ويتصاعد لهفة العاشق زادت حماستي وتسارعت خطواتي حتى نهاية الممر الذي انتهى بمدخل ضيق الى اليسار. وعندما دخلت أغلقت عيني من شدة الضوء الذي كان يسطع في الغرفة بتوهج. وعندما فتحت عيني تدريجيا كاد قلبي أن يقفز بين ضلوعي. كانت “نورا” أمامي بجمالها الآسر.. ترتدي غلالة شفافة وكانت تفاصيل جسدها النحيل الأثير تظهر من تحته. مدت الي يديها فأقبلت عليها وأنا أهتف.
– أخيرا يا حبيبتي!! أنا لا أصدق ما أراه.
لم ترد علي. وكان وجهها يسطع بابتسامتها الطفولية.
عندما اقتربت منها وفور أن لمست يديها صعقتني المفاجأة وأصابتني خيبة أمل كتلك التي اكتشف معها أنني قد قمت لتوي من حلم ساحر. فقد تحولت فجأة الى فراشة في حجم كف اليد لجناحيها ألوان حمراء مدهشة وراحت ترفرف حول فيما تصاعدت موسيقى الكهف فجأة وبدأت هي في ضبط إيقاع طيرانها مع الموسيقى في انسيابية مدهشة. ثم إنها انطلقت الى خارج الغرفة وظل صوتها يتردد طويلا بعد خروجها رقيقا وحازما في الوقت نفسه: “الواهمون لا مكان لهم في كهف العشاق“.
عندما خرجت رحت أتتبع الرفيف. لاحظت أن الاضاءة التي تضيء الدرب أمامي كأنها تسقط من كوة في أعلى السقف.
ولاحظت أن السقف ينخفض تدريجيا حتى اضطررت في نهاية الأمر أن أسير على ركبتي ويدي. وأحسست أن الطريق صعد بي الى أعلى. وهكذا تابعت حبوي لاهثا ومتألما من صلادة أرض الممر تحت ركبتي وخشونتها.
وصلت في النهاية الى ردهة شديدة الاتساع مضاءة بضوء خافت. ارتفعت الترنيمات تدريجيا بحيث إنها صارت أعلى من صوت الموسيقى. بعد لحظات ظهر أربعة رجال لملامحهم قسمات طفولية عراة إلا مما يخفي عوراتهم، وهم يتراقصون مع الأنغام. ثم ظهرت أربع فراشات راحت تحلق حولهم كأنما تبادلهم الرقص وسرعان ما تحولت الى أربع حوريات ذوات جمال صاعق عاريات تماما ورحت مبهورا أتابع الرقص الذي بدأ بتحليق كل شاب بفتاته قبل أن يمسك كل منهم بمن تخصه ويتداخل جسداهما في خفة ورشاقة مدهشتين وبارتفاع صوت الموسيقى ارتفع حماس الراقصين. كان كل فتى يحمل فتاته ويصنع معها تشكيلات جمالية مدهشة ثم يتبادلان موقعيهما.. وهكذا أسندت ظهري لأقرب جدار وجلست مبهورا أتابع الرقص الذي انتهى بتحول الجميع الى فراشات مرة أخرى. وقبل أن يختفوا كان الصوت الملائكي يتردد في أرجاء المكان.. “الواهمون لا مكان لهم في كهف العشاق”. وشعرت بالاعياء مرة أخرى.. ولكن لم أستطع مقاومة النعاس هذه المرة حتى غفوت.
استيقظت على ما يشبه صوت نشيج مكتوم نهضت متثاقلا وأنا أحاول الاهتداء الى مصدر الصوت حتى وقع بصري على فتاة كالحلم.. كانت آثار الدموع ما تزال تبلل العينين شديدتي الحزن يا الهي ! ارفق بي قليلا..
“فتحت عيني في الصباح فالتقيت بعينيك اللتين كانتا تشعان حنانا يغمرني. كنا عاريين لم نزل. وجهك الخمري الناعم يدعوني لتقبيل الخد الأسيل قبل التوقف عند الشفتين الصغيرتين المكتنزتين..”.
