كيسُ القطط

تشكيل
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فارس الشوك

الموسيقى وسيلة غير متوقّعة للضّياع، للغرق مع أفضل ما فينا.

– سيوران-

لا يمكن للقلم أن يكتب شيئا أبديا إذا لم تكن تغمره مباهج الليل.

شابمان

يجب أن توجد فوضى في النفس لكي يولد نجم راقص.

– نيتشه-

 

بعد جولة طويلة من البُكاء قضم الشُرود جنباً من رَأسه. لقد كانت المرّةُ الرابعة التي تَرفضُ فيها الوزارةُ مشروع عرضِه الموسيقي.

على عتبة باب منزله أخرج محفظة جيبيّة فتحها على بطاقة الاحتراف الموسيقي، وبحركة سحب سلسة من الجهتين فتح مكان اصطفاف الأوراق النقدية وحدق فيها طويلا حتى كاد يسقط داخلها، أمعن لدقيقة في الهواء بحدقتين التهمتا المكان نقمة ثم رمى بها بعيدا لتسرقه الغفوة من الانتحار.

’’اسمي هو لطفي، واسم شهرتي هو لطفي باغانيني، المقربون يعرفون ذلك، وأما من يتعرف علي حديثا فلا ترسب في ذهنه سوى الرنة الإيطالية للفظ باغانيني )محذرا(، أعزف الغيتار الالكتريكي هذه الأيام، ولا شيء أكثر رغبة لي فيه من  عصر قضيبي تحت حذاء شتوي ضخم أو هرشه حتى الفرم بهذا الغيتار.’’ هكذا يعرّف بغرابة شديدة، الناس إليه.

أما في الغفوة فقد رأى حلما جميلا، جميلا لدرجة أن الحفلة الغنائية داخل رأسه تحولت إلى دندنة خفيفة في الأجواء.

إلاّ أنه في اللحظة التي أدرك فيها أنه مجرد حلم أثيري حتى انفجر بالبكاء.

بكى وبكى كما لن يبكي أحد على وجه هذه الخليقة وحين فرغ من بكائه ومسح بكميّه مخاطه، استعمرت كامل أطراف جسده رغبة جنسية معتادة انتهت به إلى الاستمناء.

تعلّم لطفي الاستمناء بعد تعلمه العزف على أوتار الغيتار، وحينها فتن بالخض والخفق أكثر من النقر، فإذا عزف ثلاث مرات في اليوم، يكون قد استمنى ستة مرات، وإذا كان قد عزف جالسا، فما أن يفرغ حتى يستمني واقفا، أما إن عزف واقفا، فما أن ينتهي حتى يرمي بالغيتار من يده ويستمني جالسا. يستمنى في كل مكان، وتقريبا على كل ما كان يصادفه. كان يحبذ أكثر الاستمناء على السطح، وكان يحاول دون يأس الاستمناء في وضعية التوازن وهو على يديه، وساقيه إلى الهواء.

وذات مساء، وبعد أن أهداه أبوه كتابا لسيمون دي بوفوار، استمنى على الغلاف الذي كان يحمل وجهها،

والآن، هاهو يستمني داخل محفظته الجيبيّة، ويملأ الفراغ داخلها ثم يعود للبكاء حتى تنهار قناديل وثعابين البحر من عينيه.

 »-ولكنّها كلمات ركيكة ولا تتوافق مع الذوق العام. كيف انفجرت هكذا داخل رأسك بالأساس؟ !! قالت عجوز الوزارة.

-إنّها الموسيقى الرائدة. أرجوك فرصة واحدة، واحدة فقط وسأجعل الجماهير تبيض الجمر من الإثارة.

-اسمع يا لطفي.

-باغانيني.

-يا لطفي باغانيني، إن هذه الموسيقى مكتوبة تماما بعد الاستمناء. عد إلى منزلك، وألف شيئا ليس غريبا، وسنرى في السنة القادمة. « 

أنهى الاستمناء وبكى وبكى،

ثم قال في نفسه: الليلة سأعقد صفقة مع الشيطان.

