أمه التي كانت ترى أن زواجه هو الشيء الذي سيصلح حاله، ويزيل عنه ما أصابه من هم وغم وعين.. كانت العقبة الصغيرة التي تواجهها أنه لا يعمل. لكنها ذات ليلة وهي قائمة لتصلي الفجر جاءتها الفكرة والبشارة حيث شعرت بسعادة وانشراح قلب وصدر لم تشعرها من قبل وهي تفكر في أمر زواجه.. فشعرت أن الإذن قد جاء.
وتوجهت لزميلة لها في العمل، وطلبت منها البحث لها عن عروس لـ”توتو”، وعندما استغربت صديقتها الطلب لكون ابنها عاطلا عن العمل ولا يملك صنعة أو شهادة حدثت مشادة رهيبة ظلت أم توتو تتحدث عنها لنهاية حياتها وكانت القطيعة بين السيدة و تلك الحاسدة الشريرة التي كانت تظنها زميلة عزيزة.
كانت “أم توتو” ترى أن ابنها عريس لقطة ولا ينقصه شيء ولا يعيبه عدم العمل، لأن على حد قولها “ناس كتير قاعدة في البيت ومش بتشتغل.. إبني مش عجبة يعني.. أنا معايا اللي يكفيني ويكفيه”.
لكنها فكرت كثيرا بعدما خذلتها زميلتها، واستشارت زوجها الذي سب ولعن وحلف بأغلظ الأيمان أنه لن يتدخل في ذلك الأمر أبدا..
ذهبت في زيارة لبيت ابن خالتها “عم صديق” الرجل الوحيد الذي تبقى من ريحة الحبايب كما كانت تقول عنه دائما بعدما رحلت أمها وخالتها.. هي التي تربت يتيمة الأم وعاشت بين أبيها وخالتها في بيت الجدة معززة مكرمة حتى نالت شهادتها في التمريض وجاءها الزوج الطيب السيد عبد الحميد الموظف الكبير في هيئة البريد.
لجأت الأم لـ”صديق”، ليجد عروسا مناسبة لابنها “توتو”.. وقالت إن معروفه هذا سيبقى معلقا في رقبتها وإنها لا تنسى أفضال خالتها وزوجها عليها..
وتحت ضغط عاطفة القرابة والمحبة بين السيدة وابن خالتها، وافق “صديق” وبدأ رحلته في البحث عن عروس مناسبة للغالي ابن الغالية كما كان يقول.
يتذكر “توتو” أيضا هذه الأيام العصيبة التي اضطر فيها في البداية ان يحشر مؤخرته الطرية في بنطلون جينز ويرتدي تيشيرت قطن بعدما أصر على عدم ارتداء قميص بياقة لأن جسده يتعرق بفعل التوتر والانفعال ومن الأفضل أن يرتدي تيشيرت قطني يمتص التوتر والعرق الغزير الذي يسيل من جسده رغم حلاوة الجو. ناولته أمه منديلا كبيرا من القماش تخيطه مخصوص عند جارة لهم ليحتمل عرق “توتو” وتوتره. زج بمنديل في جيبه واشتكي من ضيق البنطلون والجيب ثم مسك منديلا آخر وطواه في شكل مربع كبير وأمسك به في يده.
خرج من البيت للمرة الأولى منذ سنوات طويلة، حتى إن أمه من فرحتها انفلتت من عينها دمعة ولم تستطع أن تقاوم رغبتها في أن تزغرد فانطلقت منها زغرودة بترها صوت زوجها وهو يتمتم بأن عليه العوض ومنه العوض. قالها هكذا وهو يعبر بالقرب من باب الشقة، ويرى ملحمة عبور “توتو” للباب، قبل أان يشيح بوجهه في اشمئزاز وضيق ويواصل مضيه نحو حجرته حيث اعتاد أن يقضى ما تبقى من وقت بعد عودته من عمله وتناول الغداء وقبل نزوله لجلسة المقهى، حتى لا يضطر طوال اليوم أن تقع عينيه على ” خيبة الأمل التي تجلس في شرفة بيته لتذكره بالفشل والإحباط الذي ينغص عليه أيامه”. ذلك الولد “توفيق خايب الرجاء”.. “توتو” الابن المعجزة حبيب أمه.
قابل عمه “صديق” الذي كان في انتظاره عند مدخل العمارة.. خرج معه للشارع وفكر أن أبعاد الشارع تبدو مختلفة كثيرا من الشرفة.. وصلا للمقهى، وكانت تلك هي المرة الأولى التي يجلس فيها “توتو” على مقهى.. كان وقتها في السادسة والثلاثين.