اقتربت منها قليلا وأنا أنادي عليها باسمها.. لم تلتفت الي وانما ظلت تحدق في أعلى السقف كأنها تطالع ملاكا أو تشكو أحزانها لطاقة نور في السماء.. يا إلهي.. نفس النظرة ونفس الملامح.. ونفس الشكوى.. كأنما كانت عيناها تنطقان أشكوك للسماء! “.. قلت لي هامسة: أحبك.. وطبعت على شفتيك قبلة قبل أن نتضام في سكون صامتين حيث لا حاجة الى الكلام وعندما نهضت جلست على الفراش وانزلت قدمي الى الأرض.. ووجدت ذراعيك يلتفان حول خصري قبل أن تطبع شفتاك أسفل ظهري قبلة – لن أنساها أبدا؟! التفت اليك أقبل شفتيك قبل أن أنهض قائما وأنا أضع يداي على سوأتي أخفيها عنك -ألسنا من الجنة لتونا خارجين ؟ – بينما دسست أنت رأسك تحت الدثار. وكنت أعرف أنك تبكين..”.
مددت اليها يدي فلم تلتفت الي.. حاولت أن أهزها غير أنني فوجئت بها جامدة كالصخر.. كأنها قدت من حجر. ولكنها كانت تسدد الي نظراتها تلك التي كاد قلبي أن ينخلع من شدة الحزن البادي فيها. حاولت أن أمسح الدموع عن وجهها فصارت نظراتها شديدة القسوة. تراجعت وأنا أتحسس البلل على إبهامي. قبل أن أفاجأ بظهور “الصلت ! “.. فصرخت:
– آه.. أين أنت ؟ انقذني يا صلت ؟!
كانت ملامح وجهه محايدة وكأنها لا تحمل اي تعبير ونبرات صوته شديدة الهدوء:
– ماذا حدث؟
– أنا لا أعرف ماذا أفعل في هذه المتاهة. كلما أوغلت السير زادت متاعبي ومخاوفي وكأني أبحث عن سراب. وكلما وجدت من أبحث عنها أكتشف أنني لم التق سوى بالاوهام.
– الآن!!
– ها هي حبيبتي تجلس أمامي.. ولكنها لا تتحرك ولا تجيب علي بشيء.
– هل انت على يقين بأنها من تبحث عنها؟
– أنا لم يعد لدي يقين.. لكنها هي. هي..
– أأنت الذي تسببت في أحزانها هذه..
– لا.. لا.. أنا.. فقط.. يعني.. أنا لم أقصد شيئا.. لم أشأ إيلامها قطعا.
– وماذا تريد مني؟
– أريد أن أسمع صوتها.
– لا صوت لها. ألم تفهم أنها كالحجر؟
– كالحجر ؟! هل تعرفها؟
– هذه عاشقة عصفت بقلبها نزوة عشيق طائش. جاءت تبحث عنه في هذا الكهف. ولكنها يئست. فاكتفت بأن تكون ما فعله بها.. ارتحق روحها حتى جفت. وصارت خاوية وجامدة كالحجر.
كان قلبي يرتجف. وكنت أشعر بالهلع. ورحت أقاوم غصة مفاجئة. فيما كان الصلت يسدد نظره الي قبل أن يقول:
– لم يعد بإمكانك أن تفعل لها شيئا على كل حال. فتعال.. اسمع ما سأقصه عليك علك تستفيد منه شيئا.
انتشلتني عينا “الصلت” من تأملي للغصون التي تحيط بهما إذ أنه كان يسدد نظره الي بقوة وهو يقول بصوت ثابت قبل أن أعرف الطريق الى هذا الكهف كنت أعمل في القرية هل تعرف ماذا كنت أصنع ؟ كنت حفار قبور. نعم حفار قبور القرية. كان كل اهل القرية يكرهونني ولكن لم يكن لهم مني مفر كما أنه لم تكن لي حيلة، فهذا هو عملي الذي ورثته عن أجدادي تباعا. وكنت أحب هذا العمل. خاصة وأنني قد رأيت ما يفعله الموت بالانسان. وكيف يحوله الى جثة هامدة رائحتها نتنة. لا تملك لنفسها دفعا لأذى ولا تستطيع حتى مقاومة الديدان التي تنزح اليها لتنخر فيها كيفما شاءت وحتى. تحللها كنت أحفر بحماس ونشاط، وأحرص على أن تكون الحفرة مناسبة بشكل كامل لطول الجثة وحجمها لا تنقص عنها ولا تزيد حيث إنني كنت أذهب لرؤيتها أولا قبل الحفر. ولم يكن مشهدها يبارح خيالي طوال الفترة التي أقوم فيها حفر ويدفعني دفعا لاستكمال عملي على خير وجه، ولا أهدأ يرتاح بالي قبل أن ينتهي الأمر بإمالة التراب على الحفرة بعد أكون آخر من شاهد الرحيل الأخير للكفن الذي ربما كان. أو لأم أو أخ أو عشيقة الى آخر هذه الصلات التي تربطه بالأقربين غير أنه عندي لم يكن أكثر من جثة سينخرها الدود، لي أن أحفظ كرامتها بالدفن.