وخرج سريعا وعاد بثمان قنينات من النبيذ وست قارورات حديدية من الجعّة. )من الكوديا والستيلا.(

شرب دفعة واحدة قنينة نبيذ كاملة ووضع أغنيةDream  on- Aerosmith على الحاسوب ثم على مكبرات الصوت الرخيصة التي كان يملكها، وبعث بجعتين إلى عقله قبل أن يتعرى ويقدم على سكب النبيذ على الارض في شكل نجمة خماسية داخل دائرتين سيئتيّ الرسم.

 ركع داخلها ورفع ماتبقى من البيرة إلى السقف وقال:

-أيها الشيطان.. لعبت معك أمكر الألاعيب، أعتذر عن ذلك. كنت أمسك ملعقة الأكل باليد اليسرى ثم بحركة مارادونية أراوغك باليد اليمنى. كان الطعام يسقط أرضا فيقول أبي أنها فعلتك، فأغافل الجميع وأرفع الطعام وأحشره في فمي حتى لا تستطيب فوزك أبدا. لآلاف المرات تركت مثانتك بعد الدخول بالساق اليسرى تنفجر أمام عتبة المرحاض وحتى.. وحتى عندما كنت أضاجع هنا وهناك كنت شماتتا وسرا أتلي الدعاء قبل الجماع. )تتغير الأغنية إلى (Immortal-All Sall Fall ولكنني الليلة في حاجة ماسة إليك، الليلة سأرضخ لجميع رغباتك والليلة سأعوضك عن كل ما فات.

كاد صوت الموسيقى الصاخبة أن يجعل أحد الجيران يتصل بالشرطة. إلا أن الهدوء الذي هبّ في اللحظة التي ظهر فيها مفيستوفيليس، وهو يتأبط كتابه الأحمر الذي أوقع فيه آلاف الأرواح، أثنى الجار عن ذلك.

سمع لطفي صوت ديموناث دووم آتيا من الكتاب، لكنه سرعان ما تلاشى وحل محله صوت فاوست وقد كسرت فيه نبرة الكبرياء.لم أرى مفيستوفيليس غاضبا هكذا من قبل. في العادة كان يدخل في شكل تنين أو راهب فرانسيسكاني عجوز.لكنه الآن يظهر في شكل الشياطين التي نستعيذ منها ليلا صباحا بألا نراها. في المقابل كان لطفي من البهجة  يبعث بالبيرة إلى بطنه فيما يفتح أخرى احتفاءا بضيفه.

-أرى فائدة من كلماتي السماوية. قال لطفي.

-إن أقصر طريقين لاستحضار الشيطان هما الدم والتنكر للأولهة.لكنني الليلة أكتشف طريقا أقصر منهما. )غاضبا ولكنه في استعداد للتخلي عن غضبه(

-البيرة والإعتذار. تقريبا فزت بجميع أشواط حياتي المنكوبة بهذه الطريقة. )يضحك(

-بماذا أخدمك إذن؟ )يشرب مفيستوفيليس الستيلا السوداء(

-فقط خلصّني من هذا الهوس الجنسي الفضيع.

-مقابل 24 سنة من حياتك ثم إلى الجحيم.

-30 !!!

-24.

-لا، هيّا لنتركها ‘‘شيفر-رون’’.

-مستحيل. إنه القانون.

تحوّل وجه لطفي لفرن موقوت بعد سماع كلمة القانون التي سمعها عديد المرات من عجوز مكتب وزارة الثقافة وهي تفاوضه حول أغانيه وتبرر له استحالة عرضها بسبب رداءتها أولا، وبسبب القانون ثانيا. تجشأ مفيستو هناك واحمرت وجنتاه. جلس إلى الحاسوب ووضع موسيقى لا يمكن لها أن تكون إلا من قعر العالم السفلي. ارتخى بعد بعث جعة ثانية، وترك لطفي يفكر في المهلة المتفاوض حولها، وحين ضجر، التفت لتفقده فوجد النجمة الخماسية والدائرتين مخربتين ورأسه يبتعد تدريجيا نحو السماء ككرة البايسبول.

