محمود عياد
المكان : الكونغو
الزمان :عام 1902
الشمس حارقة لا ترحم أحد والعرق يجذب الذباب إلى الجسد الأسود الممدد على الأرض التي لا تلقي بالاً بما يحدث فوقها .. رجال الملك يحاوطون الجسد والابتسامات الساخرة تعلو وجوههم البيضاء القبيحة ..يتقدم أحد كهنة الإله الأبيض نحو الجسد، الآلهة البيضاء لا تعرف الرحمة .. لا تعرف سوى العاج والمطاط والضرب بالسياط، يعرف ما سيحدث الآن ولكنه يستمر بالمراقبة .. ربما تستيقظ الأرض من غفوتها وتبتلع رجال الملك أو ربما ترسل الشمس ناراً كتلك التي تحرق رأسي الآن فيهرب رجال الإله الأبيض بعيداً ..
ولكن استمر تقدم الحارس نحو الجسد .. أخرج سكيناً لامعاً كعينيه ثم قطع كف الرجل الأسود في برود ..الرجل الأسود لم يصرخ قط ولكنه جال بعينيه في المكان حتى وجدني .. ثم ابتسم ، ومات
الشمس والأرض والسماء والطبيعة كانت لنا يوماً ما ولكنها الآن كلها ملكاً للإله الأبيض ..
ليوبولد الثاني، هذا اسمه الذي سمعته يتردد دوماً من أبي الذي قطع الجنود يده منذ قليل ..
—
ولكن ما معي لم يكن يكفي.. والشمس فوق رأسي العارية تزيد المهمة صعوبة..
شفتاي يابستان كزرعة صبار في صحراء قاحلة بخلاف أن الصبار يدرك الماء بجذوره..
رجال الملك عند النبع يجب ألا أذهب هناك الآن..
ترى أين تذهب الكفوف المقطوعة؟
عامان مرا منذ أن رأيت أبي جسد أسود ممدد فوق أرض كافرة لا تبالي واليوم أبحث عن نهاية مختلفة .. هل يستحق المطاط كل ذلك ؟
“في هذه الفترة أجبرت القوات العامة السكان على جمع المطاط وأن يزود كل رجل الحكومة حصة من المطاط كل أسبوعين وإلا فمصيره العقاب ، كان الجنود يستلمون طلقات محددة ولديهم أوامر بقتل الكونغولي بطلقة واحدة فقط ولكي يثبت الجندي أنه قتل الضحية كان عليه أن يقطع كف الرجل الاسود ويقدمها إلى إدارته “
—
كان أبي يحكي لي أن الأرض كانت لنا يوما ً ما وكان الرجال يخرجون إلى الحقول والغابات بصحبة زوجاتهن وكانت جدتي لي تغني لي دوماً الأغنية التي غنتها عند النبع قبل أن تقفز فيه عارية يتبعها جدي الذي أسكره غناءها ..
“لماذا كان الإله الأسود دوما مسالماً لا يعرف سوى الحب والغناء والسلام بينما جاء الإله الأبيض قوي .. لا يتورع عن قتل عصفور يغني من أجل التسلية فقط
لا شيئ مثل حضني أمي وتهويدة جدتي الآن .. ولكن أمي وجدتي أخذهما الجنود في الصباح لأني لم أتمكن من جمع الكمية المطلوبة بعد.
الشمس الخائنة تحرق رأسي أكثر فأكثر والأرض غير ممهدة تؤلمني بصخورها المدببة منذ أن تخليت عن حذائي الأسبوع الماضي من أجل بعض الماء.
كان والدي إسكافياً يوما ما .. وكنت أضع أجود أنواع الأحذية وأسبق جميع رفاقي في الركض من الشجرة العجوز التي تقبع في منتصف القرية وحتى النبع الذي أصبح معسكراً لجنود الإله الأبيض الآن ..
أعرف يقيناً أن الأرض رغم جحودها اشتاقت لأحذية والدي الملونة وأن النبع في سجنه رغم آسريه يشتاق إلى غناء جدتي وإلى قبلات العشاق التي كانو يتبادلونها هناك قبل يتطهروا من ذنوبهم ويقفزوا عاريين في النبع المقدس ..
انتصف النهار ولم أكمل حصتي بعد ..يجب أن أسابق الشمس وأجمع المطاط قبل الغروب .. تحذير الجنود كان واضحا في هذا الشأن ولكني لكي أسابق الشمس أحتاج حذاء والدي .. والدي الذي قتلته الأرض والشمس بسكوتهما ورضاهما عما حدث ..
—
يوما ما سأسأل الإله ..أين تذهب الكفوف المقطوعة
—
الشمس تقارب على المغيب ولكني هذه المرة منتصر .. تمكنت أخيراً من جمع الحصة المطلوبة من السائل الشيطاني الذي ابتلى الاله به أرضي ..سبقت الشمس بساعتين تقريباً وبدون حذاء .. نشوة الانتصار وجهتني نحو النبع .. الأرض صارت ممهدة لطيفة والشمس صارت حانية ، أكاد أسمع صوت غناء جدتي ..جفناي ثقيلتان ونسمات الهواء العليلة تسكرني ..حسناً مازل أمامي ساعتين
—
حين استيقظت لم أجد الشمس في السماء، تلك المخادعة ضللتني وأغرتني بالنوم لتكسب السباق ..
جمعت ما معي من مطاط وصرت أركض نحو النبع .. أين حذاء أبي الآن ؟؟
الأرض عادت لخيانتها لتصير غير ممهدة وتنغرس الصخور في قدمي الصغيرة ولكني أركض …
القمر ينظر إليّ في شفقة ..أريد أن أسأله عن أمي وجدتي ولكني أخشى من معرفة الإجابة ..فأركض ..
حين وصلت النبع كان هناك صوت الغناء.. مضى دهر منذ أن سمعت جدتي تغني ولكن صوتها لم يكن خشناً كهذا قط ..
كان الغناء يتصاعد من حناجر خشنة وعقول أذهبها الخمر وبين أقدام الجنود كان جسدي جدتي وأمي ممددا على الأرض غير الممهدة …بدون كف
—
يسمونه الـ”جيكوت” وهو عبارة عن سوط ثبتت في نهايته أسنان فرس النهر ..
في اليوم التالي .. وتحت نظر وسمع الشمس الحارقة وفوق الأرض التي تمتلى بالصخور المدببة كان ذلك الجسد مقيداً الى عمور خشبي ليصبح ضهره الأسود للجنود
في الضربة الأولى انغرست أسنان فرس النهر في جسدي الصغير .. ولم أصرخ
في الضربة الثانية سال خط رفيع من دماء الحمراء فتسائلت ..هل دماء الرجل الأبيض حمراء أيضا ً ؟؟ أرجو ألا تكون كذلك ..ولم أصرخ.
في الضربة الثالثة سمعت غناء جدتي بصوتها العشريني الرقيق ورأيت أبي مقبلاً وفي يده حذاء جديد ..سأسبق الشمس بلا شك في المرة القادمة ..لم أصرخ.
في الضربة الرابعة .. أخيراً وصلت إليه وسألته ..”أين تذهب الكفوف المقطوعة ؟”
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري، والمجموعة صادرة عن الهيئة العامة للكتاب 2023
وحاصلة على جائزة معرض الكتاب لهذا العام