“لا يكف عن الضحك” رواية تكتب سيرة الألم

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد رجب شلتوت

   رشا عبادة قاصة وصحافية مصرية تبلورت تجربتها الأدبية عبر مجموعات قصصية قصيرة عُرفت بتكثيفها الوجداني، واشتغالها على مناطق الصمت والهشاشة في التجربة النسوية. ومنها “حواديت نصف فارغة”، “على يد مأذون”، “ما فعلته خايبة الرجا”، لكنها في روايتها الأولى “لا يكف عن الضحك” (دار بتانة، القاهرة، 2024)، تخطو إلى فضاء سردي أكثر اتساعًا وعمقًا، مقدمة عملًا مشبعًا بالألم الشخصي المغلّف بحس تهكمي مرّ. الرواية تكتب الذات الجريحة من قلب التجربة، لا من مسافة نقدية، وتسائل مؤسسة الأمومة من داخل محنتها اليومية، لا من خارجها.

   العنوان كقناع:

   يأتي العنوان شديد الدلالة: “لا يكف عن الضحك”، وكأنّه إشارة إلى الضحك بوصفه قناعًا للألم، وسخرية مرة على واقع لا يُطاق. شادي نفسه، رغم حالته، يمثل هذا التناقض: ضحك مفاجئ في قلب نوبة، ابتسامة في غير موضعها، أو حتى رغبة في اللعب وسط انهيار عام. الضحك في الرواية ليس فرحًا بل مقاومة جسدية أخيرة قبل الاستسلام.

الجرح من غير تمهيد

تفتتح رشا عبادة روايتها بجملة بسيطة الشكل، عميقة المفعول: “لم يكن مقدرًا أن أنسى المفتاح.” جملة تفتح الباب (أو تغلقه) على كل شيء، لا لأنها تحمل حدثًا فعليًا، بل لأنها تُعلن من اللحظة الأولى أن السرد ينبني على صدفة قاتلة أو خطأ صغير يتحول إلى فاجعة. هكذا، دون تمهيد، يُلقى القارئ في أتون الكارثة: ارتطام رأس الأم، سقوطها، ارتباك الابن “شادي”، تلعثم الأب أو الحفيد في نطق “تيتا”، وهي مفردة محلية/عائلية حميمة، تُواجه هنا نهاية محتمَلة.

من الفقرة الأولى، نُفاجأ بانكشاف الجرح المركزي للرواية: أمٌ تنهار في لحظة خاطفة. ابن يعاني خللًا ذهنيًا يظهر في ارتباكه وردود فعله غير النمطية. راوية مدفوعة إلى تأنيب الذات، تتساءل إن كانت “غلطة المفتاح” هي سبب السقوط والانهيار.

   هذه البداية توظف أدوات عدة بمهارة: السرعة المفاجئة في الانتقال من تفصيل عادي (نسيان المفتاح) إلى مأساة. الاقتصاد اللغوي الذي لا يشرح، بل يفتح فضاء التأويل. الدخول من الخاص جدًا، دون مقدمات، إلى تجربة الألم والارتباك والفقد، مما يُشرك القارئ عاطفيًا منذ اللحظة الأولى.

بنية رباعية وموسيقى داخلية:

الرواية تُروى على لسان راوية شبه مفردة، ليست عليمة بكل شيء، بل شاهدة متورطة، تتحدث من موقع الشخص المنكوب الذي لا يمتلك تصورًا شاملًا، بل يلتقط العالم من خلال عدسة شخصية، مشوشة، وذاتية بامتياز. هذا الخيار السردي يُعزز من تجربة التماهي مع القارئ، إذ لا يُقدَّم لنا عالم الرواية بصفته موضوعًا محايدًا، بل كحالة شعورية متغيرة.

أما الزمن، فهو ليس زمنًا خطيًا، بل زمن نفسي داخلي، تحركه الذكريات، أو الروائح، أو الأصوات، أو لحظة ارتطام بجسد الأم أو نظرة من شادي. تتدفق الحكاية مثل هذيان طويل، أو حلم محموم، حيث لا توجد بداية واضحة أو نهاية حاسمة، بل تموّج مستمر داخل الذات.