كان المضرب في هذه الحالة قنينة نبيذ فارغة، وكان لطفي مسدد الفريق الأول، فريق الانس ضد الشياطين. هكذا أحرز نقاطا جديدة في عداده الهزلي ولم يبقى من مفيستوفيليس سوى صدى اللعنات التي ألقاها وهو في رحلته إلى القمر.

في اليوم الموالي، صحا مبكرا جدا، وأحدث جلبة بتمدده على الفراش. وكان هذا أمرا غريبا باعتبار أن الفراش في مقاس شخصين، وأن رجلنا باغانيني صعلوك ضئيل مهما استغرق التكسل في فراشه لم ينأز الخشب بصرير من قبل. الغرفة في حالة ترثى لها، والرائحة مشابهة لعرق عمال المطاعم الشعبية. ذلك العرق الذي بامكانك تذوقه في الأكل مع رفاقك، ورغم ذلك لا يجرؤ أحد على الفصح به.

 شعر لطفي بثقل في جسده لم يشعر به من قبل، حاول النهوض مرات عديدة قبل أن يتمكن فعلا من ذلك، وحين فارق الفراش كان عليه المرور بأكداس قوارير الجعّة وقنينات النبيذ من الليلة الفارطة، ومن ليال كثيرة أخرى. وكلّما تقدم إلى الأمام كلما أحس نفسه يجرّ من تحته في كيسيّ قمامة من الحجم الكبير. وفي اللحظة التي وطأ فيها أخيرا باب الغرفة التفت وراءه ليجد طريقا معبدا كان قد فتحه بمشيته القصيرة بين القارورات. وفي المرحاض، عانى من آثار ثمالة شديدة، وخوفا من تسديدات بول خاطئة كان لابد عليه أن يستجمع بأسه وشتات ذهنه كاملين. كافحت أعينه المسكينة، وحين بدى له أنه سيتمكن من فعلها أخيرا، ترك السيل ينهمر منه بغزارة فحدث في عقله انتشاء عظيم.

لكن البول تتطاير نحو السقف كنافورة. بقوة، وبدفق كبيران.

أحس بالارتباك. قال إن الأمر غريب، بل قال أن الأمر شنيع. كيف لهذا أن يحدث؟ كيف لهذا أن يكون ضربا من الحقيقة؟

وفي منتهى الهلع، وقف أمام حوض الحنفية ليفرك عينيه جيدا بالماء، ثم نظر إلى وجهه في المرآة. شيء سميك كان يقابله. جدار طويل من الجلد تتخله العروق النابضة من كل مكان. ومن بين كل هاته العروق تمكن من أن يلمح عيناه الصغيرتين. بدأ في قرص جسمه ليتأكد أن آثار الثمالة لم تعد تسري فيه وأنه صاح تماما، غير أن كل شيء أوحى له بأنه كان في كامل يقضته. وبمجرد نظره إلى الأسفل اتضح كل شيء: أجل، إنه في شكل قضيب كبير بخصيتين.

أمام مخفر الشرطة وجد صفا عريضا من المشتكين )ولكن لا أحد منهم كان على شكل قضيب(. اندفع نحو الرائد وهو يلتثم بقناع صحّي على وجهه )أو ما يمكن أن نطلق عليه وجهه( وجاكات سوداء غطت لحسن حظه كامل تفاصيل بدنه المريبة. قال إن الأمر عاجل وأن عليه رؤية رئيس المركز حالا قبل توجهه إلى المشفى. وأن حالته لابد عليها أن تتم معاينتها من الشرطة قبل أن تصفه المستشفيات بالمجنون. أتى شرطي الاستقبال نحوه وقد كان طوله قرابة المترين، وعرضه عرضين. وقفا جنبا إلى جنب وكانا تقريبا في نفس الطول والحجم، عدى أن لطفي كانت عروق جسمه )أو ما يمكن أن نسميه بجسمه( بارزة بصورة جليّة تحت الجاكات.

-يا سيد، لماذا كل هذه الجلبة !

-أنظر سيدي، من الأفضل أن أخبرك بالأمر على انفراد. هاهي غرفة فارغة هناك، ستكون مجرد لحظات فقط، وينتهي الأمر.

