ابتسم وانا أفكر أني اكثر من ذلك، أنا آكل البشر واحتفظ بأرواحهم في سراديب داخلي، فأسمع أنينهم وأحزانهم، ويصبح نومي مضطرباً لأن روحي تجول هناك في عالم من الأرواح فيه كل من خذلت وكل من صوبوا سهاما لقلبي، ولم يكن هناك وقتا كافيا للعتاب، أنصب المحاكمة المتخيلة كل ليلة – خاصة في ليال الشتاء – وتبدو الأحاديث خافتة ومخيفة وتقطر دما، لا يعفو أبدا من خذلتهم، بل يصوبون نظرات نارية لي ويرحلون غاضبين، أفكر في الصباح أن أعتق الجميع فأترك الظالم والمظلوم ، وأترك ندوب قلبي على حالها ، وأتمنى ان تجف الدماء التي تبلل أناملي من مصائب صغيرة ارتكبتها كفتاة تحثها فصيلة دمها على التوحش.
يزداد اضطراب نومي ، وقلق روحي في الشتاء .. تتجدد أحزاني كورق شجر خريفي عاد للحياة ، فأسمع كسرات الورق وخربشاته كعلامات زرقاء غامضة تملأ جسدي.
أتمتم لنفسي بأن شتاء هذا العام مختلف وجديد، لأني لن أحصل على سمكة برتقالية واحدة وحيدة تدور في دورق الماء فتذكرني بمأزقي الوجودي في هذا العالم، لن أحصل فقط على قائمة كتب أحضرها لي محمد ولا خاتما من الفضة أو غيره من الأشياء التي تجعل عالمي أحلى.
ولا حتى صورة جديدة ، لأضعها جوار صوري كلها ، فأكتشف كم أنا برج الأسد بامتياز، أحب صوري، وأذكر أن كاميرا كانت دائما بيد رجل عرفته وابتسامة كبيرة هي ما حفرت ممرا بين أنقاض روحي لعبوره لهذا الجانب المرتبك من العالم.
شتاء هذا العام سيكون مختلفا لأني سأحصل على صورة كيتش مع صغيرة بعيون مغمضة وقلب لم يخدشه حزن بعد، أفكر في هذه الصورة لأنشغل كثيرا عن الأحزان التي تثقل قلبي ولا أعرف طريقا للخلاص منها، والتي أحيل أسبابها لهرمونات الحمل التي تجعلني أبكي أسهل ، وأشعر بالأشياء بحساسية أعلى ، تلك الهرمونات التي قالت لي صديقاتي إنها ستحيلني لحزن كبير واكتئاب يسهل الوقوع فيه، وحالة من النقض الدائم لذاتي واختياراتي، حالة ستجعلني أفقد الثقة في كل ما فعلت، ستجعلني أتساءل عن حياتي كلها، عن الكتابة والحب والموت والحياة .
ستجعلني أجلس على طرف فراشي في المساء لأفكر كثيرا هل انا راضية عن كل ما حدث ويحدث .
والحقيقة أن كل ما أصابني من عبث الهرمونات كان الحزن والترقب للمزيد من الحزن ، لم يكن شيئا يخص خياراتي وأخطائي .
كان فقط ذلك الحزن المهيب ، لكنه منحني في المقابل سكينة لم تكن عندي أبدا، كأن بذرة قطعة الحلوى السحرية التي في أحشائي منحتني رضا دائم عن العالم وقسوته، وجعلتني أجرب شعورا لا يشبه حتى أحلى إحساس جربته في حياتي بل أكثر وأكبر، شعورا يشبه البراح والهواء النقي والريح الخفيفة التي تداعب خصلات شعري كما أحب، شعور يشبه تمشية في شارع سحري وجلوس في مكان أحبه ، وحضن يجعل قلبي يختلج في صدري من الراحة والشوق .. شعور ربت كتفي وهمس بحماس أم ” متزعليش كل حاجة هتبقى حلوة ”
مثل ذلك وأكثر كانت نبتة الطفلة في جسدي، التي ربما أراها بعد أيام قليلة وأضمها لقلبي فيبرأ من أحزانه القديمة، وتجف دماء التورط في قسوة الحياة وسخافتها.
وأفكر بينما يسحب الطبيب المزيد من أنابيب الدم من يدي لإجراء فحوصات قبل الولادة ، بينما أرتب ميعاد مع طبيب التخدير وأرتب حقيبة المستشفى وأفكر في صورة أمي هل سآخذها معي للمستشفى أم أجعلها تنتظر طفلتي في البيت لحين عودتي. وأفكر أني ربما لن استطيع هذا العام أن أزوها في ذكراها بعد أيام واخبرها بما أعرف أنها تعرفه .
بينما أفكر في كل ذلك، أحاول وسط جدول الأيام القليلة أمامي أن أذهب مع محمد للسينما لنشاهد فيلم “ديكور” ، وأن أكتب مقالا عن مسلسل ” آسيا” لمنى زكي لأنه خدش قلبي وترك نزفا ستداويه الكتابة عن هذا العمل الخافت المبهر الذي يشبه فتاة هشة لن تحتمل حتى حضن الموسيقى التصويرية والإضاءة والأزياء والبطء والحزن.
ربما ستكون ولادتي أسهل لو كتبت هذا المقال وذهبت لمشاهدة الفيلم .. ربما سأجد ما احكيه للطبيب تحت تأثير المخدر ، وربما ألمح طيف الخبل والحزن والكتابة في كادر الصورة الأولى التي سيأخذها لي رجل أحبه مع طفلة أجمل من السحر ذاته . صورة عادية جدا لأم محملة بالخوف والكثير من الحزن والأمل تحتضن نسخة صغيرة منها فتتكئ كل منهما على الأخرى وتمضي .