كانت تبتلع صوتها

art
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد فرحات

في مَدينةٍ صَغيرةٍ أرهقَها الصَّمتُ، كانَ النّاسُ يَبتَلِعونَ الغَضَبَ كما يَبتَلِعونَ الهَواءَ.
كُلُّ شَيءٍ كانَ مَكتومًا: الأصواتُ، الأحلامُ، وحتى الأسماءُ.
اللافتاتُ تُحيّي الجَلالةَ المجهولةَ، ومكبّراتُ الصوتِ تُذيعُ نغمةً واحدةً منذ أعوامٍ،
ونوافذُ البيوتِ مُغلَقةٌ بإحكامٍ كأنَّها تُخفي شيئًا أثمنَ من النّاسِ أنفسِهم.
في السّاحةِ الكُبرى، كانتِ التماثيلُ تَبتسِمُ ابتسامةً واحدةً لا تَشيخ،
والكِلابُ الضالّةُ تسيرُ بنظامٍ غريبٍ،
كأنَّها تَحفظُ تعليماتِ الحراسةِ مثلَما يَحفظُها الجُنودُ.
في يَومٍ عادِيٍّ جِدًّا، تَوَقَّفَ عامِلُ النَّظافةِ في مُنتصَفِ الشّارِعِ.
كانَ يَكنُسُ الغُبارَ نفسَهُ مُنذَ عشرينَ عامًا،
ويَعرفُ الوُجوهَ أكثَرَ ممّا يعرفُها العسسُ.
رَفَعَ رأسَهُ وقالَ بصَوتٍ عالٍ:
أتكلموا- .
كانَتِ الكَلمةُ بَسيطَةً، لَكِنَّها شَقَّتِ الهواءَ كالرَّعدِ.
ارتبكَ العُصفورُ على سِلكِ الكَهرباءِ،
وتَوقَّفَ صَوتُ المُذيعِ لحَظَةً، كأنَّهُ سَمِعَ ما لا يَنبَغي سَماعُه.
فتحت امرأةٌ شُباكَ غرفتها كأنها تشم الهواء
ثُمَّ تَبِعَها رَجُلٌ عَجوزٌ كانَ يَتَكِئُ على عرجه،
ثُمَّ صَبِيٌّ يَحمِلُ حَقيبَتَهُ المَدرَسِيَّةَ يلتفتُ بتردد.
في المَساءِ، ظَهَرت على جِدارٍ مَجهولٍ وَرَقَةٌ كُتِبَ عليها:
«الكلامُ مِش جَريمة».
في اليومِ التّالي اختَفَتِ الوَرقةُ،
لكنَّ الجِدارَ ظَلَّ مَغسولًا بعيونٍ تَرقُبُ من يَمُرّ.
لَم يَتَغَيَّرِ شئٌ،
وَلَكِنَّ شَيئًا صَغيرًا تَغَيَّرَ في العُيونِ:
صارَ فيها ما يشبه الضَوءُ .
 

 

 

 

مقالات من نفس القسم