إرنست همنغواي
ترجمة: ممدوح رزق
ذات مساء حار في بادوفا[1]؛ حملوه إلى السطح، فأمكن لعينيه أن تحلّقا في سماء المدينة. كانت طيور السويفت[2] تحوم بين رؤوس المداخن، وبعد قليل انسدل الظلام وسطعت أضواء الكشّافات. نزل الآخرون يحملون زجاجاتهم، وكان هو ولوز بالأسفل، يسمعان أصواتهم عبر الشرفة. جلست لوز على السرير، يغمرها الانتعاش والبرودة في تلك الليلة الحارة.
طوال ثلاثة أشهر؛ أمضت لوز النوبة الليلية، وكانوا سعداءً بهذا. عندما أجروا الجراحة له؛ كانت هي التي جهّزته لطاولة العمليات، كما دعمت ذلك بمزحة “الصديق أو الحقنة الشرجية”[3]. خضع للتخدير متشبثًا بتلابيب نفسه خشية أن يُفشي بأي سر خلال فقرة الهذيان الكوميدية. بعدما بدأ في استخدام العكازين؛ تعوّد أن يقيس حرارته بنفسه، كي لا تضطر لوز للنهوض من السرير. لم يكن هناك سوى قليل من المرضى، وجميعهم كانوا يحبون لوز، ويعلمون بالأمر. في رجوعه عبر الممرات؛ كان يتخيّل لوز في سريره.
قبل عودته إلى الجبهة؛ دخلا إلى الكاتدرائية وصليا معًا. كان المكان مظلمًا وهادئًا، وثمة آخرون يصلون أيضًا. أرادا أن يتزوجا، لكن لم يكن هناك وقت كاف لإعلان ذلك، كما لم يمتلك أي منهما شهادة ميلاد. شعرا وكأنهما زوجان، لكنهما أرادا أن يعرف الجميع، أن يكون الأمر رسميًا حتى لا يضيع منهما.
كتبت لوز العديد من الرسائل له، لم يتسلمها إلا بعد الهدنة. وصلت إليه في الجبهة خمس عشرة رسالة دفعة واحدة، فرتبها حسب التواريخ وقرأها كلها دون انقطاع وبدقة متناهية. كانت جميع كلماتها عن المستشفى ومدى حبها له، واستحالة العيش بدونه، وعن مدى فظاعة افتقادها له في الليل.
بعد الهدنة اتقفا أن يعود إلى الوطن ليبحث عن عمل ويتمكنا من الزواج. لم تكن لوز ترغب في العودة إلى الوطن حتى يحصل على وظيفة جيدة ويتمكن من القدوم إلى نيويورك للقائها. كان مفهومًا أنه لن يشرب، ولا يرغب في رؤية أصدقائه أو أي شخص آخر في الولايات المتحدة؛ فقط يحصل على وظيفة ويتزوج. في القطار من بادوفا إلى ميلانو؛ تشاجرا بسبب رفضها العودة إلى الوطن فورًا، وعندما اضطرا إلى تبادل الوداع في ميلانو؛ قبّلا بعضهما، لكن شجارهما ظل مخيّمًا. أصابته طريقة الوداع تلك بالغثيان.
سافر من جنوة[4] إلى أمريكا على متن قارب. عادت لوز إلى بوردينوني[5] لافتتاح مستشفى. كان الطقس موحشًا وممطرًا، وأثناء إقامة كتيبة من الأرديتي[6] في تلك المدينة الموحلة والممطرة شتاءً؛ ضاجع قائدها لوز، لم تكن قد تعرّفت على الإيطاليين من قبل. في النهاية كتبت إلى الولايات المتحدة أن ما كان بينهما لم يكن سوى علاقة صبي وفتاة. كانت تشعر بالأسف، وتعلم أنه ربما لن يستطيع أن يتفهّم هذا، لكنه في يوم ما قد يسامحها ويشكرها. اعتقدت لوز، بعكس المتوقع تمامًا، أنها سوف تتزوج في الربيع. كانت تحبه كما ظلت دائمًا، لكنها أدركت الآن أن الأمر لم يكن سوى حب بين صبي وفتاة. كان لديها إيمان راسخ به، وتمنّت أن يحقق نجاحًا مهنيًا كبيرًا. عرفت أن ذلك هو الأفضل.
لم يتزوجها قائد الكتيبة في الربيع، ولا في أي وقت آخر. لم تتلق لوز أي رد على الرسالة التي بعثت بها إلى شيكاغو. بعد مدة قصيرة، أصيب بالسيلان من بائعة في أحد أقسام متجر ما، أثناء ركوبه سيارة أجرة في منتزه لينكولن بارك[7].Bottom of Form
…………………………………
[1] تقع في شمال إيطاليا وتتبع إقليم فينيتو
[2] تسمى السمامة أيضًا، وتشبه السنونو إلى حد كبير، وتشتهر بقدرتها على الطيران لشهور متواصلة دون أن تهبط.
[3] عبارة “Friend or enema”(صديق أو حقنة شرجية) هي جملة مسجوعة تُستخدم للسؤال عما إذا كان الشخص (أو الموقف) هو صديق، أو إذا كان الوضع المعني هو إجراء طبي (حقنة شرجية)، وعادةً ما تُستخدم في سياق فكاهي أو مربك.
[4] مدينة وميناء بحري شمال إيطاليا، عاصمة إقليم ليغوريا ومقاطعة جنوة.
[5] مدينة شمال شرق إيطاليا في إقليم فريولي فينيتسيا جوليا وعاصمة مقاطعة بُردنونة.
[6] وحدات نخبة إيطالية في الحرب العالمية الأولى، وتميز أفرادها بزيهم الأسود.
[7] منتزه شهير في شيكاغو.





