حسن غريب أحمد
حقيقة اسمها (زانة)
والدها يعمل في بلد آخر ليدخر شيئاً، لبقاء هذه الأرض، دفاتر تجار الحي الخاصة بالديون امتلأت باسم أسرتها، وهي تقوم بكل شيء، تنظف البيت، تعمل في المزرعة، تتعلم في المدرسة، وتحب وتنتظر بملء شوقها لحظة سيتحطم السد الزمني الذي يفصلها، عن بزوغ فجر السنة القادمة، التي ستأخذها إلى المدينة، فتكمل تعليمها، وتراه كل يوم، حملت الفأس، غرسته في التراب، ثمة شيء يحول بينها وبين قدرتها على تجميع قواها، لكنها كانت تحس بالأمان، وهي تمزح بينهما، فحبيبها هو اللقمة التي ينتظرها أخواتها الصغار.
هكذا الحياة يا (زانة) ولا بد في النهاية أن نصل إلى ما نريد، هو قال لها ذلك، فاقتنعت بتلك الفكرة، ثم طردت اليأس، لم تدر لِمَ سيطر عليها شيء نحو المدينة التي حلمت طويلاً أن تسكنها ؟
تذكرت كلامه حين تحدثا بهذا الأمر، في المدينة يا(زانة)، يكاد الإنسان لا يعرف نفسه.
إن حينا أأمن وبفارق كبير، لم توافقه وقتها رأيه، ولكن الآن عندما نظرت إلى كفها، ورأت بعض قطرات الدم، تتسلل عبر شقوقه، أدركت تماماً معناه، ابتسمت عيناها، قاسمتها إياه حبات العرق التي ولدت في جبينها، وكبر حبها لأرضها، وله في تلك الساعات الجميلة، فصار الفأس يسري في أحشاء أرضها، برتابة لم تعدها من قبل.
الطقس بدأ يحزن، وغطى وجه السماء كتلة كبيرة من السحاب، غطت القسم الذي تعمل به، أحست بالخوف.. كاد خوفها أن يتحول لبكاء، لولا أن سمعت صوت أمها :”هيا يا (زانة) أحضرت لكِ الغداء”، وعلى بساط من عشب بدأت الصفرة تشق عباب خضرته، تتناول غداءها، فتاة تعمل في المزرعة.
نظرت (زانة) إلى أمها، خيل إليها أنها تلج داخل عينيها، اللتين سرحتا تقلبان المزرعة لتلقى شجرة لم يشب خضارها، لم تعرف ماهي تلك الشجرة، لكنها أنشدت بكل ما تحمل من فضول إليها، فتدلت منها ثمرة غريبة وكبيرة، لكنها مثيرة، مدت يديها، أرادت أن تقطفها، فتسلل من خلفها سنجاب صغير يضحك، أحست بالأمان لرؤيته، ابتسمت له، قفز السنجاب إلى كتفها، شعرت بغباره، الذي لامس خدها بضحكها، قفز إلى الأرض، نظر إليها، وسار يثب متسلقاً الشجرة، أيقنت أنه يريدها أن تتبعه ففعلت.
اختفت تلك الثمرة، ولاح مكانها قصر كبير، وقف السنجاب أمام بابه، ونظر إليها وابتسم، ثم دخل، دخلت وراءه فرأت سنجاباً آخر يحمل في يده قلباً أخضراً، ويعلقه على الجدار الذي كاد أن يكون بياضه سحراً.
صوب السنجاب بيده، لقد بدأت تعي ما يريد، أنه يطلب منها أن تمشي لوحدها، وكأنه أنتهت مهمته.
أطلقت رجليها بنشوة، فتح باب آخر، رأت من خلفه ظلاً يشبه ظله، يحمل في يده قطرات الدم التي تسللت من كفيها قبل قليل، ويناولها لأبيها المسافر، ويده الثانية تحضن أخويها الصغيرين.
قالت بفرح انتظارها: “إنه هو، أرادت أن تركض إليه تحضنه وتقبله، وتقول له :” أني أحبك “، لكن أمها أغمضت عينيها، فتدحرجت على خدها دمعة أحستها كالزجاج، هزت رأسها بحسرة، تمنت لبرهة لو أن لأمها عينين كالبومة.
