“ماتربربرب ربربرب”نظرة في ديوان ” لا تقل عن ولدي إنه يمشي في السماء “

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 39
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

” نحن بالنسبة للآلهة كالذباب، بالنسبة للصبية العابثين يقتلوننا للتسلية “.

بهذه المقولة الشكسبيرية يصّدر الشاعر والقاص إسلام نوّار ديوانه لا تقل عن ولدي إنه يمشي في السماء” الصادر العام الحالي  2019 ، وليته لم يفعل.. ليس لأن المسافة بين شكسبير وهذا الديوان سنوات ضوئية، ولكن لأني كقارئة لم أكن لأرغب في أي تمهيد لما يلي، وما يلي هنا جسيم، كثيف، ضاغط، مُفارِق وتجَاوز عتو الغضب ولم يسقط بكليته في حالة التفلسف الموجودة بشكل كبير في النص. وإذا أراد الشاعر التصدير بمقولة لشكسبير فالأجدر لو أنه اختار مقولة ” أنا أخادع عن حقيقة ما أنا عليه بالتظاهر بالعكس “. ( عطيل )

ثم يبدأ الديوان .

” بعقلٍ عادي/ في يومٍ عادي/ لا يعرف لأي شيء مُسمى/ وغير قادر على التسمية”.

وهي خدعة، لأن البساطة الظاهرة لن تَسِم هذا العمل، وهي خدعة اعترافية تدعم نفسها بتخيّر لفظة ” عادي” ولا أظن أن أي شيء في ” لا تقل عن ولدي إنه يمشي في السماء” يمكن وسمه بتلك السمة  كما لا أصدق أن الذات الشاعرة تقبل أو تحب ما هو عادي.

فقط التعب الجليّ في جملتيه ” لا يعرف لأي شيء مُسمى/ وغير قادر على التسمية” يمكن تصديقه، والمثابرة معه أو من أجله لبقية ما يدخره لنا الشاعر في هذا العمل المختلف عما قرأت لأغلب مجايليه في الراهن الشعري المصري. فهل الصدم فقط هو ما ننسبه إلى هذا العمل أم نجد الفن في الأعماق؟

بعد هذا الغثيان السارتري كمفتتح تعود بنا الذات الشاعرة إلى قولها الأكثر حقيقية أو بالأدق، الأكثر غضبًا، صرختها .. مجاورة لفظ الجلالة في نفس السطر لكلمة مومس رغم الفاصلة لنزع الجلالة، تكرار مفردة مومس وهي استبدال أرقى وأفصح لمرادفها الدارج في العامية المصرية، مع متواليات إعلان الموقف من أهرامات السياسي والديني والجنسي والبطريركي واللغوي والعائلي والتعليمي.

يتم غمر القارئ بعبارات قصيرة، متواليات نفسية شذرية كمانشيتات بادية التفكيك في عالم له بداية أﭘوكاليبتيكية محتومة من السطور الأولى فهكذا تشعر الذات الشاعرة وتستقبل المرئيات والأفعال والأصوات والأجساد، وبقصدية تعطيل أو تأجيل الإبانة، ينفضُ نوّار الوعي باحتياج القارئ إلى الربط والترابط، إلى بُنيان ما، سيمانطيقا ما ولو في أضيق الحدود، قد تصل محاولاتها في بعض المناطق حدًا يمكن الزعم بوصفه الاستعراض أو الجرجرة إلى داخل متاهة الذات الشاعرة في إحدى أوعر وأشرس لحظات عنفها وسعيها للانعتاق.

وقبل أن ” نلاحق” على ضربات المقول والمانشيتات حيث لا هنيهة سلام أو هدنة ذهنية ( وقد يجادل البعض .. أو هدنة جمالية بعد)، ولكن لأننا كمن يتم رميه بعنف من يد إلى أخرى بصورة دوّامية سريعة مقصودة، تكون اللغة التي اختارت الذات الشاعرة نوع عاميتها وفضائحيتها، معلِنة لضرورة التباذؤ، لغة شاعر وسباب متعامد مع مفردات بإحالات مقدسة ” تعمّدوا ” يردفها بالآتي ” عندما تفتح قدميها “، وبعبارة صبية يتباهون برؤية عضو أنوثة واحدة ” وأنا شفت بتاعها” ( والغريب أن المشار إليه كعضو أنوثة هو مذكر في العامية المصرية العنيفة )، وبانعطافات عليه كما لو ثمة أغنية  سرية جنسية شعبية ” زغللي عيوني ” ثم ارتداد لمفردات مثل ” البشارة” ، ثم هياج النص كله من الصفحة الأولى بتداخل اللاتينية المحتاجة لهامش شارح في ما قد يؤّول كاستعراض ثقافي غير مبالٍ بقيمة أن ” يفهم” القارئ العربي لترتد اللغة إلى الحالة الممسوحة – ظاهريًا أو وقتيًا – من المعنى والمتمسحة في غلالة المقدس الذي يرمي النص كله إلى هتكه :

وتقول البذرة/ اتخذني مذبحًا/ أنا كل النبيذ أنا الخبز”، ثم القنبلة الجنسية مرة أخرى بل مرات، “بتاعها كبير”، ولا تمهلنا الذات الشاعرة فالكلمة التالية مباشرة هي ” كيرياليسون” ثم ما يبدو عودة متقصدة للابتذال الذي يعانقه ويحتفي به النص باستكمال الإيحاء الجنسي في أغنية سرية underground مصرية ” مليان مسامير” ، وطبعا المسامير المقصودة جنسيًا هنا، لن تنفصل عن وضعية صلب المسيح. إنها قصدية التجريح والهتك.

ورغم تنويه الشاعر في هامش أنها أغنية اشتهرت بين الأطفال المصريين في تسعينيات القرن العشرين وغير معلومة المصدر إلا إني شخصيًا لم أعرفها وبالتأكيد أنا لم أكن طفلة في ذلك الوقت لكن لا أعرف من أطفال ذلك الجيل في العائلة الأكبر من يعرفها رغم تصديقي الأكيد لهامش الشاعر، وكثيرًا ما تبرز ضرورة الهامش المفسِر لعالم لا يتهاوى بل هو أصلا مُفكَك ، وعلى وفرة الهوامش إلا أن الشاعر اختار تجاهل شرح بعض الأشياء.

صيحة جهاد داعشية أم كلمات التكبير في الآذان..يريد الشاعر الاطمئنان إلى صدمتنا بتجاورها مع مفردة نسمعها كل الوقت في شوارع مصر” ياكسمك ده العرص أبوك”، وبعدها يبصق في وجوهنا صيحة تحية العلم والوطن ” تحيا جمهورية مصر العربية” ( ثلاثًا مثل المقدس ) ويستكمل ما نَسَبهُ كأغنية مسجلة ( في هامش توضيحي) لصوت الشيخ الضرير المطرب الراحل سيد مكاوي المفترض أنه غنى ” والعِلْقة أمك”، ليسحبها القارئ فوريًا على الوطن الأم.

بتوفير هذا الفائض من قذف سوائله بصاقا ومَنيًّا بامتداد النص على قرائه، لا تكتفي الذات الشاعرة بحقيقة أن العالم المنهار في ذهن المتلقي قد نال استحقاقه . ثمة مقدس آخر لا يريد استثناءه من الطرح أرضًا، بل ومن الدهس بالأرجل. وهنا المُفارقة بكونه يشن حربه على اللغة- كرمز للمقدس في تراثنا العربي لارتباطها بالقرآن مثلا واللغة كسلطة في حد ذاتها، أي في المطلق ( وكما اللمس سلطة لكن سنرى كيف تعامل مع هذا الأخير لاحقا ) . يقوم بإيراد أبيات للأعشى وأبي نواس وبينهما كتلة شعرية عمودية وموزونة له ( لنوّار) ومجاورة ذلك بأغنيته التي يريد لها ضمان سوقية وابتذال الصورة، لا الحسية فقط، بل كل اللغة كهيكل أو أداة يقوم عليها ويتعلل أو يتمجد بها المقدس الإسلامي خاصة فيُدخِل الأغنية المنسوبة لسيد مكاوي ( صوتًا لا كمشاهدة فعلية ) كخنجر فاصل بين عامود الشعر المقتبس من بنيان التراث الشعري الفصيح الهائل، كأنما يمسك كل قارئ على حدة، يصعد به جبلا ثم يرميه بلا رحمة أو تردد من فوقه أمام القارئ الآخر المنتظِر لدوره ” حليوه وفاشخة رجليها، قالت لي طلعّوه مني “.

ومن الجديد المثير هنا اجتراء الشاعر على رموز دينية مسيحية وربما على ديانات أخرى كما سنرى وعدم التحسس من ذلك بالاكتفاء بالتهجم الشعري على المقدس المفترض أنه ينتمي إليه من اسمه هو، أو بكونه يحمل اسمًا هو اسم ديانة كأنما يحملها كلها بكل مرتكباتها على كاهليه.

الله” تتكرر مكتوبة بحروف داكنة.

حوارية تتحدى المعنى والهدر وفكرة الكائنات النورانية لتمجيد فكرة أو حق الخطيئة… يبدأ اللعب في تلك الحوارية بعد ما يلوح – بالحتم – كسخرية فاقعة من مقولة ” الله يُلقي الحكمة”، ثم يميل ناحية أدونيس باقتباس نائح كغنائية عابرة ” المدائن تنحّل/ المدائن تنحّل”، لينفضه فورًا كرمز وينتحل دور الإله المسبوب الذي تُدوخنا الذات الشاعرة باللهاث خلف ما يحدث له ولغيره كي نفقد اتصالنا الرؤيوي بين مقولتها، وبين أخرى، بالبونط العريض: ” أنت” لكنه يناشده أن ” يشربه” ( وهنا يحتمل النص الإيحاء الجنسي مجددًا والذي لا يريد منه فِكاكًا ) في حديث عن ” انفجار بئر الكون قديمًا”، لتستغيث الذات الشاعرة هذه المرة بنيتشه، تتقمص دور أو تهيؤ نيتشه أنه الله بتساؤل مرتبك،  ثم بعد انتهاء دور نيتشه وظيفيًا على نحو مؤقت هنا، بكلمة ” يا بِت” ( عامية بنت ) .. ” أستحلفك يا بت بحبي لك وألمي فيك، ألا ترفعي عنكِ البطل الكامن في أعماقك”. قد تكون الـ ” بِت” أخرى، أو أخرى منقسِمة مع الآخر بداخل الذات عينها. ثم اختيار نيتشه له دلالة نظرًا لما نقرأ عن موقف نيتشه من النساء بإجمال.

هذا عمل ليس مسموحًا فيه أن يكون لك أي مقدس، ولو كنت ملحدًا.. ليس مسموحًا لك ألا تشارك صاحبه ركل كل شيء، ليس مسموحًا ألا تخلع ثيابك النفسية والعائلية والوطنية لتبقى في منطقة عازلة مُغلّفة بالحرمان من الحب أو التحشم أو الإيمان بشيء أو فكرة، كأنما ندخل ناديًا للعراة بملابسنا لنبدأ جميعا مسيرة من المشي الطويل وسط الطبيعة حيث سنشعر تدريجيا بالخجل من الملابس، بشذوذها واصطناعيتها، ثم ننزل بعدها إلى وسط المدينة حيث نسترد خجلنا المصنوع كالمطرود من جنة البراءة إلى الأرض حيث الشرطة والقوانين ووعي ضرورة التستر أمام نقص أي مستوى من مستويات الملبس.

لا أنت إلا هو

إلا أنا

إذًا

هيا نرمي أنفسنا أولا بحجر“.

