عبداللطيف خطّاب
موتُ الشاعر
من ديوانه الأوّل “زول أمير شرقي”
ومَرَرْتَ بهمْ..
الأعلام السوداء ترفرفُ، لا أعلامَ الخراسانيَّ، وأبي العباسَ، ولا العباسيينَ، أسنانُهم ناصعةُ البياضِ، مُسودةٌ من الخَلفِ، منَ الضجيج الإعلامي.
ومَرَرْتَ بهمْ..
في الشوارعِ النتنةِ، أوراقُهمْ مُصفَرَّةٌ، والخريف يشمل كل الفصول إذنْ أين مررتَ؟
مررتَ إلى «أويس القرني» ودارتْ أُمُكَ حولَ المقام بخشوع تقديسي، وكنتَ تنظر ببلاهةِ الأمير(ميشكين) إلى القبة العالية، والشاش الأخضرُ الذي يغطي الجدار ومسحَ الحاجبُ رأسكَ بالزيتِ، وكذلك يديكَ، ودعا الله بأن تشفى، فمرضْتَ.
ومَرَرْتَ بالقرى تبحث عن شيخٍ غَضِبِ على أهلك منذ سنين، ووقعَ المرضُ عليكَ، وصنعَ لك شيخٌ آخر حجاباً و«ودْعاً»، تُعلقْهُ على صدركَ، وتخفي أسراره عن الناس.
إذنْ. أينَ مَرَرْتَ؟
لعلكَ لا تعرف الأدب والأُحجيات،
ولا تقرأ الكتبَ الممنوعةَ،
لعلكَ لم تقرأ قصيدة النثر،
رُحْتَ تعلقها بدلَ الآياتِ التقديسية،
ورْحتَ تشطب شعر «الخليل»،
«يا عجباً من يذبح البقر في الهندِ؟»
«مَنْ مِنَ النساء، تذبحُ الدوابَ في صحرائنا؟»
إذن أين مَرَرْتَ؟.
الحكاياتُ الشعبيةُ لا تستقيها، يحكي لك الرجالُ الكبارُ الحكاية، فيطردكَ والدكَ من المجالسِ، وتصغي بأذنيك الأرنبيتين إليهم:
ذهبَ بدويٌّ ورعى الجِمالَ سنينَ
وقال له صاحبُ البيتِ:
«أعطني أجركَ أُعطِكَ نصائح ثلاثاً».
فقبلَتْ بساطةُ البدَويِّ، مساحةَ النصائحَ.
قالَ لهُ:
«لا ترافقِ الأعورَ».
وكنتَ بعينٍ واحدةٍ، فبكيتْ.
«ولا تنمْ إلا على رأسِ الجبلِ».
ونسيتَ النصيحةَ الثالثةَ.
ونامَ على رأسِ الجبلِ، ففاض السيلُ، وجرفَ الناسَ مَعَهُ ونجوتَ أنتَ، ورافقتَ الأعور بحذرٍ، ولم تنمْ جَنْبَهُ، فوضعْتَ، فزّاعةً، وراقبتهُ، فضربَ الفزَّاعةَ، فعرفتَ خيانتهُ، فقتلتهُ.
يا لكَ من شرهٍ للحكايات الشعبية.
وترفعُ صوتكَ الوجداني، في عالم خالٍ من النصائحِ، وتتذكر الحكايات، وتسمعُ صوتاً ريفياً، وتتذكرُ الأغاني، لا الرقصُ جاءَ، ولا عالمك الترفيُّ ذاك بدا. كنت تهز رأسكَ كالمجنونِ، وعندما جَرّوكَ إلى وسط الساحة، بدأتَ تنسجُ الرقصَ، فتفتحُ فاك الفاغر تقلدُ أصوات الدببة، وكان الضحك يتعالى من وسط الأكوام الأنثوية السوداءْ.
إذن أين مررتَ
لا الفلاحين ذكرتَهم، وورقة التوتِ لم تسترِ العريَ.
قل لي لمن تكتبْ؟
لعلكَ لا تعرف قصائدنا، وحكوماتنا المتعاقبة، لعلك تعيش في العالمِ الوهميِّ للشعر، لا تقرأ النقد وتمشي إثْرَ الليل.
