في وسط دمشق صادفت مكتبة واسعة جدا فيها كتب ومجلات قديمة وأشرطة قديمة لفيروز ووديع الصافي وفهد بلان , اشتريت أعداد من الكرمل وابداع والمسرح العربي وأشرطة منوعة , ثم صعدنا جبل قاسيون نتفرج على دمشق من علو يكشف ميادينها وبناياتها الجميلة , أذكر أنني كنت أقرأ كل ظهيرة في رواية باولا لايزابيلالليندي لحين وصول كامل , أسمع صوت جرس الباب فأغلق الكتاب فورا ونخرج الى رحاب دمشق السارحة في متعة الحياة . الآن أتذكر فتختلط الذكريات مع الحلم والخيال , لكني لن أرى صديقي كامل مرة أخرى, رقم الهاتف الثابت في دمشق لا يرن , وكوباني ترقص الآن بعد تحررها من عصابات داعش , كوباني ترقص الدبكة الكردية وصديقي كامل بينهم بالتأكيد , يحارب ويرقص ويكتب الشعر بالعربي . رأيت كامل ذات ليلة ثرية جدا مليئة بحكايات غامضة كثيرة , سألته لماذا الأكراد حرروا مناطقهم والعرب عجزوا عن ذلك, قال كامل : لأن مسئوليها وضباطها الكبار يقاتلون في مقدمة الجبهات وليس من المكاتب, قلت له : صحيح .. أنت تديرون حياتكم من الميدان ونحن نديرها من المكاتب . . لهذا انتم تتقدمون ونحن نتراجع . أفقت من الحلم ,انا على يقين أن المشاهد المؤثرة للبنات والأولاد الأكراد في كوباني لن تغادر ذاكرتي .. حتى أزور كوباني .
مزاج الحكاية ….
لازال سؤالك يرن في أذني يا كامل الكوباني , لكن مزاج الحكاية بدأ يميل نحو شاعرية الشارع , ربما رقص وغناء على حالنا التي لاتسر , مزاج الكتابة يميل نحو حكاية جديدة ربما ممتعة ولذيذة عن تفاصيل حياة انتقلت نوعيا الى منطقة أخرى جديدة بعد ثورات الربيع العربي, قصيدة الحكاية حين تركت وقتي القديم يرعى مثل خروف في ذلك الشارع الغامض الواسع بين دمشق والقاهرة , ثم يرسل لي ذكريات جديدة , كي أنام على حكاياتها وموسيقاها , أقرأ قصصي على المارة مثل بائع متجول أعرض عليهم كل شيء عاريا مثل مسرحية صغيرة , قصة تبدأ بفتح صندوق أسراري وتنتهي بإغلاق صندوق أحلامي, أشعر معها أن روحي تفيض أحيانا على ضفاف أخرى تتناثر على شكل شظايا , تنشد لحياة هادئة مثل حديقة فارغة هجرها الجيران وذهبوا للتسوق أو الحرب أو التفحيط أو الارهاب , حياة مثل خلية نائمة لا تريد قواعد اشتباك مع أحد , أو حياة لا تصعدني مثل سلم نحو مآربها السخيفة , حياة هادئة مثل أرنب أيتها الحياة الناشفة التي يحسدوننا عليها , الان اكتب زهدي فيك , فيا أيها الأخوة الكفرة وأنتم تقتلون أحلام الناس لا تنسوا أنكم تقتلونها خوفا منها ودفاعا عن أرواحكم الارهابية , هذه الكوابيس والاسئلة تركض في كل الدروب التي أعبرها سارحا في معنى وجودي , في مكان ليس سوى قواعد اشتباك مريبة .
وقعت الواقعة ..
كانت الرحلة من الرياض الى دمشق ثم القاهرة ثم العودة للرياض , اوائل التسعينات كنت أرتب لحياة في مهب ريح موحية ركضت وراءها , أوقفتها, في تقاطع شارع غامض مابين دمشق والقاهرة , جلسنا على كرسي خشبي , مقابل بيتي أو ربما مقابل بيتها , قصصت عليها رؤيتي , كنت أدلك بجميع أصابع يدي اليمنى تلك المنطقة الصغيرة التي بين لحيتي وشفتي السفلى حين قلت لها بهدوء وبأسى عميق : وقعت الواقعة . كانت بجانبي شبه مستلقية نهضت بنصف جسدها وقالت بخوف : يا ساتر , قلت : لم أكن أتصور أن يحدث هذا , قالت : توتر حركة أصابع يدك لا تبشر بخير. وأنا خفت فعلا من ملاحظتها , قالت : ما لذي وقع , قلت لها : الواقعة التي لم أتصور ان تقع , قالت : تكلم لو سمحت , قلت لها : لأول مرة في حياتي منذ ولدت أزهد في الحياة وأتمنى أن أموت , استرخت فجأة ثم قالت بهدوء واستغراب وسخرية : وما سبب هذه الرغبة , قلت : بدون سبب واضح . مالت بوجهها وجسدها عني .. بصمت .. وأنا شعرت أنها استهانت بكلامي فحزنت حزنا عظيما .. ونمت مثل خروف كئيب .
موسيقا سلمية .. سلمية
.. وفي المساء كنت أغني في الظلام ، دون بهجة ، ومصحوبا بخوف شفيف ، لم أكن أستطيع التخلص من تلك الحالة الموسيقية ، لذلك قلت لها أريد أن أحبك هكذا بكل بساطة، بكلمات لم تقل حتى الآن ، وبنار لم تشتعل حتى الآن ، وبرسالة لم تصل من أحد.. ثم أنني غنيّت بكلمات غامضة. الظلام يلف الغرفة ، لا يهم إذا كان الظلام ظلامي أو ظلام الأغنية أو ظلام الخوف القديم الذي يربض في صدري. لكن الحجرة، هكذا بلا مقدمات ، …سقطت بجدرانها الو رقية على كلمات الأغنية ، في مشهد سينمائي مؤثر ، وأنا استسلمت لنوم أبدي ، موت مبكر ، محروماً من كل ذكرياتي ، ومنذ ذلك الوقت تركت عادة الغناء في الظلام. قررت الإفصاح عن مشاعري دائماً في الهواء الطلق , بطريقة سلمية ، أمام الناس، حتى لا أموت مرة أخرى ميتة مجانية ، بلا جماهير ، فلماذا أحبس أنفاسي وخوفي في صدري ، وأنا أشعر أن الكرة الأرضية، تسكن في صدري.
……….
الرياض 2015