قَبْلَ أَنْ يَلْفظَهُ الحُلْمُ

محمد أبو الدهب
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد أبو الدهب

(1)

   مثل واحدٍ استشعرَ موتًا مفاجئًا فهرعَ إلى كلّ وجهةٍ يوصِي بوصيَّته النهائية، لفَّ أكثر من عشرين سيجارة، شوطًا واحدًا، حتى لا يُضطَّر إلى تكرار العملية، الليلة على الأقل؛ فقد صارت ثقيلةً على تَصَبُّره وعلى عموده الفقري، أنْ يفرش ورقةً من جريدةٍ قديمة على الأرض، ويتقرفص برهةً قبل أن يتربَّع، يُفرغ محتويات الكيس الأسود: علبة اللفِّ التي تَفسَّخَ صفيحُها قليلًا، حفنة التبغ من النوع الرخيص، باكو الفلتر عبوة 400، دفتر البفرة بالعلامة الخضراء، ثم تعشيق الأشياء في بعضها، بالمقادير المحدَّدة، والأسلوب المقرَّر، لتنقذفَ السيجارةُ، هزيلةً وأقصرَ من المتعارَف عليه، خارج العلبة، مثل كتكوتٍ يرفع رأسه، لأول مرة، خارج بيضةٍ مفقوسة. وكان يفكِّر ألَّا يعودَ إلى صُنْعِ سجائره بيدَيْه مرَّة أخرى، بعد أن يستنفعَ بما تبقَّى في الكيس، وأن يلتزمَ شراءَها جاهزةً، ومن أغلى الأصناف. وكان يفكِّر ألّا يتوقف عن التدخين، لحظةً، في أثناء قراءته التقرير. ويفكِّرُ أن التقاريرَ باتتْ كثيرةً ومُخيفة.

(2)

   كانت غرفةً علوية، نافذتُها مفتوحةٌ تمامًا، كما لو أن الجدارَ بأكمله مفتوح. تلمعُ قطعةٌ من سماءٍ ليليَّةٍ -آخِر عربةٍ في قطار الليل- مالئة فراغَ النافذة، خالية من رتوش السحب، خالية أيضًا من ظلال القمر، لكنها مضيئة. ورغم أن المُنكبَّ على المكتب، الممثِّل أو بالأحرى الشخصيَّة التي يتقمَّصها، ظهرَ في الفيلم يقرأ ويكتب، مستغِلًّا هذا السُّكون النادر، المُشجِّع، مُولِّيًا ظهره لتلك اللوحة، التي كانت تمنحُ المتفرّجَ انطباعًا بأن مُلَّاك الكون قد تنازلوا عنه طواعيةً للمثقَّف المأخوذ بثقافته في الفيلم، أو للموظَّف المرموق الذي استغرقتْه واجباتٌ منزليّةٌ لوظيفته فأعدَّ عُدَّته ولفَّ سجائره. كانت مُشاهدتُه الفيلم، قبل سنواتٍ عديدة، أحدَ أسباب تعلُّقه بالغرفة. رغم كلِّ ذلك، فإن المُكلَّفَ بقراءة التقرير، مُدخِّنًا بلا توقُّف، حملَ الكرسي إلى الجانب الآخر من المكتب، ليقابل كلّ هذا الجمال، لا يستدبرُه، دون أن يخشى انحرافَ تركيزه أو شرودَ بالهِ عن البنود والملاحظات والتوصيات التي لا شكَّ أنها مُرفَقةٌ بالتقرير.

(3)