تناولت رغيفاً، قسمته قسمين، وقالت :”يبدو أن المطر يقترب يا أمي، سنذهب إلى البيت “.
***
تجاعيد على حجر من ذهب
الشمس ترسل أشعتها الذهبية على المنزل العرايشى الواسع الفناء.. وهو فى أروع صورة له، وقد تجمعت فيه أشجار النخيل وسعفه الزاهية، الذى تم تشطيره فى المساء وصار صالحاً لعمل الكراسى والمقاعد والأسبتة والقبعات.
توسط الفناء الكبير العم سالم… وقد التفت أشجار السعف الرفيعة اللينة بين أصابعه، وأخذ السعف الرفيع الرقيق يقفز فى حجره.
إذا سألتنى عن مساحة الأرض التى تنمو فيها أشجار النخيل على شاطئ البحر فإننى لن أعرف كم عدد الأشجار التى تجمع ساحل البحر كل عام؟ لست أدرى، كل ما أدريه أنه فى كل عام حين تتساقط حبات البلح القاتم اللون أو الفاقع ؛ ويتحول إلى رُطَبٍ فإنه يتم قطع طلعه النضيد فى كل مكان بالعريش وتتكون بعضها فوق بعض ويتحول شاطئ البحر الكبير وبحيرة البردويل وأسماكها لذيذة الطعم وما يجاورها أى سور عظيم تكسوها أشجار النخيل بشماسى من صنع الخالق وعلى مقربة من الساحل وسط النخيل تجلس النساء يضعن الأسبتة والكراسى والشنط المصنوعة من السعف وكذا القبعات، فكم قبعة يقمن بعملها الرجال، فى شهرى يوليو وأغسطس ترتفع مياه البحر وتجئ السياح التى لا حصر لهما وتشاهد القبعات والأسبتة الناصعة اللون، ولا يمر وقت طويل حتى تمتلئ المدينة بالسياح على شرائها: ” قبعات رائعة، قبعات العريش البلدية الأصيلة “.
كان هذا الرجل يقوم بعمل كراسى ومقاعد من جريد النخل ويزيلها بالسعف لم يمض وقت طويل حتى امتدت تحت قدميه قطعة كبيرة من جريد النخل، بدت وكأنها تفترش بساطاً سندسياً ناصعاً أو تقعد فوق جنة خضراء لامعة وبين الحين والآخر كان يتجه بصره نحو البحر فيبدو له عالماً فضياً متأنقاً، كان الضباب الخفيف يغطى صفحة البحر والنسيم يهب حاملاً على جناحيه عطراً فواحاً لأوراق الورد البلدى والياسمين والفل وأزهاره.
الباب ما زال مفتوحاً وسالم لم يعد بعد، زوجته تجلس فى انتظاره.
عاد زوجها متأخراً كثيراً، هذا الزوج لم يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، يضع فوق ظهره ما لم يبعه من القبعات، على رأسه قبعة كبيرة مزدانة ومزركشة بأشكال رائعة، يرتدى جلباب أسود اللون وسروال أبيض ثقيلاً قد رفعه فوق وسطه وسار مهرولاً، مشقق القدمين ويحميها نعالاً من الجلد العربى الأصيل، اسمه ( سالم ) زعيم رجال المقاومة الشعبية فى العريش، قد عاد اليوم فريق الشباب المقاوم إلى مكان ما لحضور اجتماع مع رجال الأمن المصرى المختفى بين ثنايا الجبال والأودية.
رفعت الزوجة رأسها وقالت باسمة :
” لماذا عدت الليلة متأخراً هكذا ؟ ” إيش جرالك يا رجل مش عوايدك يعنى التأخير هدا كله، وين كنت يا سالم ؟
ثم هبت واقفة تستعد لإحضار ( صيادية السمك ) بالأرز المفلفل له، جلس سالم على الأرض قائلاً : ” لقد أكلت، فلترفعى الأكل فى مكانه مرة أخرى “، قبعت المرأة على الأريكة أخذت تتفرس فى وجه زوجها……فأحست بعض الحمرة تكسو وجهه ووجدته يتلعثم فى كلامه فسألته : ” وين بقية الرجالة ؟ ” قال سالم : ” ما زالوا فى القيادة استعداداً لتخطيط جديد على اليهود وضربهم فى معاقلهم… وأبوكِ وين ؟ ” قالت الزوجة ” نائم ” وسليم ؟ ” ذهب مع عمه للعيد معظم النهار، فنام مبكراً…….لماذا لم يعد الآخرون ؟
ضحك سالم….. أن هذه الضحكة غير طبيعية ( ماذا جرى لك ؟ )
قال سالم بصوت منخفض :
فى الغد سوف اذهب فى عملية فدائية ضد الملاعين ( أولاد الكلب ).
