كل الفتيات القُدامى لا يعرفنها

فن تشكيلي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أسماء علاء

أوراقها كلها مقصوصة ودموعها جميعها خائرة، إنها تقف وتموت وقوفًا في العين، شيء ما يخترقها، يتعذر عليها نحتها ودفعها بعيدًا خارج جسدها. دائمًا ما تفشل في اللحظة الأخيرة لتقف ناظرةً إليّ، منكسة الرأس، في يدها أوراق مقصوصة وعلى وجهها دموع مقتولة.

تدور الطاولة وتجلس الفتاة، فتاةٌ وحيدة على الطاولة بجوارها أبوان، تشرد بعينها تجاه النافذة المغلقة دائمًا في وجه النور، ثم تستقر عيونها على الكراسي الشاغرة حول الطاولة.

في أقصى الشرق يقولون إن النفْس بدعة. لا وجود للنفْس لأنها دائمًا ما تتركك وتتغير، إنها تتماهى وتتداعى ولا تترك أثرًا. يقولون ولا أقول حتى أقف بهذا الباب، هذا الباب الذي عبرتُ منه وخرجت منه لسنواتٍ، ثم وجدتني الآن لا أذكره ولا أعرفه. إنني لا أكد أميز هذا المكان ويُهيأ لي أنني لم أكن هنا قط ولو للحظةٍ واحدة.

ينفتح ذاك الباب وتجلس فتاة أخرى لها نفس ملامح الفتاة القديمة، فتاة تخلصت من جلد فتاة أخرى تربطهما تواريخ ومسافات ووجه ملموس وعمر يتسلق سلم الزمن ولا أحد غيرها يعرف أنها فتاة جديدة.

إن الفتاة التي عبرت من هذا الباب لا تعبر إليّ الآن، لا أراها ولا أعرفها، لا أذكر من كانت ولا أذكر كيف مضت أيامها هنا، ولا أجد بيني وبينها أي صلة، تلك الفتاة المنحوتة في دموعٍ مقتولة وتاريخها منثور على قصاصات أوراقٍ قديمة، أوراق مقصوصة لم تعد بحوزتي.

ربما هذا الحزن الهائم، هذا الحزن التي يظهر فجأة ويُردم عليه في الغروب فجأة، هذا الحزن الذي يصدمنا من آن لآخر وتلك الأحلام التي لا تتوقف، إنهم مرافقون لتلك الظلال النفسية التي نعرفها الآن. تلك الظلال التي يتبدى لنا أنها نحن وما نكون عليه الآن، على الأقل بالنسبة إلينا فالآخرين مهما اقتربوا لن يعرفوننا.

ربما هذا الحزن هو المعبر، معبر تلك الظلال التي تتغير وتأخذ اسمًا وعمرًا جديدين. كل هذا الحزن هو معبر تلك الظلال لتأخذ ما أنا عليه الآن بعيدًا عني، لأصبح في نهاية المعبر شيء آخر بقصاصاتٍ جديدة ودموعٍ جديدة.

فتاة تنتهي وفتاة تُولد، فتاة تتعثر في الحيرة وأخرى تستعد للفهم وثالثة تمحو كل ما سبق ورابعة تسطر أفكارها من جديد. كلهن تخففن مني وتخففت من جميعهن، كلهن باقيات راسخات الوجود أحيانًا كالأرض في جسد الكون وأحيانًا أكثر منسيات كآثار سيارات عابرة محتها آثار عربات أخرى.

الفتاة الأولى حاولت أن تصرخ كي تُسمع، والفتاة الثانية غضبت زمنًا وأزماناً تلته، والفتاة الثالثة كسرت الطاولة دون أن تفعل حقًا والفتاة الرابعة أرادت أن تقاوم وفتاة أخرى تجلس الآن وحيدة تحشد كل ما لديها دون أن تفعل شيئًا، تعرف أن هناك كرا وفرا وهزيمة وانسحاقا وسطوعا من اللاشيء وضوءا قبل العتمة وأملا تتلوه الشكوك. إنها تحشد كل ما لديها بالاستسلام لما هو كائن، للمعبر، والظلال والحزن.

أضحت الطاولة خاوية سطحًا ومحيطًا، لا أحد يتحلق حولها ولم يترك أحدًا أثرًا فوقها وتلك النافذة المغلقة في وجه النور تخلفت لأننا قررنا أننا سنحظى بنوافذٍ أخرى. كل الفتيات القدامى غادرن إلى الأبد الذي لا نعرفه، وكل ما يوجد الآن هو باب جديد، تقف به فتاة جديدة تعرف أين تقف وبعد حين ستكون هناك أوراق لا تعرفها ودموع ليست لها، سيكونون أشياء رأتها وانمحت، انمحت من وراء نافذة قطار لن يعود بها قط إلى نقطة الانطلاق، ثم تُمحى هي الأخرى لتصبح إحدى الفتيات القدامى اللائي لا أعرفهن

مقالات من نفس القسم