   قبل أن يشرعَ في القراءة، وقد كان وشيكًا جدًّا، وقبل حتى أن يُشعل سيجارته الأولى، وكان ذلك أيضًا وشيكًا جدا، أخذتْه سِنةٌ من النوم، غفوةٌ طارئة لم يكن يحدسها، جعلتْ رأسه يهدل طائعًا، ليرتطم ارتطامةً خفيفة بالذراع المفرودة فوق المكتب، وأوراقُ التقرير قد تشعَّثتْ قليلًا؛ لأنه لم يشبكْها بدبُّوس، مع أنه كان ينتوي ذلك منذ تسلَّمها من رئيسه المباشر، كان قد أمسك بالدّبَّاسة فعلًا بمجرَّد انصرافه من عند الرَّجُل. رأى أنه يعوم في بحيرةٍ صغيرة، ماؤها مُخضَرّ، تُشرف على سكَّةٍ حديدية، وفي وسطها تنبتُ شجرةٌ عملاقةٌ ظليلة، أحسّ براحةٍ مبدئيّة لاستطالتها في الماء الأخضر على هذا النحو، والتفتَ يمينًا ويسارًا، كأنما ليقرأ لافتةً تُرشده مِن أين وإلى أين يتحرَّكُ القطار على السِّكة، ولاحظَ أن القضبان فرديَّة، لا يمكن أن يتلاقى عليها قطاران، وتنبَّأَ بأن تصادمًا مُزلزِلًا سيقعُ يومًا ما بين قطارَيْن عنيدين، وسمعَ صوتًا تحته، في جوف البحيرة، كأن سمكةً كبيرة تسبَحُ وتتقلَّبُ قبل أن تنطَّ، شاقَّةً سطح الماء، على سبيل اللعب، وتأهَّبَ ليشاهدَ ما سيعتبرُه لقطةً طريفةً وجذَّابة. إنفلقَ الماءُ بِدَويٍّ هائل، طغى على صخبِ قطارٍ عابر، عن أفعى سوداء ثخينة، طارتْ مرتفعةً، دون حتى أن تمنحَه فضْلَ نظْرة، كأنها ذاهبةٌ إلى السماء لِعلَّةٍ لا يعرفها سواها، ولم يكن لِطولها نهايةٌ لأن جسمَها لا يزال يخرج من الماء، حتى أن الشجرة العملاقة لم يعد لها وجود، وكان قد لمح أوراق التقرير، تقطرُ ماءً، مشبوكةً بأنياب الأفعى كما لو أن فمها دَبَّاسةٌ كبيرة. شهقَ شهقةً خانقةً ثم فتح عينيه، ولما استوعب أنه خالجَ كابوسًا أشعلَ سيجارته الأولى، وزفرَ نادمًا: أعطيتُ هذا التقريرَ أكبر من حجمه.

(4)

   قام متحمِّسًا إلى المطبخ؛ يصنع كوبًا من القهوة الثقيلة، يكافحُ استدراجَه إلى غفوةٍ أخرى، مع قناعته بأن غفوته الكابوسيّة، التي فارقَها للتَّوِّ، قد نبَّهتْه تمامًا. والمطبخ لم يكن إلّا ركنًا صغيرًا من الحجرة، إلى يمين الداخل من الباب الوحيد، وراء ظهرِ الجالس إلى المكتب، المُقدِم على قراءة التقرير مواجهًا النافذة السَّماوية. مثلما أن غرفة النوم هي السرير الضَّيِّق، المتروكُ بالعَرْض في الزاوية اليسرى، بحيث إنه إذا اضطجع ليلةً على جنبه الأيمن، فلنْ ينظرَ أبدًا إلى المكتب أو المطبخ، في حال أبقى عينيه مفتوحتين على أملِ أن يُغلقهما النعاس. أما دورة المياه فإنها خارج الحدود، مُتاحة له ولغيره، يهبطُ إليها سُلَّمًا قصيرًا. بعضُ معارفه كانوا يوبِّخونه من صُدفةٍ إلى أخرى؛ لأنه يقيم كالمشرَّدين في لوكاندة قديمةٍ مشبوهة، تاركًا بيت عائلته الفسيح دون سببٍ يفهمونه، خصوصًا أن عائدَ منصبه الحسَّاس يوفِّر له امتلاكَ منزلٍ فخم لو أراد الاستقلال بحياته، هو الذي تجاوز الأربعين ولم يتزوَّج. وكان يُحبِّذ الدِّقَّة وتَسمِيَةَ المسمَّيات بأسمائها، ربما بوازعٍ من خبرته، التي صارت لا تُضاهَى، في قراءة التقارير. عاد إلى المكتب. رشفَ من القهوة، وأشعل سيجارته الثانية.

(5)