أخذت أصابع المرأة ترتجف ـ يبدو أن سعف النخل قد جرح يدها فوضعت إصبعها فى فمها وأخذت تمصه… سالم : ” اجتمعنا اليوم مع القيادة المصرية، وعلمنا أن العدو أقام له قاعدة فى ” الشيخ زويد ” وسوف يشكل ذلك جبهة له مع موقعه فى ذلك المكان… وهذا سوف يتغير الوضع القتالى فى شمال سيناء…. لذا فقد تقرر فى الاجتماع تكوين فريق مقاتل وكنت أول من رفع يده وسجل اسمه “.
أحنت المرأة رأسها وهى تقول :
” أنت دائماً متحمس هكذا، تعشق وطنك وأرضك “
قال سالم :
” أنا قائد المقاومة الشعبية بالعريش والشيخ زويد نفسها، من الطبيعى أن أتقدم الصفوف، وقد سجل عدد منهم أسماءهم أيضاً من عدة قبائل وعائلات ؛ لكنهم خوفاً من أن تقعدهم زوجاتهم عن الذهاب، فاختارنى الجميع كى اذهب إلى زوجاتهم وأتولى إقناعهن كلهم يشعرون أنكِ أكثرهنَّ عقلاً ورشداً “.
صمتت المرأة ثم قالت بعد لحظات : اذهب حيث شئت لن اعترض طريقك ولكن ماذا سيكون حال البيت ؟
أشار سالم بيده إلى حجرة والده مطالباً إياها بأن تخفض صوتها قليلاً ثم قال : ” البيت من الطبيعى أن يكون هناك من يرعون البيوت.
إن مدينة العريش صغيرة، وقد انضم إلى المقاومة هذه المرة سبعة أفراد من البلاد المجاورة لنا وأصبح عدد الشباب فى المدينة قليلاً، ولا نستطيع أن نعتمد على غيرنا فى كل شئ، فلتبذلى مزيداً من الجهد، فأبى شيخ كبير وسليم مازال طفلاً لا يستطيع مساعدتك ” طفرت عبرة فى صدر المرأة لكنها لم تبكِ
فقط قالت : ” مادمت تفهم أمور البيت هكذا فلا بأس “
أراد سالم أن يطيب خاطرها، لكن مازال هناك الأمور الكثيرة التى تحتاج إلى تدبير فاكتفى بقوله : ” أنتِ تتحملين العبء الأكبر وسوف أعود إليك معبراً عن شكرى وامتنانى بعد أن أقهر الصهانية،
قالها وذهب إلى عدد من الأسر الأخرى
قال : أنه سوف يتحدث إلى والده بعد عودته.
لم يعد سالم إلا مع مطلع الفجر، كانت زوجته لا تزال تنتظره بالحوش و قالت حين رأته : ” إذا كانت لديك نصائح أخرى فأخبرنى بها ” !!
” لا شئ، أنا ذاهب و عليك ألا تكفي عن المثابرة و العمل ” نعم “
” أرجو أن تكونى دوماً فى المقدمة ” نعم ” وماذا أيضاً ” ؟
” لا تدعى الخونة و الأعداء ينالون منك ما دام فيك رمق من حياة، إذا قبضوا عليكِ فاستميتي معهم ” و لا تنقطعى عن الصلاة و الدعاء ” كانت هذه هى أهم جملة أراد أن يقولها سالم، فأجابته زوجته بعيون دامعة :”حاضر” إن شاء الله .