أنت الذي مَرَرْتَ بهم؟
سجلكَ الدوليُّ فارغٌ، والأمميةُ لم تعترفْ بكَ، ويتضاحكُ المستعمرون على أصوات الملاعقِ، ويأكلون طعامكَ، وتأكل الترابَ ويتهمونكَ بالتخلفِ.
عشتَ معهم.
في قريتكَ الأثريةِ، تتدربون على السباحةِ في الأنهار المعتمةِ، والأجسادُ العارية الصغيرة التي يتلاصق الجسدُ فيها، وتعتمر التشويهات مكاناً رحباً في الجسد الأسطواني، وتختلطُ أصواتُ الحيواناتِ، والكلاب الأهلية مع أصوات الملاعق على الصحون الفارغة، وصراخُ الأطفال الجوعى في حرّ الصيف، وذبابُ المغربِ، والفراشاتُ القارصةُ التي بعثتها الدولةُ.
عشتَ معهم؟
وجسدك المكوي بالنارِ، والإبرْةُ التي خَرَزَتْ عينكَ، وحرقُ البطنِ الذي شوَّه جسدك الإفريقي، وأنفكَ الذي يحتل مساحةَ وجهكَ، لا تتذكر كبير الأنف الروسي، ولا التماثيل البابلية، ولا حمورابي وأنفهُ الحجريّ، وأذنك التي زارها الصمم واستقر ضيفاً عندها، لا تسمع ظلام العالم ولا ضجيجه، إلا من شـعرك المتجعد، وفروة رأسك التي لا تعرف الاستقرار، ويديكَ اللتين تشهدان على العظمِ الإنساني، وأظافرك الوسخة التي تضعها في فمكَ البئري، ويــقول عنك «فرويد» إنك تبادر إلى الجنس، يا لفرويد الشرقي الذي يقطن قرانا..
وتحلم بشهوانية الجسدِ، وتمارس العادات السرية حتى في رَثِّكَ البالي، وتتطلع إلى الكتب الجنسية. عضوك التناسلي الذي حكم عليه الإقطاعيون بالضمور، والذين وضعوك في مرتبةِ البغل (يا للحظ التمدني)، وأخرجوا ما تحت عضوك بالإبرة الألومونيومية، كما يفعلون مع الحصان، وقالوا في بلاهةٍ:
«لكي لا يضاجعَ الأميرةَ»
أنت يا من تركض وراء القططِ، وأذيالِ الكلابِ، وتشربَ اللبن في حفرة الأرضِ، وتأكل الشوك الطري مع الجمالِ، وتغتسل بماءِ النهر الوسخ،
كيف تضاجع الأميرة؟
عشْتَ معهم؟
أين عشْتَ، قل لي: في «طوال العبا»، أم على ضفة البليخ؟ ولماذا تأتي إلى المدينة مُحَمَّلاً بالقمل والقُرَادِ؟ وعيونك المتطلعة نحو قاعِ البئرِ، هل تريد اكتشاف صورة فتاة الماء التي حكوا عنها؟ وهل صفاء وجهكَ يستأهلُ الماء، يا ذا الوجه المشوه؟
عشتَ معهم؟
وحكوا لك عن النار، وقلتَ أصلي حتى الضحى، فلماذا أصلي على نار الحجر، ووصفوا لك البُراقَ، وعندما رأيت السيارات، نفضْتَ رأسك، حتى لا تقارب صورتهُ مع الصور الدنيوية، وعندما قالوا سنطلع إلى القمر، هَزِأْتَ من الكفار، وظننت نفسك كافراً تصلي على نار الحجر.
عشتَ معهم؟
والجنةُ وصفوها لك، ورفعت ثوبك، وبقايا شهوتك الجنسية مازالت ترتعش، وعشت في أحلام مع حوريات الجنانِ، وشربت اللبن، ورأيت أنهار العسل، لكنك لم تقتربْ، وقبَّلْتَ الخادمة، وشاجرتها على الحذاء اللامع وجواربك المرتَّقة طلبتَ الذهب عوضاً عنها، وأتيْتَ بالسريرِ واستلقيْتَ عليه وصفّقْتَ بيديك كالأمراء القدامى وجاءتْكَ الحوريات، واخترْتَ ملكةً للجمالِ وتوجتها على سريرك، فتعرَّى جلدك الأسود، وعندما أتتكَ تفاحة طائرة وضربت وجهك، استيقظْتَ على نفسك بين الأقدام الثقيلةِ.
