في تلك المساحة التي يختلط فيها العام بالخاص، والتجارب الذاتية الحميمة الصغيرة بالصورة الكبرى للمجتمع ككل، يتحرك السرد منذ الصفحات الأولى لروايتنا هذه، في أناة وتريث لا يدفعان للضجر بالمرة، ويإيقاعٍ دافق يكاد يكون موسيقياً لفرط انتظامه واتساقه. ورغم أن السرد ينطلق من معضلة أن تكون مسيحياً في مصر خلال فترات مختلفة من تاريخها، وكيف يكتشف طفل قبطي في المرحلة الابتدائية اختلاف الأديان ويتعامل معه ويعتاده، في إطار من حياة الطبقة الوسطى في المدن الصغيرة. إلّا أن السرد ينشد، تلقائياً، نحو مناطق نفسية وخبرات اجتماعية أكثر حيوية وعُمقاً بمجرد أن يبلغ راوينا أشده، ويضع يده على أبرز مشكلاته النفسية، ويواجهها بالهرب من دعة بيت العائلة ومن الحماية المفرطة لوالديه، التي تسببت في تأخر نموه العاطفي والجنسي لسنوات طويلة. ثم يواجه الحياة في العاصمة، برقته ووسامته وخجله، طالباً للطب أو عازفاً للجيتار في كباريهات شوارع الهرم ثم مرشداً سياحياً، وهو العمل الذي يستقر فيه لفترة قبل انهيار صناعة السياحة فيلجأ للتدريس.
مع كل مهنة من هذه لدى عادل أسعد الميري مخزون لا ينفد من القصص الصغيرة والشخصيات الطريفة، وهو يعرف عمّا يتحدث فلا يلفق أو يفبرك أي شيء، فكأنه يقف على كنز صغير من الخبرات المباشرة التي تركت أثرها في روحه ونفسه ووعيه، يعكسها صوت الراوي الخفيض، ونبرته الهادئة التي تنزع حيناً إلى السخرية المريرة ثم تنتقل فجأة إلى إقرار الوقائع والحقائق بهدوء ورباطة جأش. ومع ذلك، نعود ونقول إن الراوي كان كثيراً ما يبدو منحازاً لنفسه على حساب الآخرين، وكأنه يحاول أن يثبت لنفسه أولاً وأخيراً بسرده لهذه الواقعة أو تلك كم كان نزيهاً وشريفاً في تعامله مع أشخاص ربما يفتقدون لهذه الخصال، أو كم أثرت مثاليته سلباً عليه في حياته عموماً، ولكنه لم يتخل رغم ذلك عن تلك النزعة المثالية الرفيعة، ولم يكن هجره لمهنة الطب إلّا إحدى نتائج تلك النزعة المثالية، وقد عكست علاقته بمغنية الكباريه لولا تلك المثالية والرومانسية التي كثيراً ما كانت تصطدم بالخشونة المادية والحسية لدى لولا، الشهوانية التي تريد أن تعيش وتحب كامرأة كاملة.
ثم إنك قد تستشعر بين سطور هذا العمل الجميل لحناً آخر لا تعزفه الكلمات، مسكوت عنه كما يقولون، لكنه هناك، تكاد تسمعه وتهز رأسك تفهماً وطرباً له. لعلّ ذلك المسكوت عنه مشكلات جنسية أكثر من مجرد تأخّر الراوي في إقامة علاقة بأنثى حتى بلوغه الثلاثين أو تجاوزه لها، على يد تلك الفرنسية الجميلة. ولعلّ ذلك اللحن الخفي هو الرغبة السرية لدى الراوي في الظهور بمظهر الفارس النبيل المضحّي من أجل الآخرين، وتلحّ هذه النغمة بالذات حين يبدأ في سرد حكايته مع زوجته الفرنسية ريتا، الحكاية التي سيتناولها عادل أسعد الميري في روايته التالية – هذه المرة بكلمة رواية على الغلاف الأمامي – وسوف نتناولها نحن هنا الأسبوع المقبل.
على مدار صفحات الرواية التي تتجاوز المئتين لم أنتبه إلى إشارة واحدة لمسألة الأحذية الضيقة التي يشير إليها عنوان العمل، لكن المجاز الجميل والحسي يلعب دور مظلة كبيرة تضفي على حكايات ناجي الدرجة المطلوبة من الرمادية والإحساس بالاختناق والذنب والارتباك النفسي. إن اعتراقات ناجي أقرب إلى مرارات، ترثي مجتمعاً أخذ ينحدر ويتدهور بسرعة الصاروخ، ولم يكن الراوي بريئاً تماماً حين أخذ يصوّر الفوارق المذهلة بيننا وبين الغرب، وخصوصاً من ناحية الحريات الفردية والجنسية، ففي حين نرى هنا الجوع والكبت والازدواج يرصد هناك الانطلاق والعفوية والعري البسيط الجميل، وإن ظلّ هو نفسه– بطبيعة الحال – غير مرتاح تماماً مع تلك الحريات حين تتجاوز الحد المعقول بالنسبة له، فلا يرتاح للشخص الترانس-أو الذي يرتدي كالنساء ويتصرّف مثلهن.
تأخر أستاذنا عادل أسعد الميري في النشر، ولكنه لعلّ ذلك من حُسن حظه وحسن حظ قرائه، بعد أن طابت واستوت خبراته وقدراته الكتابية بالدرس والممارسة في شبه عزلة. وتأخرنا نحن أيضاً طويلاً في الانتباه لخصوصيته، ولكن أن نصل متأخراً أفضل كثيراً من ألا نصل على الإطلاق، أو كما يقولون.