محمد فيض خالد
العقبي
قالوا: لم يمرض يوما، ولم تدخل جوفه قطرة دواء ، ذات أصيل تملكتني الحيرة، رأيته يحوم على غير العادة أمام الصيدلية، يؤشر للبائع من بعيد وهالة من الفرح تكسو وجهه النحاسي، يقترب وهو يفرك كفيه قلقا، يتجول ببصره ذاهلا فيمن حوله، يخفي البائع ابتسامة ماكرة، يقترب منه في تردد، يعطيه أذنه ليغيبا سويا في حديث هامس، يجيبه البائع في اقتضاب: طلبك موجود .
محمود العقبي مزارع بسيط، لا يعرف من دنياه غير حقله ومواشيه، يقضي سحابة نهاره يضرب بفأسه، لا يرجع إلا وقت المغيب، لا يحفل بشيء دون الفلاحة، فلا تراه يخوض في حديث غير نوبات الري، أنواع السماد، التقاوي، وسلالات البهائم، وهو مع ذلك هادئ الطبع، حسن المعشر، حاضر النكتة، حتى وإن بدى مزهو بقوته، مأخوذا بهيكله الضخم، يعيد ويزيد في مآثر شبابه وفتوته، يقهقه منشرحا وهو يلوح بساعده يمنة ويسرة، كيف أن اللصوص وأبناء المنصر كانوا يخشون بأسه، تزوج العقبي من امرأتين، أولاهما أم السعد ، لكنها لم تعش طويلا وماتت بعلة في صدرها، أما الثانية نبوية فأم أولاده، هام بها حبا، لكنها لقيت حتفها في حادث مأساوي، سقطت في بئر الساقية فماتت، اغتم، واغلق عليه قلبه، مكتفيا بأشغاله، مع الأيام انزوت ابتسامته، وبهتت ضحكته.
اعتقد الجميع أنها النهاية، وأن الرجل حتما مفضي به حزنه إلى هلاك، حتى ظهرت نرجس في حياته، و نرجس ابنة سيد الحصري ، كانت قد تزوجت في قرية بعيدة، لكن المسكينة عادت بعد أربعين يوما، مات زوجها، أو بالأحرى افترسه سير الطاحونة التي كان يعمل بها، أصرت حماتها على أن ترحل، اعتبرتها قدم شؤم عليهم، لم تكن نرجس لترضى من أيامها بهذه اللطمة السريعة، وحق لها ذلك، فقد حباها الخالق إلى جانب عقلها الراجح، ونفسها الطموحة وذكائها المتقد، جمالا أخاذا يخطف العيون، ويخلب العقول، لجسد امرأة مكتملة الإغواء، قد صب في عود سمهري، فاكتملت لها فتنة حواء ومكرها.
منذ أن استقرت في بيت أبيها، وهي تبالغ ما وسعها في اظهار جمالها، وتفجير مواطن فتنتها، حتى أضحت بعد حين منتهى كل نفس تقدر الحسن، وأمل كل مقامر يتعقب الملاحة لا يسترخص ثمنها، لها في كل طريق هائم مجنون، ومع كل انحناءة جدار، من يطرح تحت أقدامها الأماني، المال والسعة، الحب والعشق إلى الأبد، خذلتهم جميعا، فلم يكن لهؤلاء أن يرضوا غرورها.
إلى الآن لا اعرف كيف وقفت في طريق العقبي ، لكن ما يهمنا، أنه لم يضيع الفرصة وتزوجها، وأنها وجدت فيه منيتها، المال والأرض والصحة.