فى اليوم التالى أعدت له زوجته ” صُرة ” صغيرة فيها سترته الصيفية و فوطة و حذاء، و أعطته الأسر الأخرى عدداً من الصُرر المتجانسة ليحملها إلى زملائه المناضلين.
خرج الجميع لوداعه عند الباب، جذب الجد سالم من يده و قال محدثاً ولده : ” سالم إن ما تقوم به يا ولدى عمل شريف و جليل ضد الملاعين، و ربنا معاك يحفظ خطاك و يوفقك و يرجعك لينا منصور، لن امنعك من القيام بهذا العمل بالرغم من حاجتنا الماسة إليك، ولكن الوطن و الأرض كالعرض أهم شئ فى الوجود، فاذهب مطمئن البال و سوف أرعى زوجتك وولدك فأطمئن و اعتمد على الله “.
خرج كل من بالعريش نساء و رجال و أطفال و شيوخ لوداعه، ابتسم سالم للجميع ابتسامة عريضة ثم استقل الجمل، و سار فى طريقه الوعر الملتهب بحرارة الشمس و نار القلب و قيظ الطريق الحارق وسط الفلاة على أية حال كانت النساء من عرايشيات و بدويات تشعرن بقلوبهن متعلقة بأزواجهن تعلقاً شديداً.
بعد يومين اجتمعت عشر سيدات شابات فى بيت ( سالم ) و دار هذا الحديث : ” يقال إنهم مازالوا هنا لم يبرحوا، بسبب ملاحظة و متابعة الدوريات الصهيونية لهم “.
أنا لا أريد أن أعطله، و لكننى نسيت أن أعطيه بعض الملابس و الطعام لأنه يجوع بسرعة شديدة.
وأنا تذكرت كلاماً مهماً يجب أن أسر به إليه “
قالت زوجة سالم : ” سمعته يقول أن العدو سوف يتخذ قاعدة له فى الشيخ زويد “.
” أنى يلتحمون بهذه السرعة ” !!
” فى الحقيقة أنا لا أريد أن أذهب و لكن حماتى تصر على أن اذهب لرؤيته و لا طائل وراء هذا ” !!
و بسرعة أخذت السيدات جمالاً و اتجهن سراً إلى قرية أبى صقل.
بعد وصول السيدات إلى القرية لم يجرؤن على النزول إلى الشارع بحثاً عن أزواجهن خوفاً من مراقبة أحد لهن. فنزلن بيت أحد الأقارب فى أول القرية المطلة على البحر مباشرة فى ربوة مرتفعة رائعة الجمال، فأخبرهن بـأنهن لسوء الحظ قد تأخرن، فقد ظل أزواجهن حتى ليلة أمس و رحلوا عند منتصف الليل و لا أحد يدرى إلى أين اتجهوا ؟ !! فلا داعى للقلق، و قد سمع أن سالم قد تولى منصب نائب قائد المقاومة بمجرد وصوله و الجميع فرحون مستبشرون.
انصرفت السيدات خجلات و اتجهن إلى الجمال التى كانت تهتز بجانب الرمال المتحركة وسط الجبال و لهيب النار التى يلفظها حرارة الجو.
والآن قارب النهار على الانتصاف،
واختفت الغيوم على مرمى البصر غير أنه كان هناك نسيم بارد مع مياه البحر، أخذ يهب من ناحية الشمال عابراً شتلات الطماطم و اللوز و الخوخ و أشجار النخيل.
لم يكن هناك أية قافلة.
بدت الصحراء فى حركتها التى تذروها الرياح ارتفاعاً وانخفاضاً كأنها تنساب وراء الأفق بغير حدود.
انتابهن شعور بالإحباط و الحزن.
كانت كل واحدة منهن تلعن ذلك الزوج غليظ القلب، لكنهن لم يجدن صعوبة فى تجاهل هذا الشعور، فتلك هى طبيعة الشباب الذى يفكر و يسعى أبداً وراء كل ما فيه البهجة و السرور و يقدم الروح و الحياة ليعيش اسم بلاده للأبد.
فلم يمض وقت طويلاً حتى عادت النساء للحديث و المرح.