الحبكة وتوليد المعنى من الداخل

الحبكة لا تُبنى على تطور درامي خارجي، بل على تصعيد شعوري داخلي. ليست هناك أحداث كبرى تحرك الرواية، بل تراكمات صغيرة، كأن الرواية تكتب من ثقوب القلب لا من أحداث العالم. كل فعل هو استجابة لحالة شعورية، وكل موقف هو محاولة للنجاة لا أكثر.

  هذا وتتّسم رواية “لا يكف عن الضحك” ببنية سردية فريدة، تنأى عن الترقيم التقليدي للفصول، وتنتظم في أربعة أقسام متتالية، يفتتح كل منها بمقولة مُستعارة تمثل “عتبة نصية” تمنح القارئ مفتاحًا رمزيًا لفهم التحوّلات الوجدانية والسردية داخل القسم. تبدأ الرواية باقتباس من جراهام جرين عن اكتشاف زوايا القلب عبر المعاناة، وهو ما يشير منذ البداية إلى مسار الراوية مي، التي لا تكتشف ذاتها إلا من خلال المعاناة، فتتكشف كذات منشطرة على هيئة ثلاثية: الأم المحتضَرة، الابن المصاب بالتوحد، والراوية الموجوعة في قسوة علاقة زواج مهددة.

يتدرج البناء الرباعي بمقولات تتوالى من جرين إلى ديستويفسكي، ثم إلى الكاتبة نفسها، وأخيرًا إلى مقولة مجهولة المصدر، وكأن السرد ينتقل من التلقي الفلسفي إلى التعبير الذاتي ثم إلى انفتاح على حكمة جماعية. وهذا الانتقال يُذكّرنا بما يُعرف في الموسيقى الكلاسيكية بالبنية الرباعية للحركة: مقدمة – تمهيد – ذروة – خفوت/نهاية. فالقسم الأول يحمل التأسيس الصادم للتجربة، والثاني يفتح أملًا عبر شخصية “وسام”، والثالث ينكفئ نحو المرايا النفسية والتأمل الذاتي، والرابع يختم بمحاولة الترجمة والتواصل، لا الانغلاق.

هذا البناء لا يعكس فقط نمو الحكاية، بل تطور الذات داخل الألم. ومع أنه ليس بناءً تقليديًا من حيث العقدة والحل، إلا أنه يتسق مع البنية النفسية لشخصية مي، المتشظية والمعلقة بين الأمومة والفقد والخيانة والرغبة في الخلاص. يكتمل ذلك بالراوية التي ليست عليمة، بل شاهدة مأزومة، ترى العالم من شقوق قلبها، وتخوض تجربتها في حاضر مائع، لا يسير إلى الأمام بل يدور حول ذاته، كما في الزمان النفسي الذي تحكمه الذاكرة والرائحة والنظرة والارتطام لا الساعة والتقويم.

بهذا، تصبح الرواية أقرب إلى رباعية شعورية منها إلى رواية بنائية تقليدية، ويغدو كل قسم بمثابة حركة موسيقية داخل سيمفونية الألم، يعلو فيها صوت شادي، ويخفت، ينهار جسد الأم، ثم يُستعاد في الذاكرة، تُغلق الأبواب على المأساة، ثم يُفتَح باب صغير للبوح أو النجاة، وكأن الكتابة نفسها فعل مقاومة لهذا الانهيار الكامل.

 سردية التمزق ولغة الارتطام الداخلي

  أسلوب الرواية يتميّز بلغة شعرية مشحونة، تنزلق بين التداعي الحسي والانفجار العاطفي. تعتمد الكاتبة على التقطيع الزمني والفضاء المتشظي، وعلى لسان راوٍ/راوية تتنقل بين الهامش والمركز، بين الذكريات والمستشفيات، بين الهزل والموت،  والرواية مكتوبة بروح مونولوجية متوترة، تستعير كثيرًا من تقنيات “كتابة الجسد” و”الحكي النسوي”، حيث الجسد الأنثوي المتألم والمقموع يحتل مركز المشهد. تتحول اللغة إلى صراخ داخلي، تارة عبر الحوارات المتقطعة، وتارة عبر الرسائل، وتارة عبر التداعيات التي تبدو أحيانًا كأنها صفحات ممزقة من دفتر سرّي.

