نهى محمود
هذه رواية تنساب من فواصلها موسيقى جاز ناعمة، ربما تعزفها أم حورية وتشوكا، أو حورية نفسها وهي تخطف لحظة قصيرة لنفسها مع ساكسفون أمها، قبل أن تتداخل معها من غرفة مجاورة نقرات بيانو الطبيب الرومانسي.
رواية تدور في فضاء مكاني رغم كونه محدداً “الإسكندرية” إلا انه غائم.
قطعة من البازل الحلم الكبير الذي يحياه كل الأبطال في الرواية، ويتحدثوا عنه لبعضهم أو لأنفسهم.
المكان / الحلم.. الإسكندرية التي نحبها هي ذلك الإحساس بالخفة ورائحة البحر وصوت رذاذ المطر، والوحدة الاختيارية المحببة، والذوبان وسط البشر وزحامهم.
هي نفس الأماكن التي تطأها اقدام الحياري والمتعبين يؤنسهم البحر على الكورنيش من ستانلي للقلعة، ذلك القوس تحديدا، غوصا في محطة الرمل، المرورعبره والاحتماء بالسور القصير للبحر.. تلك الرقعة يمكنها رتق اي حيرة وتفهم اي حزن ربما احتواءه دون تدخل منها، فلاتفسد الحزن لكنها تجعله لطيفا محتملا.
هل كان أبطال الحكاية المارين بتلك الأماكن باحثين عن الحب والصدفة الحلوة، فارين من الفقد والحزن والمخاوف المحتملة والبعيدة في الوقت ذاته!
فلسفة تشوكا، المصور الشاب التجوال الذي تحبه الكاميرا وتقولها له وحده تشوكا/ أحبك، الصور التي اختارها في مراسلاته مع حورية ليشرح لها شيئا من أفكاره عن العالم، قسوته التي تقتل الأطفال وتحرقهم وتغرقهم، وعن قوة الصورة التي تستطيع تحرير البشر.
تشوكا الذي يلعب مع الوقت ويضبطه احيانا متلبسا بالمضي، المصور الحر الذي يقول عن نفسه أن لديه همة للإستغناء عن كل شئ ، يفكر ان الصورة الأجمل التي قد تمنح نفسها لمصور هي صورة إنسان عادي.
وانه ربما مثل المتجولين الذي أحبهم وكتب عنهم لأخته في خطاباته “انهم يمشون بلا توقف”
أحببت فصول ذلك الشاب في الرواية، شعرت به قلبا حرا غير مثقل بشيء، لكنه مع ذلك مشدود لأخته وذكرياته مع أبيه وأمه.
الأم عازفة الساكسفون، التي ماتت ربما منتحرة، ورسمت البنت حورية صورتها وهي تصعد شجرة تخصها وحدها نحو السماء لتبقى هناك سعيدة ومرتاحة، والأب المصور صاحب أجمل نظرة حب ينظر بها نحو حبيبته مات وهو يتفرج على ألبوم صور يجمعه بحبيبته وينظر لها النظرة ذاتها.
الجدات في الرواية ينتمين للجميع، ولا يخصصن أحداً بعينه. العجوز في محل الأنتيكات التي ربما كانت هي الطفلة أو جدتها، الجدة التي تقود سيارتها، وتوافق على كل المرح والفوضى التي تقوم بها حورية ورومانسي.
الجدة الأجمل جدتنا كلنا، وجدة أبطال الحكاية الجدة “راقية” التي يمتلأ عالمها بقلوب الشباب ونغمات الموسيقى من الآت كثيرة ومختلفة، يمتلأ بكل ذلك الحب وتخرج من قلبه قطع الحمص والحلاوة مثل نافورة ماء ملونة، مكافأة للبشر على كونهم قادرون على الحب، حب الموسيقى وأنفسهم والآخرين.
البنت “ورد” صديقة حورية والتي اختارت ألا تذكر لنا اسمها، وإنما تكتبه بلغة الإشارة.
“ورد” صاحبة أجمل ضحكة، الفتاة غير القابلة للمس، التي لديها على تليفونها رسالة من شاب مدفون في مقابر “الكومنولوث” من سنين طويلة.
ابتسمت لتلك التفصيلة في هذه الرواية، واذكر أني خفت منها وأحببتها عندما لعبها الفخراني في روايته “ألف جناح للعالم”، في القصتين ممر سري بين عالم الأحياء والعالم المتواري كما أحب تسميته، يمكن لهم ولنا تبادل رسائل مقتضبة غامضة لكنها تفي بالغرض.
كل هذه الحكايات والبشر، في رواية “لا تمت قبل أن تحب” لمحمد الفخراني، تدور حول البطل رومانسي الذي يحلم بطفلة يحضر لها إفطارها ويسرح لها شعرها كل صباح والبطلة حورية أبو البحر التي تعرف أنها تقع في الحب بسهولة وتحفظ وصيتها لصديقتها بأن “لا تمت قبل أن تحب”، الغريقة والمنقذ، وبينهما الصدفة الموجودة طوال الوقت منذ البدء وحتى النهاية.
الصدفة التي تحاول كل لحظة تجميعها في مشاهد جميلة مكتوبة بخفة وقوة مشحونة بعاطفة ورغبة حقيقية في أن يجد كل منهما الآخر، وفي نفس الوقت مدفوعة برغبتها في أن تبقى صدفة وتترك كل منهما لملاقاة خيارات غير محدودة بها، الصدفة كانت هناك من لحظة الغرق الأولى قبل سنوات بعيدة مرورا بمحل السمك وفوق الدراجات ووسط المطر وفي “المحارة” محل الأنتيكات ذلك المشهد الذ كان يتحرك بسحر وغرائبية ورقة تربت قلب القارئ، وتملأ روحه سعادة ويقين في الحكايات الحلوة.
رغم كل محاولاتها، فشلت الصدفة في جعل كل منهما ينظر في عين الآخر، ربما عرفه من النظرة الأولى، ربما كان هو حبيبه الذي يعرف انه هو هو، لكنهما تقابلا هناك قبل لحظة حورية الحاسمة، لعبا معا شيئا من ألعابهما الحلوة، فتحا لنا احتمالات كثيرة، حيث يمكن أخيرا أن يغرقا في الحب أو في أي شيء آخر.