” أترون، قالوا راحلين و على الفور رحلوا “
” يا للفرحة لم أره سعيداً كل هذه السعادة من قبل، حتى و لا فى ليلة زفافنا ” ربط حصاني فى وتده و كان مطيعاً “
” مستحيل فقد جنح الحصان ” !!
ما إن انضم إلى القوة الضاربة
والمقاومة الشعبية ضد اليهود حتى نسى كل من فى البيت.
” حقاً ما تقولين.
حدث إن كان يقيم فى بيتنا فريق من شباب العائلات و الأقارب كانوا يرفعون أصواتهم بقراءة القرآن الكريم من الصباح الباكر حتى آخر الليل.
لم نعش مثل هذه البهجة طوال حياتنا، وبعد أن كانوا ينتهون من مرحهم يقعدون بغير عمل يعملونه سوى عمل الفطير أو ” اللبَّة ” تحت النار و هى عبارة عن قطعة من العجين مع الملح،
ويشعلون النار ثم يضعونه تحت الرماد، و بعد تغير لونها مُحمراً بغبار الرماد و بعض الرمال يأكلونها بلذة و شراهة و كأنها قطعة لحم لغزال أو خروف مشوى
كنت أفكر فى بلاهة ! يجب أن يقعدوا
ويسكنوا .
ماذا تظنين أنهم كانوا يفعلون ؟
كانوا يمسكون بقارورة الزجاج و يضعون داخلها جازاً أو بنزيناً ممزوجاً بقطعة قماش تأهباً لأى مرور سيارة دورية لليهود، و كانوا يصنعون آلاف الزجاج الحارق و يخفونه أسفل الأرض وأيضا كانوا يمسكون بأصابع الطباشير
ويرسمون على جدران البيت فى الحوش الكبير دوائر و ينبطح كل واحد منهم فى الفناء و يصوب على هذه الدوائر ثم يعاودون قراءة القرآن و الأحاديث النبوية الشريفة.
رحنَّ يحثنَّ الجمال ( سفينة الصحراء ) بهدوء و كانت ترتطم بجانبى الهودج كانت كستناءة الماء تطفوا بسلاسة و هى لا تزال غضة صغيرة و بيضاء ناصعة
وبسلاسة أيضاً، تخبوا فى الماء ثانية، أخذت تطفوا بهدوء على صفحة المياه مع زمجرة الرياح و هدير الأمواج المتلاطم، وراحت تكبر و تكبر ” أتدرين أين يكونوا الآن ” ؟
– ” لا عليكِ ربما فروا وراء معسكرات الأعداء ” !
رفعنَّ جميعاً رؤوسهن و أخذن يتطلعن إلى مكان بعيد.
” هناك جمال مارة فى هذه الناحية ” جنود إسرائيليون، انظرى ملابسهم ” أسرعنَّ “.
أسرعت الجمال فى استماتة بسبب مواجهة الرياح لهم، ربما انتابهنَّ الشعور بالندم فى هذه اللحظة، فما كان ينبغي أن يخرجنَّ؛ هكذا فى هذا الطريق على غير هدى، ربما كن يشعرن فى قرارة أنفسهن بالسخط على هؤلاء الرجال الذين ذهبوا بعيداً لا يلوون على شئ لكنهم عدنَّ يفكرنَّ فى أنه لا يجب التفكير فى أى شئ الآن.
فليسرعنَّ بالتحرك.
السيارة المصفحة الكبيرة تلاحقهنَّ، بين مرتفعات و منخفضات وادى العريش، حتى صارت على مقربة منهنَّ، اقتربت السيارة أكثر و أكثر.
لحسن الحظ أن هؤلاء السيدات الشابات قد نشأنَّ و ترعرعنَّ فى أحضان الصحراء و قسوتها، فكنَّ يجرينَّ بالجمال بسرعة مذهلة.
كانت الجمال تتراءى للناظرين و كأنها سمكة بورى تقفز قفزات عالية فوق سطح الأرض اللاهبة.
لقد دربنَّ منذ صغرهنَّ على قيادة هذه الجمال فكن يقدنهن، وكأن يجرى كالملوك.
إذا ما لحق بنا العدو الصهيونى، فنلقى بأنفسنا فى جبل الرمال المتحركة و ليكن ما يكن.
أقبلت السيارة من ورائهنَّ بسرعة شديدة.