ولكني وفي أوقات فراغي كنت أعبث بيدي في الرمال أمامي أثناء جلوسي في منطقة القبور التي كنت أقضي بها كل وقتي تقريبا خاصة وأنني كنت حفار القبور الوحيد بالقرية. كذا كانت أصابعي تتسلل رغما عني لتخط في الرمال أشكالا ورسوما وخطوطا لا معنى لها ولا هدف من ورائها. وبسرور الوقت صارت يداي أكثر درية ومهارة. ولاحظت أن التشكيلات بدأت تأخذ أشكالا لأجساد كنت قد دققت النظر اليها في نزعها الأخير أو حتى بعد موتها وأثناء الغسيل. أجساد لأطفال قتلهم الجوع أو الوباء، وكهول قهرهم الفقر والدين، وفتيات رحن ضحية غيرة عمياه أو عودة زوج سكير قضى الشراب على عقله، وسيدات أكل الدهر عليهن وشرب ولم يبق فيهن إلا هياكل عظمية مغطاة ببعض الأوردة التي تظهر بالكاد خلف جلد الجسد الشاحب المعتليء بالتجاعيد والترهلات. ولكني لم أكن أتأثر بمشهد أي منها كما قلت لك، فقد كان كل ما يثير اهتمامي هو إكرام الجثة بالدفن.
غير أنني دعيت يوما الى منزل في أقصى القرية. أدخلني أهل الدار، الذين كانت وجوههم تفوح بحزن مخيف وتمتليء عيونهم بدموع لا تسيل الى غرفة بعيدة عن باقي غرف الدار لأشاهد من كانوا يتوقعون موته بين لحظة وأخرى.
عندما دخلت الغرفة لم أشم رائحة الموت التي كنت قد اعتدتها في مثل هذه الحالات. وجدت جسدا نحيلا ممدا على الفراش الذي توسط الغرفة، وعندما وقع بصري على الوجه كاد أن يغشى علي، فلم يكن هذا إلا وجه ملاك كريم. وحق الله أني لم أر في مثل حسن هذه الفتاة طيلة حياتي. ولم يستطع نحول وجهها وشحوبه إخفاء حسنها، وحتى عينيها الرماديتين اللتين غارتا قليلا في محجريهما بفعل المرض كانتا تشعان بنظرة طمأنينة مدهشة وهي تتطلع الينا بهدوء.
خرجت من الدار مسحورا. ولم تطاوعني يداي على الحفر لفترة طويلة. ولكن خوفي القديم تغلب علي في آخر الأمر، فلم يكن أسوأ لدي من أن يفعل الموت بجسد هذه الفتاة ما قد يفعله إذا قضى عليها المرض.
وكنت أنتظر كل يوم أن يأتيني خبر موتها فيما يصارعني أمل المقامرين بأنها قد تتجاوز محنتها وتنتصر على المرض والموت. وفي أوقات شرودي شرعت، ودون وعي مني، بتشكيل جسد يماثل جسدها. وعندما انتبهت الى ذلك رحت أتابع ما أفعله بحرص ودقة شديدتين. كانت ملامحها محفورة في خيالي، ومع ذلك فقد أجلت تشكيل وجودها الى النهاية أي بعد أن انتهى من تشكيل الجسد ولكن وقبل أن انتهي من ذلك فوجئت بالخبر المشؤوم الذي حملته الي أختها الصغرى التي جاءت ملتحفة بالسواد فيما أطل من عينيها الرماديتين حزن مخيف. قالت في نبرة محايدة ودون أدنى انفعال:
– تعال.. خذ حياتي الى مثواها الأخير.
وانصرفت عني وهي تسير ببطء شديد. وكنت أرقبها مذهولا وأتخيل أنها هي ذات الفتاة التي رأيتها معددة على الفراش.
لم أستطع إخفاء دموعي للمرة الأولى وأنا أضع الجثة الخفيفة وبحرص شديد الى داخل الحفرة دون معاونة أحد كما أنني لم أستطع أن أكبت نحيبي الذي غافلني ولم أنجح في مداراته وأنا أهيل عليها التراب.
ولكن لم أستطع معاودة العمل بعد ذلك أبدا. كما حرصت على الابتعاد عن منطقة المقابر خشية الوقوع لأسر الهاجس الذي كان يلح علي لفتح القبر والتنعم في النظر الى من شغلت علي أمري.
