لا أرض لى، لا انتماء، ولا وطن، أنا أرضى وأنا كل ما لى، لا أريد شيئًا يربطنى بالعالم، المصالح والعمل والظروف التى تجمعنا مع آخرين فى لحظة معينة ليست روابط حقيقية، لكنها صلات، كابلات مرتبطة بأجهزة متنوعة يمكن لى أن أفصلها فى لحظة، واستبدلها بوصلات أخرى من مصادر أخرى، مصادر الطاقة متعددة ومتنوعة، وأنا كائن طفيلى، تعتمد حياتى على طاقة الآخرين، أسحبها منهم رويدًا رويدًا دون أن أدعهم يسقطون فى هوة الفناء فيكتشفون الأمر، مصاصة دماء لا تسمح لنهمها بأن يميت ضحاياها فتتسمم هى الأخرى وتتشرب موتهم.
والـ«فيسبوك» واحد من وسائطى العديدة لامتصاص طاقة الآخرين، لى على الـ«فيسبوك» أكثر من حساب لا أتذكر عددها، واحد فقط يحمل وجهى الحقيقى، البقية بأسماء وصور تعبيرية مختلفة، أجرب واقعًا غير واقعى، ذاتًا غير ذاتى، أتبنى آراء مناقضة لآرائى، ألف وجه أرتدى وأنا أراقب الآخرين، كأنما هم فئران فى تجربة، أركز على شخص بعينه، أراسله بشخصياتى المتنوعة وأراقب رد فعله على حالاتى، يسلينى الأمر كثيرًا، أختبر قدراتى التمثيلية، أشحذ همتى فى التلون والتخفى، حرباء بألف لون، دون حقيقة لى، أقتبس مقولات الآخرين، ألبس رأى هذا برأى ذاك، كلمة من هناك وإشارة من هنا، أحيانًا أتوه ولا أعرف مَنْ أنا، فأعود لمخططاتى الصغيرة كأنها ورقة «البرشام» التى أغش بها فى الامتحان.
فى الفضاء الإلكترونى قاعدتى هى كسر القواعد والقوانين، حيث لا جاذبية ولا روابط، ذاتى تتملص من ذاتى، والفرصة سانحة للكر والفر، أرتدى كل الأقنعة، أخلعها وقتما أريد، أعلق ذواتى على شماعة، على الفيس تتنوع ذواتى، ذات زاحفة، طائرة، ثابتة كشجرة الكافور التى تطل عليها غرفتى. فى الصباح أفتح دولابى وأنتقى ما يناسب اليوم من ألوان ذاتى، وفقًا لحالة الطقس والمكان الذى سأذهب إليه، ذات العمل رمادية، ترتدى نظارة سوداء أو زرقاء، ذات عملية سريعة، متعاونة، قادرة على حل المشاكل، يغبطها الجميع على نشاطها.. ذات «النادى» حمراء برتقالية مع مسحة خضراء أو صفراء، وضحكة مجللة، أخوة وحنان وتفاهم وتعاطف ومساندة للأطفال الصغار وتشجيع لهم حول «البسين»، لكنى سأغضب، وسأرفض بشدة أن تخاطبنى ابنة البواب وهى تفتح لى باب الأسانسير: «تفضلى يا طنط»، «طنط» !!، صدمتنى الكلمة، أنا لست طنط، تفضلى يا مدام ممكن، لكنى لست «طنطها» بالتأكيد هى لها «طنط» غيرى، وربما أكون أنا «طنط» لطفلة أخرى، لكنى لست «طنطها»، المشكلة ليست فى هذه الصغيرة التى لا أتذكر اسمها، لكن المشكلة فى هذا العالم الذى ينهار مركزه وحوافه.. ياااه، ها أنا أرتدى قناعى الحقيقى، وجهى الموروث، فمى الذى يردد أمام الميكروفون كلمات العدالة والمساواة، نعم، يحق لها أن تتعلم وتصبح ما تكون لكنى أظل لها «مدام» أما «طنط» هذه فرفع للكلفة، وتباسط لا أطيقه بعيدًا عن صفحات “فيسبوك”
لو أن جدتى «سهاد» كانت تعلم أن المجد سيكون للبهلوانات ما تنكرت لأصولها الغجرية، وما تنكرت للموالد وألعاب النار، عندما يتحول الشذوذ والاستثناء إلى قاعدة، عندما تتعدد الأقنعة، يصبح المجد للفوضى، للادعاء، للرحيل، للانسحاب، للهرب، للطوابير.. طوابير الخبز، البنزين.. هذه الطوابير أكتب عنها على صفحتى الرسمية وأصدقائى يعرفون أنى لا أعرفها ولا أدعى معرفتها، بل إننى لا أصدق كل ما تبثه الشاشات من إعلانات تسول عن الفقراء الذين لا يجدون ما يأكلون، لا أتخيل أن هذا يحدث، ربما لا أريد أن أصدق كى يرتاح ضميرى.. لطيفة كلمة «الضمير»، تناسب صفحة التراث، تناسب الزخارف، خط الثلث، قماش الخيامية، فانوس رمضان وحوى يا وحوى، تناسب المتحف الذى تعمل فيه أمى، وتحفظ فيه المومياوات بكل أُبهة وفخامة.