أمال الفريخة
تردّدت كثيرا قبل أن أكتب عن “شوارع نورة عبيد” وكنت كلّما طالعتني قراءة للكتاب أقول لنفسي: “لم يتركوا لي شيئا”. الآن وقد سنحت لي الفرصة وجمعت شتات أفكاري أعرض قراءة من قراءات “شوارع” لنورة عبيد أو شوارع نورة عبيد الصّادرة عن دار زينب للنّشر والتوزيع في طبعتها الأولى لسنة 2024.
عنوان يحيلنا مباشرة على شوارع مختلفة، شوارع غير تلك التي تعوّدنا أن نجتازها في اليوم مئات المرّات فلا نرى فيها ما يجذبنا إليها أو ما يثير فضولنا للحديث عنها. كنت أتخيّل أنّي سأجد شوارع أعرفها، أمكنة أو بعض أمكنة مررت بها ذات يوم، لكن لم تكن علاقة الكاتبة بالمكان في الكتاب مجرّد وصف و إطناب في تتبّع المعالم الخارجيّة لهذا الشارع أو ذاك. كان الأمر خلاف ما تخيّلته. ففي الغلاف بدت “شوارع” نورة عبيد مظلمة إلاّ من أضواء تعوّدنا على رؤيتها في كلّ شارع، صاحبتها أضواء بعيدة تنير معالم المدينة أو الطريق. ولعلّها أضواء أديبتنا التي التمست النور في الظلمة لتسلّط الضوء على شخصيّة أو أخرى، على فكرة أو قضيّة، على زمن أو فترة، على مكان أو بعض منه، كانت شوارع مألوفة واقعا، لكنّها مختلفة صورة وتصوّرا.
أعجبتني فكرة التّجوّل في شوارع قصصيّة إن جاز التّعبير، ولجت نهج الفيلات فوجدت الكاتبة تغوص في أعماق شخصيّة “العمّ صالح” وكأنّها أرادت أن تقول إنّه لا انفصال للشخصيّة عن المكان. فهي تَتلوّن به وتُلوّنه. وبها قادتنا الكاتبة إلى جولة نتتبّع فيها الرّوائح في هذا الشّارع أو ذاك. وما أشدّ تأثير الرّوائح على الإنسان؛ جولة بدأت برائحة اللّحم التي كانت تفوح من كلّ مطبخ في شارع الفيلات. وكأنّها سرّ من أسرار هذا الشارع. رائحة تتبّعناها لندخل كلّ بيت. وندرك أنّ “للبيوت روائح” بل للشوارع روائح؛عفوا أسرار باحت بها صفحات الكتاب و كشفتها.
هكذا كانت شوارع نورة عبيد؛ فمن رائحة اللّحم إلى رائحة الخبز، روائح أكّدت أنّه لا استمرار للحياة دون طعام. وبين الطعام والطّعام نستفرغ، لنستطيع أن نستمرّ في تتبّع السّاردة الّتي دلفت بنا إلى شوارع خاصّة، لم تعد كذلك. فكشفت الخلوة الّتي لم تعد خلوة وسط روائح انتشرت، حتّى بلغت الكلمات… حتّى شارع الحرّية لم يستثن من ذلك إذ انبعثت منه روائح جعلت الجميع يفرّ. وكأنّ اختلاط الحرّية بمفاهيم أخرى جعلت الوضع منفّرا.
ومن شارع إلى آخر تنفض الكاتبة الغبار عن شارع المنسيّات إلى نهج البلديّة في جولة للبحث عن السعادة في نهج، لم تجد فيه البطلة أي سعادة غير الاسم، فنتحوّل صحبة أديبتنا إلى شوارع تثير فيها ذكريات شخوص مرّت بها. فعلقت بها روائح من الذكرى والذّاكرة، لنصل معها إلى شارع المودّعين لكن بالورد. وفي نهج الورد تفوح مرة أخرى رائحة الذّكريات الجميلة والطفولة البريئة التي تبقى عطرة رغم السواد الّذي يلفها.
في “شوارع” لم نجد انفصالا بين المكان والزمان، بل إنّ حركة السّرد كانت مرتبطة بكليهما؛ فيهما تحرّكت السّاردة وأثارت قضايا وذكريات. فيها من الحنين والحزن والعطف والاشمئزاز والثورة والصّدق والوفاء الكثير.
هي شوارع شخصيّات مرّت بها السّاردة، أو تصوّرت مرورها بأماكن بدت مألوفة لديها وأكثر من ذلك. أماكن ارتبطت بزمن جميل أو خلافه. فلكلّ مكان زمن واقعيّ وآخر نفسيّ زمن يلوّنا بالأفكار والكلمات.
شوارع” نورة عبيد هي شوارعها كما رأتها هي، أو كما أرادت أن تراها. لكن لو بحثنا عن أنفسنا لوجدنا في شوارع نورة بعضا منها، بعضا من أفكارنا أو شاطرناها بعضا من آرائها، كشفت شوارعها عن ذات مفعمة بحبّ البساطة والصّدق والوفاء لوطن، لمجتمع، لشخوص، لذكريات، لأفكار، لقضايا.
وتبقى الشوارع رغم اختلاف أسمائها ذات دلالة خاصة. فقد أبت أديبتنا إلاّ أن تعزف لحنا مصاحبا لنشيد الشّوارع، لحنا اجتمعت فيه الأصالة بالحداثة، الأدب بالسياسة، المكان بالزمان، والأهم من ذلك لحن اجتمعت فيه آمنة و الخبز ووردة وعامر وراية ووفاء. أسماء حمّلتها الكاتبة رموزا كما الشّوارع لتخبرنا أنّها وجدت ضالّتها أخيرا. ومع الرّاية الّتي ستظلّ ترفرف عاليا ستظلّ الشوارع آمنة عامرة تضوع برائحة الورد والخبز.
شوارع نورة عبيد كانت بنكهة جديدة خاصّة في الأدب النّسائيّ التّونسيّ تشرّع لشوارع أدبيّة بل عوالم أدبيّة تجمع الجرأة بالبساطة والواقع بالخيال…