   تتابعتْ رشفاتُه الملتذَّة، تزامنًا مع أنفاسه المسحوبة من السيجارة الرابعة. كان قد أرجأ البدء في العمل إلى ما بعد مرحلة القهوة. أرسل نظرةً طويلة خارج النافذة. رفع ذراعيه عاليًا، مُعلنًا تجدُّد نشاطه، كما لو أن الهدوء الراسخ والمضيء لقطعة السماء الباديةِ قد فعل به ما لم تفعله القهوة. وفاضَ بإحساس التَّيقُّظ، فأنزل ذراعيه ليجمع أوراق التقرير المبعثرة قليلًا. مدَّ ذراعًا ليتناول القلم المحدوفَ عند حرف المكتب من ناحية غرفة النوم. اعتادَ ألّا يقرأ إلا والقلم في يده، قد يُضطَّر في أثناء القراءة إلى كتابةِ تعليقٍ موجز في الهامش. هَدَلَ رأسُه بطيئًا، ليرتطم ارتطامةً خفيفة بالذراع الأخرى المفرودة فوق الأوراق. رأى أن أخته جاءت لتزورَه في بيته.. بيته الذي لم يزل غرفةً بحمَّامٍ مشترَك في لوكاندة عتيقة، وتُوشكُ نافذتُها أن تهيمَ في السماء. تضايقَ إذْ خمَّنَ أنها ستحاول إعادته. إنها لا تيأس رغم المحاولات الكثيرة الضائعة. تكبرُه بعامين، وكانت الأقربَ إليه والأكثر تفهُّمًا، هناك. رحَّبَ بها، وأغلق الباب، وهَمَّ بأن يعزمَ عليها بكوب شاي، كأنما ليُؤجِّل إنشادها نشيد النُّصح الحزين، لولا أنها، لمّا وقفتْ في الطُّرْقةِ بين المكتب والسرير، خلعتْ عباءتها فجأةً بحركةٍ سريعةٍ سهلة، كما لو أنها لم تفعل سوى ضغطةٍ على زِرّ. ألقتْ بها على الكرسيّ، واستلقتْ فوق السرير، بمنظرها المُتحوِّل في قميص نوم أسود قصير، وقُدِّرَ له أن يرى –أثناء وبعد خلعها، ثم أثناء وبعد استلقائها- عُري ذراعيها السمراوين، وكتفيها البيضاوين، ونصف ظهرها بتجويفه الهيِّن الواضح رغم اللحم، ومعظم نهديها الثقيلين المَرخيَّين، وفخذيها اللامعين السمينين وقد توزّعت المطبَّاتُ الدُّهنيةُ عليهما وعلى ما أطلَّ من ردفيها، ثم ساقيها السميكتين الملساوين رغم نثارِ الشَّعر النابت فيهما. وهو خبط الأرض بقدمه، وتراجع خطوة، وتذكَّرَ التقرير كحُلمٍ داخلَ حُلم، وقال إنها لا يمكن أن تكون أختَه، وإنها امرأةٌ أخرى حَلَّتْ في جسدها لغرضٍ لن يتنازلَ عن العلم به، ولو كلَّفه ذلك عدمَ قراءة التقرير الليلة، وإنّ هذه المرأة الأخرى بدتْ رشيقةً في عباءة الخروج عما هي عليه الآن في قميص النوم. وتحفّزتْ شهوتُه على نحوٍ باغتَهُ. وغافلَه قضيبُه فانتصب. وخاطبَ نفسَه، كأنما يعتذر، بأن الأمرَ مُوجَّهٌ إلى المرأة لا إلى أخته. ولما استحكمَ انتصابُه واحتدَّ، رفع عينيه ليرمقَها بروحٍ جديدة، وكان قد غضَّ بصرَه بعد أن رأى ما قُدِّر له أن يرى. قابلتْ نظرتَه الجديدة الوَجِلة بضحكةٍ محايدةٍ لم يدركْ مرماها. وتذكَّرَ أنه وضعَ احتمالًا ألا يقرأ التقرير الليلة، فأقعدَهُ شعورٌ بالرُّعب مقرفصًا على الأرض. هي فتحتْ فخذيها، ولم تكن ترتدي بينهما شيئًا إلا أوراق التقرير، ملفوفةً ومرشوقة. وهو فتحَ عينيه على أنَّات اللذة المقذوفة خارجه، وقد ظنَّ لوهلةٍ، قبل أن يلفِظَه الحُلمُ، أنه كان يقدِرُ على حَبْسها داخله. قبضَ بكفَّيْه على دماغه يدعكُها ويفكِّر بأن التقارير صارت ملعونة، بيدَ أنه ارتأى من غير اللائق قراءة التقرير وهو مبتلٌّ بمَنيِّه، فأخذ طقمًا داخليًا وخرج إلى الحمّام راجيًا ألا يكون مشغولًا.

(6)

   رجعَ من الحمّام يصفِّر ويغنِّي. وكان، تحت ماء الدُّوش، قد تابَ من خطيئةِ وصْفِ التقارير بالملعونة. سحبَ آخِرَ ورقة من التقرير. وضعَ توقيعه بطريقته الفريدة التي تجعل حرف الحاء يبتلعُ كلَّ حروف اسمه الثلاثيّ. حفظ الأوراق في الدوسيه البلاستيك، وذهب لينام. يعلم أنه لم يكن مطالَبًا يومًا، طيلة السّنين، بقراءة التقارير، ولا بكتابة تعليقاتٍ على الهوامش، ولا حتى بإبداء رأي شفهيّ. يعلم أنه فقط مجرد رقم بين الموقِّعين، حتى إذا التأمتِ التوقيعات استحالتِ الهواجسُ قانونيّةً جدًّا.   

  

مقالات من نفس القسم

تشكيل
تراب الحكايات
موقع الكتابة

ثقوب