مَرَرْتَ بهم؟
رحلتك إلى العالم السفليِّ، مصادفتك لـ «أنكيدو» لم تكن طيبةً، وشربتَ من صاحبة الحانة كأساً من النبيذ واتبعتها بعشْرٍ، ونظرتَ بولهٍ إلى صدرِ العاهرةِ التي ضاجعها «أنكيدو»، ولكنك لم تتحول إلى بشرٍ في سجل الأمم المتحدة.
رأيت اليونان، والجرة المتحفيّة ذات السم، وكتاب الجمهورية، وزرت «هوميروس» ومـررت على التتار، وزرت ذا الساقين وذا الساق الواحدة، ومَرَرْتَ على الأتراك، وعلى العرب مَـرَرْتَ، ورأيت صورة «امرئ القيس» والحوض الذي سبح فيه مع الحسان، و«أدونيس» الذي دوخنا برائحة البصل.
ومَرَرْتَ على الجحيم، وطبخوا رأسك بالماء المغلي، وأعادوا جلدك، وطبخوك، وأعطوك القدرة على المشي، وأعطوك القدرة على تحمل العذاب، ولكنك..
مَرَرْتَ بهم؟
أنت من تكتب، وتؤطرني في اللوحات الصينية، وتقول عن العجل ولداً، ولا تعرف الأقلام المصفحة، والله لا تعرف موضعه، وتقول إنك عالمٌ بالأشياء، وينظر إليك «أبو الأسود الدؤلي» على الأخطاء النحوية فيغضب من الإطارات المحنطة، وتنظر إليك أعمدة الحكمة السبعة، وعلى القوافي، ويصدون العصر، ويمسكونه، ويخلطونه مع مخاط الأنف، وأطـفال النمل، والنحل وطنينه، وبيضةُ الرخ.
مَرَرْتَ بهم؟
وبعد مرورك بالأقدام الثقيلة، والإذاعات التي لا تصمت، وضعت نفسك، وإحساسك، وشعورك وخيالاتك الإدراكية، وأظافرك، وشعر يديكَ، في محرقةٍ لم ترها في وادي الجحيم، وصببت على نفسك سائلاً من حيث لا تدري، وتبرّكت بأسماء لا تعرفها، وطلبت من الأقلام أن تكتب عنك، والمحرقة تطبخ جلد رأسك، وبواقي مفاصلك، وصديقك ينظر إليك، ودارت بك المحرقة الدورات اللامنتهية، وأخرجتك من الشمعدانات المريمية، ومسحوا جلدك ورأسك بالزيت، ومَرَرْتَ على صحراء سيناء، وخاطبتَ موسى، وحفظت صوته في علبٍ على الطور، ولثغْتَ بأسماء لا يعرفها البشر، وغدوتَ طفلاً ونسيت الأعلام والأسنان، ورأيت النور ينبع من الأماكنِ، وبهرتك الأضواء، وحكيت عن اللامرئيات، فوضعوك على الحجر، ومسحوا رأسك، وأتوا بالماء، وغسلوا جسدك النجس، وسـملوا عينيك، وواروك القبر، وعندما أردت الصراخ:
بحثتَ عن لسانك طويلاً
الرَّقة
18/10/1980
***
سِفْرُ الرّمل
من ديوانه الثاني “الغرنوق الدَّنف”
ليلٌ،
ليلُ المرتابين،
ليلٌ يرتدي ما رماه القدامى،
ليلٌ تلبَّسَ سرَّ الوجود،
ليلٌ تسربلَ بالزردِ العبقري،
يجرفُ نسغَ الدم،
يتحللُ بالرأسِ الملعون،
يتخفى في زي الملكوت،
يخدِّدُ سيلَ الدمع،
يتوحَّد بالنَّوحِ الأول،
للطفلِ الوادع،
للقبرِ الوادع،
يتشذَّر في برجِ الموتِ:
.. أين مني النفْسُ التي ما فطرها العالي نيّاحةً:
يا مجدَ الليل،
أين ولّى العمر الذي أهذرُ فيه
بئرٌ في الصحراء أنا -فُطرتْ- في طَلةِ فجرِ الملكوتِ،
وانْطَمِّيْتُ عند صلاة العصر الوسطى،
ما أبغيهِ من لفظة »ليل«؟ يوم مسار الألفاظ الأولى؟
من عاشَ بشهدِ العمر؟
مَن؟
وجنى -جذلانَ- ريعانَ الأيام؟
نشَّ مِدادَ العمر،
غذَّى جذوةَ ميْعتهِ بالسُّمِّ الزاهي
مَحَلاً -صَيَّرَ- بُقيا ماءِ الأيامِ،
ما زال المجنونُ يهلوسُ في بَيْعَتِهِ:
من جنَّن صحراءَ الدوِّ؟
من جعل فُتات القلبِ عناوينَ الوجدان؟
يتنفّسُ فجراً غَالَبهُ الدمع،
للطَللِ الصَفْصَفِ،
والخلاّن الرُحّلِ،
مَنْ؟
تركوا المجنونَ يُغالبُ سكراتِ الأجداثِ،
غَزاهُ الجُدَرِيُّ نقّاشاً لِشَغَافِ القلبِ،
.. سِجّيلٌ يجْدُرُ راميهِ، ويباهلُ نيرانَ الأخدود،
تركوا وطناً يقتاتُ على البدوِ الرُّحل.
.. كان الروميُّ يقيءُ عَرباَ غابرةً أو حجراً أسود،
وكان الأعرابيُّ -ذبيحاً- يَرتَقِصُ على رَجْعِ فحيحِ الموتى
يُوطِّئُ أكناف الإبل، كي ينزو الروميُّ على ملحِ الأرض،
يتناهى رَجْعُ الألفاظِ، أصداءَ صفيرِ الريحِ الأولى،
وبقايا دِمَنٍ، سَفْوُ رمالٍ، نُؤيٌ مَثلوم،
نَشَّ مدادَ العمرِ الصابغِ نارنجُ الفينيقيين،
يتراءى دربُ الصحراءِ سراباً، يذبح ناموسَ التصوير،
وتُسبّح باسم الله ثلاثاً أعشابُ المحراب،
تَصَّاعَدُ تعريشاتُ الوجدانِ حُلولاً بالبدْءِ الأوّلِ،
ودمُ الصحراءِ دمي، يَسْحلُ دربَ التبّانّةِ كي يقْلبَ سكّين الفِدْيِةِ،
لكنَّا حرَّقْنَاْهُ؛
ورمسناه هباءً في »أور« الكلدانيين،
ليلٌ،
ليلٌ أعمى يهدي البصّارين مناحي الهُوْتَةِ،
ليلٌ يضْبَحُ: اطفئْ هذا النور،
فقد عميتْ عيناي،
نبح المجنونُ يُرتِّلُ آياتِ الليلِ الأعمى:
اطفئْ هذا النور،
فإنَّ القلبَ انطفأ،
والعمرُ يُغَالبْهُ النسيان،
أطفئْ هذا النور،
فإن القلب ذوى،
وبقايا العمر، طيوف حكاية،
نبح المجنونُ يرتلُ آياتِ الليلِ الأعمى،
لكني والليلُ ندامى،
أمشي الرَّيثَ، مشْية ندمانَ،
أو مكسورَ الخاطر،
أعبثُ بالنجمِ، ثآليل القلب،
أهدهد نجم الشاعر كي يُعمى خثرات الوجدان،
قلبي تابوتُ »بناتِ النعش«،
هو الليل -لا أدري- ليلي،
ليلُ أطياف القرى على جاليّ »بَليخ« البال.
[.. تتراءى في الرُّقُم تصاويرُ الأنهارِ،
وأنا المولود جهاراً في »ما بين النهرين«،
طولي يترامى مثل مسلّات المصريين، وأناغي طيناً يجبله الآشوريون
كي ينطق عربو- جندو،
أنا… وأنا المتواجد ما قبل التكوين،
ألبس جلدَ الماعزِ في عرسِ الأسوار،
أنكح غانية المعبد، كي يَرْمُس طَفُّ النهر شِلوَ أواْدِم،
صديدُ الموتى، قوباءُ الفاتح،
قيحاً وزُحارا يتلفظنا الآريون..]
ليلٌ
سُمَّارُ الليلِ، ترجيعُ قبابِ الطين،
ليلٌ
بهزيعٍ وَسْنَانٍ نتلظّاهُ صدىً وعنينِ
ليلُ الدَنَفِ،
المفعمِ بالسردِ الشرقي،
تجارُ المتعةِ يا »دنيا زاد« الألف،
مسرورُ السيّافُ يُثّلمُ حنجرةَ الصادحِ،
كي يَشْخَبَ دمعُ الدم، …
[… ورويداً كالهيمانِ،
ألملمُ شقشقةِ الفجر،
طفلٌ داعبَه الليلُ وحاباه،
يُقعى منزويا في ركن الخاطر،
يستشرسُ في ليلِ البال،
ينشجُ مخذولاً:
نَحتُّ على الثؤلولِ الموغلِ في الذكرى،
وتكوَّنتُ رفيقا للحادينَ،
عَددتُ النجم، …]
[… ظَل الحرسيُّ يدق الأرضَ بعنفِ الموتى،
يتقوى بالمهمازِ ثمالة جمجمةٍ، ينخسُ جلوازَ الوالي
أَتِنَ الأعرابيُ، كي يخلق شعباً في زي الحيوانِ الأجرب،
ينهق -جذلان- في أولِ حمأةِ غِسلين،
ينكأُ جرحاً، يتدفَّقُ أعراباً مما قبل الطوفان…]
حَفِيٌ بالنجمِ، أنا،
[… يترامى صوبَ الأكتافِ يميناً طيفُ ملاكٍ يدفُّ بأجنحةٍ تتقدَّسُ »طاسينَ« الصوفيةُ، وعلى الأكتافِ شمالاً يتربَّعُ طيفُ ملاكٍ في زي غرابٍ ملعون، ينعبُ فوق بقايا الروحِ
فيما كانتْ أنهارُ الجنة تطفحُ بالموتى…]
... في »كنز« الصابئة، تراعي ثؤلولا، تنعي نجماً خرَّ سجوداً للرحمنِ، تردفُ أعرابياً وتجوبُ ديارَ الترك شمالاً، تتناولُ قربانَ الحكمةِ من لوقا السوري، تُشِمشِمُ عثَّ الوراقين، بيوتُ الحكمةِ تفتحُ مصراعيها، وتصطفقُ حنينا، يلجُ سليلُ الرهاويين، يُجَمْجِمُ نسطور السريانِ بوصايا الآلهة الأولى،
[… في »كنز« الصابئة، تجهرُ بالسرِّ، كي يتشظّى قدومُ الرحمنِ على عتباتِ الروميين، يتشاطئ شمشونُ العبري، سعادينَ الدولةِ، تنفذُ كلماتُ الصحراءِ، تغرف أصواتاً من لُجِّ اللوحِ المحفوظ،
تكتبُ:
ملعونٌ أنت
ملعونٌ نسلُك
ملعونُ مِن حَدِّ البريَّة حتى أسرار الشيطان…]
هدهدني النوم،
لا سِنةَ تأخذني، والنومُ عذابي،
يهتزُّ سريري،
وأنا العرشُ المتأرجحُ في لُجِّ عماءِ الروح،
… بشرٌ بعذابٍ أبديٍّ في طيفِ البال،
بشرٌ مثلُ كثيبِ الرملِ يتهادون حَيارى،
يتنزَّلُ دودٌ من وقبِ العين،
يدمي أبراجاً تتسامى صوبَ رمالٍ، صوبَ خرابٍ،
يبلبلُ ألسنةَ الصينيين،
كي يتداعى الناسُ حزانى بالأحجيةِ الأولى:
كن فيكون،
ليلٌ
يتشظّى في برديِّ الحكمةِ ما بين الشفقِ،
وما بين الفجرِ حتى يتبين خيطُ التسبيح،
ظلماتُ الكائنِ تلك،
ظلماتُ المكنونِ ابتدأتْ،
ينشجُ، تخضلُّ عمامتَهُ:
بالله خبرني يا أيها الحادي
العيسُ قد ذهبتْ يحدو بها الهادي
فيما كان البغلُ -جذلانَ- يصيء:
اسكتْ هذا الصوت،
اسكتْ هذا الشجو فقد ولى زمن الوجدان،
فيما كان الآخرُ يثغو:
ارحمني،
ارحم قلباً يتفطرُّ شَجْواً،
ارحم قلباً شالَ الدنيا بالحزنِ الأكبر،
ارحم قلباً أعزلَ مثل غزالاتِ البريَّة،
نفرتْ منّي غزلانُ البرِ، وتيوسُ الصحراء،
مسكوناً بالجنِ -ظللتُ- جريحاً،
حتى فتحتْ لي »سيدوري« بابَ الرحمن
غَلّقتُ بابَ التوبة
في بيبانِ الوجدان
مشيتُ على دربٍ محفوفٍ بالحرس،
محفوفٍ بحرابِ الدولة،
صوتُ الحرسيّ أليف،
صوتُ السجانِ حنونٌ مثل المُدنَف،
غَلّقتُ بابِ التوبة،
في بيبانِ الوجدان.
