيرًا من الحوارات الكوميديَّة كانت تمتاز ببُطءٍ في الإيقاع غريب. حتى إنَّ النكتة تفقد تأثيرها الذي في غالبه يتوقف تأثيره على إيقاع النكتة وطريقة قولها.

وهناك وسيلة استخدمها المخرج استخدامًا خرج عن حد التوفيق تمامًا. هي “الموسيقى” فقد أراد المخرج أن يزيد من قوة مشاهده بأن يعطي المشاهد جرعات زائدة من التأثير الخفيّ الذي تصنعه الموسيقى المصاحبة للتصوير -من وجهة نظره-، ولكي يسد ضعف الصورة -من وجهة نظري- لكن الأمر خرج في غرابة وعجب. فقد كانت الموسيقى زائدة عن الحد في غالب الأحيان، غير عدم مُلائمتها في كثير من المشاهد. مما جعل الأمر ينقلب على ضد هدفه. وما كان يبدو عنصر قوَّة بدا عنصر ضعف. وهناك ملحوظة لا بُدَّ من قولها أنَّ هذا الفيلم قد واجه أيضًا الكثير من مشاكل “هندسة الصوت”، وغالبها من مرحلة “الميكساج” أو “دمج الأصوات”.

وقد تفاوت أداء الممثلين فهناك مَن اجتهد كالعادة مثل “فتحي عبد الوهاب”، وهناك مَن لمْ يمتزْ أداؤه بما يجب أن يكون. وفي الفيلم سمة عامَّة -خاصة بطل الفيلم- هو “قلَّة اللياقة التمثيليَّة” مما يخرج الأداءات عن حيُوزها العاديَّة (طبعا لمْ نتطلع إلى إبداع) إلى حيُوز غريبة مُفتقرة لأداء اللحظة في أقل ما يتطلَّبه.

قد يقرأ السيد الكريم هذا ويقول أليس هناك من حسنٍ لنشيد به؟ .. وقد تنوب ذوقه عن المُجيب ليقول: إنَّ التناول الحقيقيّ غير التناول السلبيّ، وما يتناول النقد عملاً تناولاً حقيقيًّا إلا بهدف الارتقاء. فليس عيبًا أن يكون هناك منتج سيء، بل العيب أن يسود السوء على الجودة؛ حتى نفقد تمييزنا في طريق التذوق أصلاً. ولا بُدَّ أن نعرف أنّ خيطًا ليس رفيعًا يقف بين “فنّ التهريج” وبين “التهريج”.

مقالات من نفس القسم