وعندما سأله ابن خالة والدته عن مواصفات العروس التي يرغب فيها أجابه “توتو” بأنه يريد فتاة متكتمة ستصبح فيما بعد سيدة حاسمة قليلة الكلام، يتوقف قليلا وقد أعجب بنفسه عندما قال تلك الجملة، وحاول أن يتذكر في أي مسلسل وصلت لمسامعه كلمة حاسمة هذه، لكنه لم يتذكر ففضل العودة لشعوره بالإعجاب الخالص بذاته وأن الكلمة أصيلة من تفكيره هو.. قنوعة وليست ذات عين فارغة، تمنى أيضا أن تكون جميلة بشعر فاتح حتى لو مصبوغ، وطبعا تعمل ولها دخل يمكنه أن يسنده في مواجهة المعيشة ومسؤولية الزواج، أن تسانده وتقف بجواره هو الذي لم يعمل بعد ويمر بضائقة مالية حتى يجد المشروع المناسب الذي يستحق أن يعمل به ويناسب مواهبه ومقامه.
يتذكر “توتو” تلك الذكريات السعيدة، حين كان يقابل عمه “صديق” كل يوم تقريبا.. حيث يصحبه الرجل من أمام البيت ويتجهان للمقهى القريب، حيث يقدم له النادل الشاي بالحليب ويشتري له قريبه السميط المقرمش الذي لا يجد مثله في أي مكان ويطلب “توتو” معه ثلاث بيضات ليبلع الشاي والسميط كما كان يقول لعمه “صديق” ثم يطلب المياه الغازية والسحلب ويتحدث مع الرجل عن أفكاره في الزوجة التي يجب أن تكون لها “نفس” والدته وسرعتها في إعداد الطعام.
في اليوم الثالث، تمرد “توتو” على البنطال الجينز الذي اشترته له أمه خصيصا لمهمة البحث عن عروسة وارتدي بنطلون البيجامة الرياضي ذو الخط الأبيض من الجانبين وقال لأمه إنه لا يحتمل أن يتقيد ويقدم تنازلات لأجل أي شيء في الدنيا.
وكالعادة اقتنعت الأم بكلماته، ودعت له بأن يحفظه الله ويبعد عنه عين الأشرار والحاسدين.
عندما قابل “توتو” عمه “صديق” في ذلك اليوم، بدا متوترا ومرتابا وبعد إلحاح، أسر لقريبه وهو يلتهم السميطة السادسة والبيضة الرابعة إنه في مزاج سيئ لم يسمح له بالنوم أو التركيز في تناول طعام الإفطار والغداء حتى إنه لم يطلب من أمه أن تعيد ملء أطباق الأرز والخضروات سوى مرتين فقط.. فزع الرجل وفكر في كمية الطعام الهائلة التي يلتهمها “توتو” وكادت أن تفلت منه ابتسامه لكنه أمسكها واستبدلها بنظرة قلق وتعاطف زائفة.
كان الرجل طوال علاقته بعائلة ابنة خالته لم ير”توتو” سوى مرات قليلة.. كان حمدي ووالده هما من يحضران كل مناسبات وواجبات العائلة، بينما يجيء ذكر “توتو” على هامش الأمور والتعلل دائما بعدم وجوده لظرف ما.
في الأيام التي تعامل فيها “صديق” معه، عرف بشكل مباشر أنه فاشل وخايب الرجاء، لكنه لم يستطع الانسحاب لأنه وعد ابنة خالته بأن يجد عروسا مناسبة لابنها.
كان الشيء الذي أرق “توتو” في ذلك اليوم، هو المسؤولية. اقترب من وجه الرجل حتى لفح أنفاسه برائحة السمسم الموجود على وش السميط ورائحة البيض وقال له “مش عارف هقدر على مسؤولية الجواز ازاي؟! بيت فيه ست عايزة تاكل وتشرب وتمارس لامؤاخذة الموضوع اللي انت عارفة، وتصور بقى لو حملت، دي حاجة مقلقة جدا مسؤولية عيل، كل ده قعدت افكر فيه”. ختم كلامه بأن ابتعد بأنفاسه عن وجه الرجل وقال “ربنا يعديها على خير يا عم صديق”.