… قيثارُ الشرقِ شجي،
ينبعثُ رماداً »برصوما« الزامر،
قيثارُ الشرقِ شجيٌّ،
يتقطّرُ عنّاباً في نملِ سليمان،
قيثارُ الشرق،
دُّفُ الأحزان
نَيَّاحاتُ اللحادين،
على أي مقامٍ شرقيٍ، يَرْتَقِصُ الشرقُ ذبيحاً،
وينغسلُ الوجدان؟
… تصطفقُ الأبوابُ الظمأى، توصدُ بالمغلاقِ وبالمزلاجِ الأعظم،
يومٌ يمرُّ الوالِهُ،
يومٌ يمرُ الآسِرُ تتلقَّفُهُ »عينُ الوردةِ«، يمشي في البريَّة، جذلانَ، تتقفاهُ حِرابُ السُّمِ،
يمشي مصلوباً فوق قُرابِ الماءِ، يتقصّى صحراءَ الجِّنِ،
»أمشي بقذالي البدوي، أتأبط سيفاً أرعن،
أنا الآسِرُ للنوقِ الجذلى،
للسرِّ الوالِهِ،
لحواريْ الشرقِ اللائي ينفرن سراعاً… «
»صديانُ الحرِّ اللَّافح… «
كالمحمومِ أهذرُ في الكلمات،
أواسيها…
… يداي هاتانِ اللتانِ تعيثانِ بالبشرِ الغرقى في نهرِ العدم،
عدمٌ أسبغتُهُ على الكونِ، دمٌ ضمَّخَتْهُ يداي آنَ الصرخةِ الأولى، رأيتُ شفقَ الطورِ، تركتُ عصا موسى، لكني فَصّلُتُ الصحراءَ على قدِّ إيالاتِ الموتى، آليتُ على النفس:
كوني هُجراناً من كهفِ الأنهارِ الأولى، طرداً ككلابٍ شاردةٍ
كان الدمُ ينفرُ كالغزلان،
صحاري الإمتاعِ، مرصادُ الجنة.
.. شعبٌ نوّامٌ حَتْفُ الأنفِ، ينخسهُ الروميُّ كبعيرٍ مطليٍّ بالقطران،
كان الراوي يتلاشى مثلَ سرابِ الصحراء،
كان الراوي في زِيّ المدّثرِ،
كان شجياً وحزيناً يتلبسُ أرديةَ الموتى:
»… هذي نياحتي على الكائنِ
قيدتُها في سِفْر الرَّمل… «
نفدت كلمات السفر
في الرقة التي على الفرات
في 18 فبراير 1997
………………………………
عبداللطيف خَطّاب، شاعر من الرقة التي على الفرات
ولد عام 1959 في قرية »طويلعه« على ضفاف البليخ شمال مدينة الرَّقة. درس الاقتصاد في جامعة وهو من مؤسسي »ملتقى جامعة حلب الأدبي« الذي تأسس في الثمانيات وكان بمثابة مختبر شعري. نشر ديوانه الأول »زول أمير شرقي« في سلسلة دار رياض نجيب الريس الشعريّة عام 1990 وصدرت طبعته الثانية عن دار جدار للثقافة والنشر عام 2024. نشر نصوصاً ومقالات في عدد من الدوريات والصحف العربية. توفي في مشفى المواساة في دمشق 2006 إثر خطأ طبي.
صدر ديوانه »الغرنوقُ الدَّنِف« عن دار جدار للثقافة والنشر 2024 وضم آثاره المعروفة غير المنشورة: »الغُرنوقُ الدَّنِف«، »سفر الرمل«، »أور: زقورات الحماد«، »ترجمان النوم«، وقصيدة بعنوان »هايكو صحارى الجنون« وقصيدة »جثتي هيّابة« غير المكتملة.