كان من الواضح أنهم الأعداء.
أخذت السيدات الملثمات وجههن يجاهدون أنفسهن و يحاولن إسكات نبضات قلوبهن الواجفة، لكن أيديهن الممسكة بحبل القيادة للجمال لم تهتز.
كانت الجمال لها خف عريض و مفلطح تساعدهم على عدم الانغراس فى الرمال المتحركة، و كان الخف يرتطم بالأحجار المجاورة للرمال بصوت عالِ على جانبى القافلة.
” فلنتجه صوب الرمال المتحركة
ولنتعمق أكثر ؛ فالسيارة لن تستطيع ملاحقتنا.
أسرعن بالفرار نحو الرمال المتحركة، وهن لا يدرين ما اتساعها.
على مرمى البصر كانت، أوراق نبات السكران و الحنظل الكبيرة الكثيفة فى امتدادها بغير حدود تحتضن أشعة الشمس المتوهجة، و تبدو فى امتدادها و كأنها حصن منيع، وترتفع سيقان نبات الصبار مثل الصواريخ المعدة للانطلاق أمام الأعداء، عالية فهى ذلك الحارس الآمين الذى أخذ على عاتقه مهمة حراسة الجبال و الرمال الناصعة البياض.
اتجهنا نحو أشجار النخيل المتشابكة.
وأخيراً و بعد جهد جهيد دلفت القافلة إلى أعالى الرمال المتحركة.
أخذت جماعة البط البري والعنادل تصيح مذعورة بصوت حاد و تضرب الهواء بأجنحتها و هى تحلق فوق أشجار النخيل.
فى تلك اللحظة انطلق وابل من الرصاص خرق سماع هؤلاء السيدات و اهتزت له أرجاء المدينة.
حينئذ ثبت فى روعهن إنهن وقعن فى فخ نصبه الأعداء لهن، و صار مؤكداً إنهن سوف يلاقين حتفهن.
فألقين بأنفسهن فى الرمال المتحركة
وشيئاً فشيئاً أتضح لهن أن صوت الرصاص متجه إلى الخارج.
حينئذ أطلنَّ برؤوسهن من تحت أشجار النخيل الغارقة إلى آخرها فى الرمال المتحركة، ليتبين الأمر فرأين على مقربة منهن وجه رجال يطل من بين أوراق النخيل الضخمة الكثيفة و أكثر من نصفه بين أوراق الشجر.
هل تحولت سعف النخيل إلى أشخاص ؟ !!
هذا هو سالم الذى نعرفه ؟
رحنَّ يتجولن بأبصارهن يمنة و يسرة حتى وجدت كل واحدة منهن زوجها. إنهم هم أزواجهن حقاً !
لكن هؤلاء المناضلين المختبئين بين أوراق الشجر الكبير، لم يلمحوا زوجاتهم فقد كان كل تركيزهم هذه اللحظة فى التصويب على العدو.
كان صوت الطلقات مدوياً.
بعد حوالى خمس طلقات أسرع الرجال من قمة الجبل مهاجمين سيارة الأعداء بعد إلقاء قنابلهم اليدوية عليهم.
أغرقت القنابل سيارة الأعداء تماماً و لم يتبق على السطح سوى رائحة البارود
والزجاجات الحارقة و الديناميت.
هناك راح المناضلون يتضاحكون بصوت عال و يجمعون الغنائم.
أخذوا يجمعون خيرات الأعداء،
واخذوا يتسابقون فى التقاط البنادق
وخراطيش الرصاص، و كذلك أكياس الخبز الجاهز و الجبن و الحلوى التى وقعت بفعل انحدار السيارة من أعلى إلى أسفل، ثم نزل سالم ماء البحر و راح يضرب بيديه الماء و يتتبع شيئاً تتدافعه الأمواج و كان علبة بسكويت و شال رائع.
جلست السيدات فى قارب صغير بالقرب من الشاطئ و الماء يبللهن من الرأس إلى أخمص القدمين.
عاد سالم رافعاً إحدى يديه بعلبة البسكويت ضارباً الماء بيديه الأخرى بكل قوته حتى لا يغرق، ثم اتجه إلى القارب و صاح : ( اخرجن ! هيا ! ).
