كشك أم مسعد

أسامة كمال
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أسامة كمال

حين أطلت صورة الزعيم على كل الشاشات، شعر الجميع بأن هناك حدثاً جللاً لا يقل بحال عن عودتهم الى مدينة البحر بعد ظلمة ستة سنوات فى الهجرة وغربة المنافى والفيافى والقرى والنجوع والتنقل من البر الى البحر ومن البحر الى البر.. سنوات طويلة مرت عرف فيها أبناء المدينة الفرق بين التنزه  فى ربوع الشوارع الحانية و(البواكى) الظليلة لمدينة خرجت من  لمعة البحر وتنسمت أريج الأحلام الطليقة لمغامرين فرنسيين ويونانيين ومصريين وبين مدقات وأحراش الطرق الوعرة والصعبة في تغريبتهم القاسية الطويلة.. سنوات التنزه  افتقد فيها أبناء  البحر أسراب النوارس وغبش المغيب وسكنوا سكينة القرى وخمولها وغيابها وابتعدوا عن أمواج مدينتهم وظلالها وغابوا في جفاء سماوات البلاد والعباد… قرر الزعيم  تحويل مدينة البحر من مدينة صامدة على خط النار والدم والمقاومة إلى مدينة حرة في التجارة تقبع وحدها على فضاء الخريطة المصرية، لتتحول المدينة بين صباح  وليلة الى (كارتونة) معبأة بالبضائع الملونة بألوان قوس قزح العابرة من الشمال الى الجنوب، ومن الجنوب الى الشمال ومن الغرب القابض على أسرار اللحظة الى الشرق القابع في القرون القديمة.. لم يكن يدرك الزعيم حينها أو من سمعوه وشاهدوه أن أعشاشا ستمتد على أطراف المدينة وضواحيها لإيواء الوافدين والنازحين والخارجين من كل المدن القريبة والبعيدة من فقراء المصريين بصحبة المهجرين العائدين الى مدينتهم من البعاد.

امتدت الأعشاش حتى تجاوزت أربعة عشرة ألفا من الأكواخ والأعشاش والخنادق القديمة.. أعشاش من الخشب (الحبيبى) ورقائق (الابلاكاج) مغطاة من أعلاها بطبقات من (البلاك) الأسود القاني يقي الساكنين من لسعات المطر الوخزة  في الشتاء ومن حرارة الشمس الحارقة والملتهبة فى الصيف.

العجيب أن خيطا طويلا من تلك الأعشاش غطى مساكن الزعيم السابق (ناصر) ولم يبق منها غير اسمها، وكأن زمنا غاب وزمنا حضر وزعيما حل وزعيما رحل، وبشرا ركبوا البحر وأتوا الى مدينة اخرى غير التي كانت هنا منذ سنوات قليلة.. المدهش بأن هناك (كشكاً) بـنى على عجل لبيع المثلجات والمرطبات وحلوى الاطفال واحتياجات أصحاب (العشش) وأسرهم.. كشك فقير كالح مهترئ يغلب عليه اللون الأزرق لون البحر ولون التخفي من نيران الحرب ولون الزمن الجديد وكأن طبقات الزمن امتزجت في ألواحه وأخشابه.

الكشك تصدر المشهد بسبب موقعه الكائن امام الأعشاش والأكواخ والخنادق وأيضا بسبب رواج بضائعه الفقيرة بين أفراد الشعب الجديد.. الكشك كان لسيدة جنوبية تدعى (أم مسعد) بالرغم أن أحدا لم ير أو يعرف مسعداً أو حتى يعرف طريق السعد.. ربما كان مسعد في تغريبة طويلة في صحراء خليج نهاية السبعينيات أو  يقطن بعيدا مستقلا في عمل آخر او ربما كان متفرغا لتهريب البضائع المستوردة من منافذ المدينة الصغيرة

 يحرس الكشك كلب لا يكف ابدا عن النباح على الغادي والرائح وعلى الذاهب والآتي وكأنه يعلن بنباحه بداية زمن جديد… وظل الكلب على نباحه لسنوات وسنوات حتى أتى اليوم الذى عدت فيه لنفس المكان ولم أجد الكشك أوأم مسعد أو الكلب..  غاب المكان بكل ما ومن فيه وحلت محله  أماكن اخرى وبشر آخرين ولم يبق من البقعة القديمة في سماء الذاكرة إلا نباح كلب أم مسعد على الزمن الذى اختفى من الأرض وأيضا من السماء

…………………….

*كاتب وشاعر ومحرر ثقافي

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون