فلو حكاها غير القادرين
على الحكي لخرجت مملة رتيبة منزوعة الشوق في السماع, ولهم كل الحق متذوقي الحكايات إن صموا آذانهم, فكيف يسمعون قصًا غير معجون بطينة من سحر, يجبر التفاصيل أن تظل عذراء لا تفض متعتها مهما انقضت الأيام. لذلك فلشبين كل الحق أن تخاصمنا وتصادقه, فما نحن منها غير غرباء, بالطبع غرباء فليس لشبين الآن غير صديق وحيد تعرفه, لها الحق ألا ترد سلامنا إن حييناها, سيعتصرنا الخجل من شبين, أننا قد قابلناها قبله بسنين ولم نعرفها, رغم أنها التى سمحت لنا أن ندون فى صدر بطاقتنا اسمها ذا الحروف الأربع فى خانة المكان.
***
حديثنا اليوم, عن من أرهق شوارع شبين مشيًا, كى ينسِج من تلك الوجوه التى يراها عالم يستحق الحكاية, فى أكمام قميصه السماوى, تستطيع أن تشم من بعيد رائحة أذقة شبين وحواريها, فتنكشف أسرار المسكوت عن شبين. على مسرح شبين, فسر الحلاج الهوى بالهوى, والمعلوم بالغيب, حلاج شبين طهر نفسه من الرسوم وطرح صوفته. ساحة عشقه شوك ومشقة, وأحبابه جلادوه, والأستاذ عاطف مرتفعًا فوق مستوى اللحظة مشغول باحتضاره, وعبد الرحمن أبو زهرة يصور بكاميرته الشخصية, أروع مشهد لممثل يموت. *** شبين مدينة قد خلت من قبلها المدن, شوارعها كالشوارع, وبيوتها كالبيوت, لكن إن مشيت فى شارع الغزل فيها, لوجدت الكافور مبتل على الجانبين وغدائر يتحاشاها المحبون. هكذا الحديث عن شبين كما لم يحدثنا أحد.
***
شيماء زوجتك يا صاحب القميص السماوى, تضع البرتقالة لتلفها أمك فى منديل وتقرأ عليها قرآنا كى تستحيل البرتقالة إلى رضيع جميل الوجه بخدود حمراء, إن ناولته لأبوك يضحك ولأخوك يضحك, لكنه فى يد شيماء يصير غرابًا شديد السواد لا يكف عن البكاء حتى بعد نهوضك مفلوجًا من الكابوس فطبيب العقم لن يغيتها. *** الزمن فى شبين قماشة بيضاء, والأبطال فى شبين, متشابهون لحد مربك, صحيح, أنت ماكر من الافلات من مصيدة ناقد يوقفك فى أحد شوارعها ليرميك بسهمه النقدى عن ذلك, ما الفرق بين سليم الطبال وعادل المصرى, بين غادة وجنية يا مبدع ؟ ماكر أنت يا محمد, قلت شيئًا وسكت عن شىء, فعرفنا من سكوتك سر ما اخفيت, عن محمد الحفنى ومحمد حليمه وطاهر البربرى وعصام, لما اختارتهم شبين فصاروا متيمون بها, إن ضحكوا تسمع ضحك شبين معهم, وإن بكوا بكت هل لأن الصعلوك فى عُرف شبين, هو فنان أو مثقف يتحايل ليأكل ويتحايل ليجد مكانًا يبيت فيه, لكنه لا يسرق ولا يخون. *** شبين تبدأ فعليًا من كلية الهندسة وتمر حذرة من أمام استراحة المحافظ, وبعد الرى نادى الجمهورية فالنجدة, فقصر الثقافة, فالإستاد, فالرمد, فالمساعى, فالمحلج المهجور, ليعبر مريدها محنيًا من تحت الكوبرى العلوى, يسمع غناء شبين لأغنية أم كلثوم “لسه فاكر” على أنغام سيد جابر, وكيف ننسى, خبطة الدمينو وقرقرة الشيشة, فى قهوة أبو يوسف, عندما يأتى المساء.
***
لكن أين ذهب الناس, ولم المدينة ليست على سحرها القديم الآن, هل لأن السبعاوى سافر بعيدًا, وقصر الثقافة يخضع لترميم جسيم, وسيد جابر ابتلعته القاهرة فتاهت من رأسه طريقة تمرير الريشة على الأوتار كى يصدح عوده بلحن, من مفردات الصعيدى عن الورقة المرسوم على بياضها بيت بمشربيات الهوى, لا نافذة فيه تطل على التوابيت, كى تفرح شبين. *** سنتذكر شبين مع العناب فى الصيف, أما ونحن فى الشتاء فالسحلب لا غنى عنه, فكما تعلمون, فمن أصعب الأشياء على الإنسان أن يغير عاداته, إلا اذا فركت خاتم سليمان, كى يخرج محمد حليمه, مع مارد قليل الحيلة مجبرًا على إتباعه. يحكى له حليمه من حكايات منثورة فى الكتب, بعد أن يضع الحكاية تحت قمر كامل ويتركها ليعود إليها بعد يوم, فاذا هى بنتًا من لحم ودم, فيعرفها باسمها الجديد, ويتمشى بها فى شوراع وأذقة شبين كى تحكى من الوقع أعذب الكذب الأبيض. خاتمة: لخروج الروح صوت الناى, ولشبين مبدع يحبها. من السهل أن تكتب رواية, لكن من الصعب أن تتجنب السقوط فى بئر النرجسية الزائفة, فتصاب بأفول العمى بعد الخطوة الأولى فى المشوار الطويل, فتدور حول نفسك فى حجرة المرايا المغلقة تعارك خيالك وتعلن بغطرسة الغافل نبأ فوزك على نفسك, والذى هو فى الحقيقة نبأ موتك عندما لم ترى سواك. لذلك ننتظرك, لتحكى لنا عن عالم آخر ليس بأقل سحر مما حكيته عن شبين, شبين التى ماتت فينا فأحياها حديثك عنها. فلك الشكر ولشبين الرضى والمحبة.
* قميص سماوي .. رواية لمحمد الجمال فازت بالمسابقة المركزية مركز أول عام 2011
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هاني القط كاتب وروائي مصري
صدر له رواية “سيرة الزوال” 2010
مجموعة قصصية “سماء قريبة ”