وكما هو باد، ضنه الشرطي مخبولا. ولأن أعوان الشرطة هنا ليست القسوة من طباعهم مثل عديد أعوان المخافر الأخرى، فإن التجاهل و)التصحير( كانا احدي أهم ميزاتهم.

-اجلس هناك، وقم فقط بانتظار دورك.

جاء زميل آخر، وبدأ ينادي عبثا عمن يضنهم وجبة إفطار سريعة الهضم; كأصحاب تجديد بطاقات التعريف، وجوازات السفر،و تفقد شكاية مرّ عليها أربعة أشهر ونصف…وكلما كان اختياره العبثي خاطئا حين يقع على شكاية حينيّة دسمة يتصنع دخوله وخروجه السريع لإحدى مكاتب المخفر، لجلب ورقة أو اثنين لا أهمية لهما. وأما عن هاؤلاء أصحاب الشكايات الدسمة كما قلنا فقد كان مصيرهم العودة بعد الواحدة زولا مهما بدوا مصريين على عكس ذلك.

وبعد ساعتين، نفذ صبر لطفي وهو يتوسل مسؤولا هنا، ومسؤولا هناك. ولولا صبره الجيني، وحنكته الطويلة مع خور الادارات لكان قد تعرى أمام الجميع، وفضح الأمر.

عضّ شفتيه في ضيق )أو هكذا أحس(، وغادر المخفر مصمما دون هوادة الذهاب إلى المشفى. فجأة توقف مسمرا بالقرب من باب الجامع المفتوح على مصرعيه وقد اختلجه حنين يمتزج بالشفقة والرعب واللامعقول بعد سماع صوت آذان الظهر. فهم أن الرب قد مسخه، وأن الإمام وحده من بإمكانه حلّ المعظلة. وحين وطأ عتبة الجامع تذكر ذات ليلة كان فيها قد استمنى على وجه فتاة هندية صادفته على مواقع الاباحة التواصلية. لم يقدر على تفكر اسمها تماما فكان عليه أن يطلق عليها كارينا كابور. كانت كابور هذه قد أمضت ساعة كاملة قبل أن تنتهي المحادثة إلى تأوهات باخباره عن الكارما وعن المعتقدات البوذية. أدهشته فكرة أن الانسان لا ينتفي بعد موته أو يعود إلى السماء، وإنما يعود للحياة في شكل الحسنات التي حصدها في حياته السابقة، أو على شكل السيئات  في حال كانت تغلب الأولى. فعلى سبيل المثال إن عدت في شكل حسناتك، فستكون نهرا يمد اثناعشر ولاية بالماء، أما إن عدت في شكل سيئاتك، فقد تكون على شكل أكره مخلوق لك، وعلى الأغلب أنه الخنزير المسكين. أسهبت كابور في تحليل هذه الفكرة له، وكان هو في المقابل يتخيل حياته القادمة قضيبا هنديا موضوعا بعناية في فرج احدى ممثلات بوليود المولع بهنّ.

قام بنفض هذه الذكرى النجسة ثم دخل بخصّيته اليمنى لكنه سرعان ما انثنى عن ذلك خوفا من أن ينتهي مصيره بالرجم، في حال انكشفت أمره.

وأمام باب الشقة عدد 4 المبنىB ارتفعت دقات قلبه وسرى في ذهنه حنين دافئ إلى الماضي، عندما كان يتوارد على محبوبته السابقة. كان على درجة من الاضطراب فلم يدري ماذا يفعل أو يفكر. مرّة تعتمره الشجاعة لطرق الباب،  ومرّة تجده على السلالم أو داخل المصعد عائدا من حيث أتى. شهدت هذه الحيرة ساعة كاملة حتى لمحنا صوتا لطيفا لحفيف صاندال آنسة تصعد الدرج نحو بيتها. هي سهام ذاتها التي تركته منذ إزاء ثلاث سنوات لأسباب لا يعلمها غير أخصائي الاضطرابات النفسية والجنسية الذي كان لطفي يزوره برغبة منها. اقترب منها، وقد أتته شجاعة بطولية، ورفع من على وجهه القناع، ومن على رأسه القلنسوة المتصلة بالجاكات، وعلت ابتسامة على محياه بأكمله.