في الليل كنت أسير في الخلاء غير عابيء بأي شيء. أسير بلا هدف وأحث خطاي على غير هدى حتى ينهكني التعب وتخور قواي فأقع مغشيا علي أو نائما. لا أعرف. ولكني كنت أستيقظ على صوتها يتردد من حولي في كل مكان وربما أنه كان يأتي من أعماقي أحيانا تعال.. خذ حياتي الى مثواها الأخير. وكنت أنهض مفزوعا. أنادي عليها متخبطا هنا وهناك.. ولكن لا مجيب.
تذكرت النحت الذي كنت بدأته لها بالطين فأسرعت اليه.. ورحت أتابع عملي في تشكيل القدمين. وعندما انتهيت صرخت فزعا إذ أن الجسد كان مشابها تماما لذلك الذي رأيته ممددا هناك على الفراش. بعدها شرعت في نحت الوجه. لاحظت أن يدي تتحركان بشكل غريب كأنما تمتثلان لأوامر قوى خفية فلا تزيد قوتها ولا تقل عما يتطلبه أن يبدو كل شيء مماثلا. العينان الواسعتان والأنف الدقيق والشفتان المرسومتان بعناية، والذقن العريض قليلا على رقته. وعندما انتهيت ودققت النظر فيما صنعت يداي رحت أركض بعيدا. فقد بدا ما صنعته مطابقا لها تماما حتى نظرة العينين اللتين كانتا تتطلعان الي بنفس الهدوء وتبعثان ذات الشعور بالطمأنينة.
سرت متجها الى الخلاء حتى أعياني التعب شيدت كوخا من الخشب والطين. ثم أسرعت بعد ذلك بنقل الجسد الذي مسته من الطين الى هناك. ثم أعددت بما تيسر لي من فروع أعشاب الصحراء والقش الذي أحضرته من القرية فراشا مددت الجسد عليه ورحت أتأمله فيما تجيش بأعماقي أحزان لم أعرف مطها في حياتي وتناوشتني عواطف كانت تفيض بالرغم مني فتدفعني لمحادثتها وكأنها مخلوق حقيقي. حكيت لها كل شيء عن حياتي وأمي البائسة التي فقدتها في طفولتي وعن جدي الذي كان يحفر القبور بيديه دون الاستعانة بأي أدوات حتى أطلقوا عليه اسم “الغراب” وعن أختي التي سحروها فراحت تقتل أولادها تباعا حتى اضطر والدي لقتلها وصارت تظهر له في أحلامه كل ليلة حتى مات.
ولكنها لم ترد بشيء وكانت تنظر الي نفس النظرة وينفس الهدوء مما كان يدفعني للصراخ متوسلا اليها أن تنطق بأي شيء أو على الأقل أن تتوقف عن النظر الي. غير أن شيئا من هذا لم يحدث. وأحسست أنني موشك على الجنون لا محالة. وبدأت في الخروج الى خارج الكوخ أسير في الخلاء طوال النهار ولكني لم أتوقف عن مناجاتها كأنني على يقين من أنها تسمعني أحدثها بكل ما يجول في عقلي وما أستطيع أن أستدعيه في ذاكرتي. غير أن صوتها بدأ يتسلل الى وعيي ويحيط بي من كل اتجاه ويتردد بلا انقطاع ما جعلني أفكر في أن أقتل نفسي للخلاص من هذا الوسواس.. “تعال.. خذ حياتي الى مثواها الأخير“.
ولكني عاودت التفكير.. قلت أنني الذي تسببت في كل هذا بنفسي وأن الحل الوحيد هو أن أعود وأحطم ما صنعته فينتهي كل هذا العبث وأعود الى القرية وأمارس عملي من جديد.
عندما دخلت الكوخ اقتربت منها لألقي عليها نظرة أخيرة قبل أن أبدأ في تحطيمها. تأملت عينيها فراعني البريق الذي راح ينبعث منهما ولاحظت أن لون الطين البني الداكن قد تحول الى لون أبيض صاف كالحليب. وعندما لمست يديها أدركت أنهما ناعمتان كالحرير. ألقيت بنفسي بعيدا عنها حتى ارتطمت بجدار الكوخ. ابتسمت الي قبل أن أسمع صوتها هامسا كالحلم.
– لا تخف يا صلت.. ها أنا ذي قد عاودتني الحياة التي بعثتها أنت في من روحك وفرط حبك. كنت أسمع مناجاتك من مكاني البعيد وأنت تستدعيني بأفكارك وقوة عشقك التي جعلتني ألف في كل مكان بحثا عنك وأنتفض بالحنين الى مناجاتك والصدق الذي تفيض به نبرات صوتك التي لم أسمع ما شابهها في حياتي أبدا. وكنت أنادي عليك وأنا أكاد أتمزق خوفا من أن تفقد صبرك ويحل اليأس في قلبك.