انتابه غضب شديد.
اضطررنَّ إلى الخروج من قاع القارب.
فجأة خرج لهنَّ، من تحت القارب رجل تعرفه زوجة سالم فهو قائد القوات المقاومة المصرية بالمنطقة.
اخذ ذلك الرجل يمسح الماء عن وجهه
واتجه يسألهنَّ :
” ما الذى آتى بكنَّ ” ؟
أجابت زوجة سالم :”أتين لإحضار بعض الملابس لهم، إيش فيها يعنى بيضايق ” ؟ استدار القائد إلى سالم قائلاً :
” هل كلهنَّ من العريش “؟
ليس المهم من هن، المهم إنهن جماعة من الحمقاوات ” !
قالها ثم ألقى بعلبة من البسكويت فى القارب القابعات بداخله، و راح يمتطى الجمل إلى قاع الجبل ثم ظهر فى مكان بعيد.
قال القائد مازحاً :
” على العموم، لم يضع مجيئكم سدى، فلولا كن لما تم الكمين بهذه الدقة”.
والآن انتهت مهمتكن و يجب أن تعدن لتجفيف ملابسكن، فما زال الأمر خطيراً. قام المناضلون بوضع كل الغنائم التى غنموها فى جراب الجمال التى معهم
واستعدوا للتحرك.
قطع أحدهم جريدة من جرائد سعف النخيل الكبيرة ووضعها فوق رأسه تحميه من شمس الظهيرة.
راحت السيدات يلتقطن الصُرر الصغيرة التى وقعت على الأرض و يلقين بها إليهم.
سار المناضلون بجمالهم نحو الجنوب الشرقى للعريش.
انطلقوا كالسهام.
لم يمض وقت طويل حتى كانوا قد تلاشوا فى ضباب الظهيرة الذى غطى مرتفعات الوادى و منخفضاته.
أخذت السيدات جمالهن وانطلقن عائدات إلى بيتوهن.
كانت كل واحدة منهن كالفرخ المبتل.
وعلى طول الطريق عدن إلى الكلام،
والضحك بعد كل ما مر بهن من إثارة.
قالت إحداهن و كانت تجلس عند مقدمة القافلة و هى بادية التذمر :
” هل رأيتن هؤلاء القساة ! رأونا و كأنما لم يروا شيئاً يذكر ؟
” حقاً، و كأننا قد فعلنا فعلة نكراء ” تضاحكن هن أيضا.
لم يكن ما مر بهن أمراً مبهجاً و لكن :
” لم نكن نملك بنادق، إذا كانت لدينا بنادق لما كنا فررنا إلى الرمال المتحركة
وكنَّ اشتبكنا مع العدو فى المرتفعات و المنخفضات دون خوف أو رهبة “
ما رأيناه اليوم كان حرباً حقيقة، فما هو الشئ الخارق فى أن تحارب.
الأمر لا يحتاج منك أكثر من شجاعة
وإحساس بعدم الخوف و أى إنسان بعد ذلك يستطيع أن ينبطح و يطلق الرصاص ” !
” عندما انقلبت السيارة كان بإمكاننا أن نلتقط الغنائم.
أنا متأكدة أننا أفضل ولا يخيفنا جذب الرمال إلى أسفل.
” أيتها الأخت زوجة سالم، يجب أن نكون فريقاً عندما نعود و إلا فلن نخرج من البيت ثانية ” !
” ينظرون إلينا بإحتقار على أننا نكرة بمجرد أن ينضموا إلى المقاومة الشعبية الضاربة لليهود.
فما بالك مر عامان فسوف يعتبروننا لا شئ و ينظرون إلينا على إننا متخلفات عنهم كثيراً !
فى خريف ذلك العام، تعلمن الرماية، وفي الصيف عندما جاء موسم صيد الأسماك، أخذت كل واحدة منهن جملاً و طارت به كالشهاب تقوم بالحراسة جيئة و ذهاباً.
عندما حاصر العدو مدينة العريش. أخذن فى إعداد النساء و الأهالى للحرب و تدريبهم على الدخول و الخروج من المدينة لضرب الأعداء فى معاقلهم والعودة سالمين.