كان الركض بتلك الخصيتين الكبيرتين أشد معاناة له من حالة اليأس التي اختلجت صدره، وهو يرى في سهام تتهاوى إلى الأرض، بعد أن فجرت المبنى بأكمله صراخا ونجدة.

انهمرت الدموع من عينيه، وفكر على الطريق السريع في إنهاء حياته. وبالفعل وضع نفسه بمنتصف الإسفلت، وبهدوء انتظر نهايته.

لم يكن سيء الحظ في الحياة فقط، بل حتى في الموت. من بين عشرات السيارات المجنونة، ولا واحده كانت قادرة على انهاء بؤسه. ومن شدّة تأجل لحظته الأخيرة وهو على قارعة الطريق، انفنت في النهاية رغبته في الموت فكان عليه الآن أن يعود إلى أحد جانبي الطريق بسلام، ودون أذى.

في اتجاه المشفى، وجد نفسه مارا بمسابقة لكمال الأجسام، أين يعرض حفنة من المبتدئين أجسادهم العارية إلى جمهور أغلبه من صعاليط القاعات الرياضية والفتيات المنبهرات باصطفاف كتل العضلات المتناسقة. كان آخر هم لطفي وهو في طريقه لرؤية الأطباء التورط في هذا الازدحام لكنه وجد نفسه مدفوعا بسبب التجمهر إلى ساحة العرض. كانت المسابقة تقام في أجواء صيفية فكان من المعقول أن ترى العراة أكثير من غيرهم. أثار لطفي الريبة بلباسه الغريب وغطاء الرأس، وضنه الجمهور منافسا بسبب كل تلك الكتلة العضلية التي تغطيه وزاد هيجانهم به بعد أن تصادف وجوده مع وضع موسيقى حماسية تشابه تقديم بطل أولمبي يكتنفه الغموض.

-أنظر، إنه سام سولك. قال أحد الصعاليك.

واحتكت به من كل جنب الفتيات حتى كاد ينفجر بين صدورهن الكبيرة والعارية. لحسن الحظ تمكن من تمالك نفسه. كان العارضون يصطفون عشرة على منصة العرض يعرضون في أجسادهم بطريقة مغايرة في كل مرة، وكان الحاضرون يقيّمون ويختارون منهم كل حسب مزاجه. بدت له المنصة  هكذا كرفّ بشري ضخم من الدمى، وشعر بأنه داخل سوبرماركت محشوّ مع أطفال صغار يتصارعون على اختيار دمية خارقة تكون الأكبر عضلة والأكثر شهرة. لم يعد قادرا على التفكير، لا شيء يبعد عن رأسه ما آل إليه، ولا شيء بامكانه تبديد الكابوس الذي حلّ به. خرج إلى الشارع وهو في حالة سيئة تماما، وتمكن منه الهذيان والتعب. لم يعد قادرا على مواصلة المشي، تخلص من فكرة الذهاب إلى المشفى البعيد وجمع نتف بأسه ليصنع بها أفول ثورة أخذت به نحو مقر وزارة الثقافة. لهث في كل خطوة، وبزق على عتبة كل مؤسسة اعترضته ثم تمدد على الأرض وشد بيده مكان قلبه الذي كان يخفق من الداخل كعبوة ديناميت. نهض بعد استرداد أنفاسه وكنس إلى الأمام الشارع بخصيتيّه ووعد نفسه ألا يبكي من جديد. وحين وصل، و تمكن أخيرا من ضبط الشعارات داخل رأسه، دهسته عجوز الوزارة التي لم تجد قواها أمام المكابح.

 تهمّد هكذا أمام باب الوزارة، وبعد القناديل والثعابين انفجرت سرطانات البحر من عينيه. وملأت السماء نقرات كمنجة حادة وترددت موسيقى     لا-كامبانيلا في كل البقاع وتتداعى المكان من حوله. صار العالم دوامة من المربعات. وقبل أن يختفي داخله، مدّت الموسيقى بيدها وأخذته من إبطه نحو الأفق ليكتسب من جديد كيسُ القطط داخل رأسه سَاقينْ.     

مقالات من نفس القسم