تبدلت أحواله، فأقبل على الدنيا بعد يأس، عادت ضحكاته تصهلل تملأ الدار، وبعد أشهر قلبت له السعادة وجهها، جفت شهيته، وضمرت رغبته، بدأ يتململ في فراشه، وهل يأمن المرء تقلبات دهره؟! فالنهر يوشك أن يجف، وتلك بداية المنحدر، كانت نظرتها إليه كرابيج تجلده، تعلن ضعفه، تلعن شيخوخته وتهدمه، تقول بصريح العبارة: لا فائدة منك ، لم يجد من حل غير اللجوء للدواء، الصيدلية ، رددها في عفوية وهو مضجع إلى جوار الساقية، هب واقفا، يضرب كفا بكف، يتطاير صياحه: الموت أهون علي من ذلك ، ما أصعب على الإنسان أن يعترف بعجزه، لكن ما فائدة المكابرة، الوقت يمضي، ومحاولاته الفاشلة تتكرر، فلا مفر من الدواء.
قضي الأمر كأسهل ما يكون، لكنه مع كل مرة يكره نفسه، يسب الصيدلية، الدواء، نرجس، الحياة ولذتها، عند المساء ينفض عنه كل تلك الهواجس المزعجة، يقبل على الوصفة بنفس رضية، تراوده كل صنوف المتعة، تزداد سعادته حين يرى وجه نرجس تشع البهجة في استدارته، يبدي ارتياحه، ويحمد الله الذي ستر المعايب.
لكن شعورا بالنقص يتفجر من داخله، تضرب أمواجه في عنف وثورة، وهكذا حاله في كل مساء.
**
كان وانتهى..
الهداية من الله ، يهمس بها الحاج عبدالصبور الجيار ، وهو يتحامل على نفسه متجاوزا عتبة المسجد، يختفي صوته المهتز بجوار المنبر العتيق، يكر حبات مسبحته الكوك، ويغيم في تسبيح طويل.
على إثره يدخل الشيخ عبدالمنعم الصعيدي ، هكذا عرفوه، منذ قدم صباحا فوق عربة محملة ببلاليص العسل الأسود، نزل بهم ولم يرحل، عبدالمنعم اسما جديدا اخترعه، أما هو فصلاح الهوا مجرم عتيد، له تاريخ مخزي، يحاول طمسه، شهدت أحداثه عتمة الحقول، والسواقي المهجورة، وكلاب الطريق، طرفه بيد أبناء المنصر، والطرف الآخر بيد زبيدة ، و وزبيدة غجرية حسناء، جاوزت الثلاثين بقليل، انفق أيامه يتعقبها، يطوف بالعزب والنجوع والبنادر يبدر ماله، لا يهنأ له جفن، ولا يقر قرار، تكبره زبيدة بسنوات تغاضى عنها، وجد فيها كل ما يجد الرجل في المرأة من مزايا، عرفت كيف تأسر قلبه، فتبعها عن اقتناع كطفل غرير، زبيدة ابنة الليل وريبية المجهول، لا تعرف لها أصل، كل ما تعرفه، أن أمها مديحة العايقة رحلت ساعة نحس وهي تلدها، ربتها اعتدال ، و اعتدال مثلها تماما ابنة المجهول، ومن يحن على الغريب غير غريب مثله، ضمتها إليها، واهتمت لشأنها، سقتها من كارها، حتى أصبحت نجمة، تزدان بها ليالي الصعيد، تملئ عيون العمد والأعيان وأصحاب الأطيان، كبرت زبيدة وكبرت معها علتها، لتتحول لجرح ينز الألم والحسرة، تمنت الأسرة، اشتهت بيتا وعزوة، وزوج يحميها من الأعين الجائعة التي تنهشها، لزبائن سكارى وسط أنفاس الدخان، فتنت بصلاح ، تعلقت به، ذاقا معا لذة الحب، تخفف من مخالطة رفقة الليل، ليصبح هملا رخوة لا يصلح لزعامة، تحت تأثير إلحاحهم ضاق ذرعا، حتى كانت ليلة دعاهم لبيته، للاتفاق على طلعة ليل، وبعدما لعب الشراب برؤوسهم وتراخت الأجسام، احرق عليهم البيت وهرب، اختفى للأبد، مات ابن الليل، ليولد في بقعة غيرها، الشيخ عبدالمنعم الصعيدي فهل يصمد للأبد.