كينونات ناقصة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 78
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هيثم الورداني

تسري في ديوان أحمد يماني الجديد "منتصف الحجرات” أعضاء كثيرة. فهناك شعرات سابحة، وعظام ناتئة. وهناك أقدام تهرب، وأخرى تنسى المشي. عروق معلقة وراء الباب، ودم يخرج في نزهة طويلة. قدم تتشقق، ورقبة تتحور. في مدارات الديوان تتحرك أحشاء متشعبة  عند لمس نقطة مجهولة، وتنقل خلايا أزمنة معجونة من جيل إلى جيل. تُرى أعضاء من هذه؟ هل هي أعضاء جسدَي العاشقَين؟ أم أنها تخص بعض العابرين؟ هل هذه هي عظام الأب أم ما تبقى من الحب؟ هل هذا دم الصديق أم ليبيدو الروح؟ لا يبدو هذا السؤال على قدر كبير من الأهمية. فالأعضاء في القصيدة لا تُحيل بالضرورة إلى أجساد مكتملة، والأجساد هنا ليست خِزانات منفصلة تتكوم فيها الأعضاء، تحمل كل خزانة اسم صاحبها، وإنما توجد في حالة غير مستقرة، كأنها مصنوعة من عنصر مشع لا يتوقف عن الانحلال. نقطة الدم التي تنسل وحيدة بين أصابع العاشق لتسيل على جبهة العاشقة قد تكون عاطفة بين جسدين، لكن يمكنها أيضا أن تكون جزءا من حركة بسيطة تُذيب ما هو صلب. الشعرات التي تسبح في غرفة العاشق قد تكون هدايا من العاشقة في غيابها، وقد تكون أيضا جزءا من دورة للظهور والاختفاء.  

  هذه الأعضاء السارية في دروب الديوان ليست تذكارات ميتة، ولا رموزا جامعة. ليست اقتباسات جامدة من الأجساد، ولا تلخيصا لها. الأقرب أن فيض الأعضاء هذا ينطلق ليصبح المادة الأولية التي تدور في دورات سحرية تجوب الديوان. مثل الدم واللعاب والمني التي تدور جميعها في دورات الجسد، تدور هنا أعضاء كثيرة في دورات عابرة للأجساد. فمثلما هناك دورة دموية أو تنفسية، هناك أيضا دورة للقبلات، تكون فيها عريضة في الشارع، ودقيقة في البيت. وهناك دورة للحنان، يزداد الحب خلالها فتنسى الأقدام المشي وتتحور الأعضاء، ويقل فتختفي الطوالات التي تغير طول المحبين. هناك دورة للفقد، ودورة للهذيان.

لماذا لا تستقر الأجساد في القصيدة وتبقى كينوناتها كاملة؟ لماذا تسيل أعضاؤها وتدور في دورات لا تنتهي؟ ربما لإنها تجد نفسها في مجال لا يعرف سوى التيارات والتجاذبات. مجال تتدافع فيه العواطف والهواجس، ويذوب فيه كل ما هو صلب. هذا المجال هو على الأغلب عمل الحب. الحب هو هذه تلك القوة التي تحيل الأجساد الفردية إلى أنهار وأمطار. الحب هو ذلك البحر الواسع الذي تجوبه التيارات وتدور فيه الدورات، من يخوض فيه يغامر بنفسه وسط هذا الموج العالي، ومن يبقى بساحله يهنأ بكمال كينونته.

 

عودة إلى الملف

 

مقالات من نفس القسم