ولا أعرف ماذا قلت لها، هذا إذا كنت قد قلت شيئا من الاساس، ولم يكن أمامي مفر من تصديق ما أراه أمامي، فهذا هو ما كنت أتمزق شوقا اليه، ثم إنها تقف بشحمها ولحمها وروحها وصوتها أمامي. غير أنني لم أستطع تقبل الأمر ببساطة رغم كل شيء.. فكيف يتحول ما صنعته من الطين الى هذه الفتاة الساحرة التي أذاقتني من فنون العشق وألوانه ما لم أعرفه في حياتي أبدا. ولم يكن أمامي في آخر الأمر إلا أن أصدق وأن أعيش حياتي الجديدة التي قدرها الله لي. عرفت معها معنى السعادة. وقررنا أن نرحل الى قرية بعيدة لا يعرفنا فيها أحد لنبدأ حياتنا الجديدة التي ملأت روحينا بعشق لا يمكن أن يتخيله أحد وسعادة لا قبل لي بوصفها.
وبالفعل انتقلنا الى قرية بعيدة تطل على الساحل وهناك بدأنا حياتنا. فتعلمت الصيد وصار هو مصدر رزقي وتآلفنا مع حياتنا الجديدة، الى أن جاء يوم كنت أجلس خلال نهاره في السوق أبتاع ما رزقني الله به من فيض البحر حتى فاجأني صوت صراخ كان يقترب مني تدريجيا.. “أنت الصلت.. أنت الساحر.. لعنة الله عليك.. أنت الذي غيبت “محبوبة” أنت الذي سحرتها يا كافر.. أين هي؟!” كان هذا هو أحد اخوتها وتصلب الدم في عروقي وقد فاجأني ما قاله. بالاضافة الى مفاجأة ظهوره أساسا هنا في هذا البلد البعيد.
وبعد مناوشات ومعركة بالأيدي وشد وجذب وصخب وسط زحام السوق الذي التف كل من به حولنا، استطعت الهرب.. اسرعت الى محبوبة وهربت معها لا نعرف اين نذهب عشنا في أحد القوارب عدة أيام بالبحر. ونمنا في العراء بالصحراء ليال لا أعرف كيف احتملنا قسوتها. تنقلنا بين مداخل الكهوف وعلى ضفاف الوديان حتى استطعنا في النهاية أن نصل الى تل عال اكتشفنا أن أهله قد هجروه وبقيت به بعض البيوت التي اخترنا احدها وقررنا أن نبقى به حتى نرى ما يكون وبسرور الوقت عاودتنا الطمأنينة وبدأنا نشعر أننا أصبحنا في أمان.
وبدأت في الهبوط بالنهار الى الوادي لاصطياد ما قد يجود به الوادي والعودة ليلا وهكذا.
عدت ذات يوم مبكرا عن المعتاد وفوجئت بها جالسة تحدق إلي بفزع. ناديت عليها فلم ترد علي. عندما لمستها كانت باردة كالثلج وكان ملمس جسدها صلبا كالصخر. حاولت ما فعلته سابقا غير أن شيئا لم يستجد، ولم تفلح، كل مناجاتي لأيام وليال متعاقبة أن تغير من الأمر شيئا.. وأدركت أنهم سحروها. وكاد الحزن يقتلني غما عليها. وأتيت بها الى هنا.. الى هذا الكهف. لا تندهش.. هي الآن تجلس في هدوء تماما كما هذه الفتاة التي تجلس أمامك..
هل تريد أن تراها.. تعال.. تعال معى..
سرت خلف الصلت وكأنني قد نومت مغناطيسيا وفقدت إرادتي نهائيا.. كان كل شيء يبدو غريبا الى الدرجة التي جعلتني أشعر بفزع حقيقي وتختلط كل الأمور علي ويتشوش ذهني.
وعندما اقتربنا من الردهة الواسعة التي كانت تتوسطها فتاة نحيفة شديدة الجمال تنظر الينا بهدوء رغم ما بدا من فزع يطل من عينيها. كانت ترنيمات الكهف قد ارتفعت الى أقصى حد لها، وكان الصلت قد بدأ يضحك بشكل هيستيري. ترتفع ضحكاته تدريجيا.. فيما كنت أحدق في عيني الفتاة أمامي مذهولا وقد ارتفعت نبرات صوتها لتعلو كل الأصوات الأخرى: “الواهمون.. لا مكان لهم في كهف العشاق“.