لم يعرف الرجل بما يجيبه، لكنه تذكر وجه ابنة خالته وتوسلاتها له فبلع لسانه، ونظر له تلك النظرة الزائفة الجوفاء التي تقول له “عندك حق.. أنا أشعر بمشكلتك وهي كبيرة ومخيفة فعلا”.
صمت “صديق” ونظرات التعاطف الزائفة التي ملأ بها جلساته مع “توتو” جعلته يفكر بأن حظه كان سيكون أفضل ألف مرة لو تزوجت أمه ذلك الرجل. جلس أياما يتخيل كيف ستبدو حياته لو كان “صديق” أبوه، بدلا من ذلك الرجل الذي يحبس نفسه في حجرته معظم الوقت ولا يشاركه أيًّا من اهتماماته أو يطمئن عليه، يفكر للحظه أنه يعرف أنه ليس لديه اهتمامات معينة يمكن لوالده أن يشاركه فيها.. لكنه يعرف أن لو كان “صديق” والده لكان حاله غير الحال وكان سيكون لهما قطعا اهتمامات مشتركة، ويفكر أن الجلوس بالمقهي لتناول السميط والبيض والشاي والسحلب بينما يتحدثان عن مستقبله هي أمور واهتمامات مشتركة.. شعر بامتنان شديد وحب للرجل.
“صديق” بدوره كان قد أصيب بالملل، وشعر بالفخ الذي سقط فيه.. فبعد عودته من المدرسة حيث يعمل إخصائيا اجتماعيا، وبدلا من أن يرتاح قليلا ويجلس مع زوجته يشرب الشاي قبل ذهابه لعمله الثاني بمحل البقالة حيث يدير حسابات محل قريب من البيت، صار يأكل سريعا وينزل ليقابل “توتو” ثم يغادره لعمله الثاني ولا يرى زوجته هي السيدة الكادحة التي تشيل البيت على ضهرها وتعتني به وبابنتهما الوحيدة التي أوشكت على الانتهاء من دراسة الصيدلة.
ضاق “صديق” بالأمر كله وقرر أن يسرع في إنهائه ليعود لحياته الطبيعية.
توسط له أولا عند زميلة له في المدرسة لديها بنت في سن مناسبة وتعمل مدرسة في حضانة أطفال. سعدت أم توتو بالخبر، وفضلت أن يذهب “صديق” معه في اللقاء الأول وتروح هي فيما بعد إذا حدث قبول.. الموعد كان يوم أحد “إجازة ابن الخالة من محلات البقالة”. نهض من نومه بعد الغداء وبدلا من أن يستريح قليلا في البيت ويأتنس بزوجته، هرول للقاء “توتو” للحاق بموعد العروس.
وسط ترحيب أهل العروس، وأطباق الكيك والملبس والعصير، يجلس “توتو” قبالة الأم، بتي شيرت قطن وبنطلون البيجامة الرياضي ذي الخط الأبيض في كل جانب ويسألها عن طبيعة إدارتها للبيت، عن دخل زوجها، والمبلغ الذي تحتاجه للنفقات، وهل لديها بند للترفيه كالذهاب لا سمح الله للسينما أو لمحل نتف الشعر والزينة الفارغة كما يسمي صالونات التجميل، يعتصرها بالأسئلة ويحاورها كأنه امتحان قبول في وظيفة.. يرمق العروس بنظرة خفية ولا يبادلها سوى كلمات قليلة وربما إيماءة من رأسه أو شبح ابتسامة.. ثم ينتقل للوالد وينظر نحوه بعبوس ولا يجد ما يقوله له.
في تلك الأثناء يكون “توتو” قد أتى على أطباق الحلويات والكعك أمامه، وسحب طبق عمه صديق وطبق العروس وأمها وأبيها.
ووسط نظرات لوم وتأنيب من جانب الزميلة، ولسان حالها يقول “كده يا أستاذ صديق تبهدلنا كده؟!”
ينتفض واقفا ويمد يده لوالد العروس، ويقول “معرفة خير إن شاء الله يا جماعة”، ودون أن يوجه كلمة واحدة للأم أو ينظر للعروس.. يضع يده في يد الرجل ويجره نحو الباب وهو في قمة الدهشة والإحراج.
كان يفعل ذلك بتمرس.. يهاجم الفريسة ويأكل أطباق الحلوى ويغادر دون أن يرمش له جفن، ولا يقدر أحد على رد الضربة له بفعل المفاجآة أو الصدمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فصل من رواية “سيرة توفيق الشهير بتوتو” ـ تصدر قريبًا عن بتانة