  وشخصية “شادي”، الابن المريض، هي إحدى أبرز نقاط التوتر في الرواية. يظهر بوصفه صوتًا داخليًا هشًا، لكنه مستمر ومُلِحّ. ليس مجرد خلفية، بل جرحًا نازفًا يلازم البطلة في يقظتها ومنامها. شادي ليس مريضًا فقط، بل هو تمثيل لثنائية مؤلمة: طفولة لا تنمو، وذكورة لا تتبلور، ووجود محاصر لا يجد من ينصت له.

  شادي، في هذه الرواية، ليس فقط شخصية درامية، بل مفهوم وجودي؛ هو تمثيل للإنسان المختلف، المهمّش، الخارج عن نموذج “الابن المثالي”، والذي تتعامل معه الدولة والمجتمع بوصفه عبئًا، لا حياة. والأم هنا، الراوية، لا تملك سوى الحكي وسيلة لحمايته، سرد حياته كفعل مقاومة، كمحاولة لأن يُرى ويُسمع ويُعترف به.

بين الحضور الأسطوري والانكسار اليومي

   تظهر الأم في الرواية ككائن مركزي، ليس فقط في حياة البطلة وإنما في بنية المعنى نفسها. هي ليست مجرد شخصية، بل “ذاكرة متحركة”، تتحول إلى رمز مزدوج: من جهة، هي الحنان المقموع، والملاذ الذي لا يُنال. ومن جهة أخرى، هي الذات المتألمة، التي تفقد السيطرة وتُختزل إلى كائن هش، تتدهور صحته في سلسلة لا تنتهي من الإجراءات الطبية والمستشفيات.

هذه الصورة تجسّد المرأة بوصفها ضحية مزدوجة: للمرض، وللنظام الطبي/الاجتماعي الذي لا يرحم. عبر صورة الأم، تفتح الرواية سؤالاً ثقافيًا عن موقع المرأة في المجتمع المصري، وعن كيف تُختزل إلى وظيفة الرعاية حتى وهي تتلاشى جسديًا.

 الوجه الآخر للألم

الرواية، على الرغم من سوداويتها الظاهرة، تختزن مقاومة خفية، تتجلى في القدرة على قول الحكاية رغم الألم. لا تكمن البطولة في الخلاص، بل في القدرة على رؤية الحياة رغم القبح، واستمرار الحكي رغم الصمت،  والضحك، بهذا المعنى، يتحول إلى فعل ثقافي مضاد، إلى تمرّد ناعم على السلطة الطبية، والسلطة الاجتماعية، والقدرية التي تطغى على أفق الحياة. شخصية “شادي” ليست فقط صدى لصوت بطولي، بل هي جزء من مسرح إنساني مأساوي، يقاوم النسيان بالاستذكار، والموت بالحكي، واليأس بالابتسام الهزلي. ومن اللافت أن الضحك، الذي يظهر في العنوان، يُستخدم بوصفه بنية جمالية ناقضة؛ فهو ليس ضحكًا مسموعًا، بل ضحكًا داخليًا يفضح التمزق، وربما هو محاولة ساخرة لقول ما لا يُقال، أو لحماية الذات من الانهيار.

    وأخيرا فإن رواية “لا يكف عن الضحك” تصرخ من الألم، لكنها تفعل ذلك بهمس ناعم، ضاحك، موجوع. تستخدم رشا عبادة الجماليات السردية لتقويض البنى الثقافية التي تُخفي هشاشة الإنسان خلف ابتسامات زائفة وشعارات روتينية. إنها رواية الضعف الإنساني الذي لا يتوارى، رواية عن أمومة لا تُكافأ، وعن ذاكرة لا تُصفَح، وعن مرض لا يُشفى.

 

مقالات من نفس القسم