بعد هذا التوكيد مع التداخل الديني الإسلامي والمسيحي مرة أخرى، يبدأ الشاعر الضنين في منحنا جرعات محدودة من المعنى كدواء، من السخرية من الثورة التي تبدو في جوهرها لا تسخر من الشهداء والأحرار، قدر ما يستعيد صرخته الأم، استعلائه المنسحق أو فرادته المنهرسة المدانة في مجتمع يرفض من يرفض الإنضواء، صرخة حاضنة لعدمية يجدها أكثر أمانًا وربما – له – أقل زيفًا، تريد مقاومة نفسها وخوفها وتستشعر أو ” تختار ” عجزها عن تلك المقاومة.

البكاء أمام التليفزيون وعدم المشاركة في الثورة كمِثال ربما هي الثقب الأسود ( يستخدم الشاعر تلك الكلمة في ديوانه) وقد يكون الثقب الأسود أعمق غورًا حتى لتحوِّل الذات الشاعرة فعل المشاهدة الباكية إلى إرادة ميتا اجتماعية وميتا وطنية، لتهمس وتركل في آن بسقوط كل ” مِيتا “.

لكني شخصيا أتساءل .. هل أسقطت الذات المصادَرة فرادتها أو هويتها الجنسية أو الدينية الخ كل ” مِيتا ”  Meta حقا أم تنتظر حرية، تعود فلا تستثنيها من السباب والعنف الحانق هي الأخرى ، لتبرر انعزاليتها، ظلامها المُختار، صخبها الجدلي الذي ربما في طور تخليقه لـ ” مِيتا ” ما مجهولة بعد، كجنين لا يعرف أنه سيصبح جنينًا أو ما الجنين، ولماذا النطفة أصلا.. وهل تساؤلي هذا يتجاوز حدود المتن وبالتالي هو تساؤل منزوع الشرعية لأنه يمس ما وراء الشِعر؟ .. ربما.

في ” نقد الحداثة “ لـ  آلان تورين، يمكن أو نأمل أن نجد بعض ما يعيننا على الفهم، ففي مقطع عن ميشيل فوكو، “السلطة والذوات” نقرأ :

” إذا كان معيار الخير والشر هو الجدوى الاجتماعية، ألا تُختزَل هذه الجدوى إلى جدوى بالنسبة للمجتع وليست جدوى بالنسبة لأعضائه، وبالتالي تُختَزل إلى دعم سيطرة النظام الاجتماعي على عناصر أدائه؟ هذا هو الشكل الأبسط لفكر فوكو، إن السلطة هي فرض السّوية normalization ومجمل المجتمع هو الذي ينفذ هذه الآلية باستمرار. وينتج بالتالي الفصل بين ما هو عادي وغير عادي، بين الصحيح والمريض، بين المسموح والممنوع، بين الهامشي والمركزي.

إن السُلطة ليست خطابًا يُلقى من فوق منصة. إنها مجموعة من البيانات enonces المنتجة بصورة مستقلة داخل كل مؤسسة وبلغت فعاليتها حدًا كبيرًا”.( ص 223 )

لكن مع كل الطوفان العدمي والأناركي في الديوان، أستشعر كقارئة ما قد يكون شعورًا خفيا بالذنب في تساؤل الذات الشاعرة التي تحاول جعل 25 يناير أو 30 يناير مجرد يوم آخر عادي..” ماذا يقول ما أدرس في الجامعة البعيدة عن الميدان؟”.

ويرد، لأنه يحتاج الرد- أيا ما كان تبريره – :” يقول لن تتحمل فاعجز مكملا سنينًا مكتئبًا أمام البث” ، وينتشل الذات الشاعرة فيض أسئلتها الأشمل ” ماذا يقول تاريخ الفن؟”، لتتلقفنا الاستهزائية بجملة مستعارة من فيلم ” غزل البنات” بطولة ليلى مراد ونجيب الريحاني وأنور وجدي: ” أبجد هوّز….” حتى مقولة “بقى منسجمٌ “.

فهل يسخر من الثورة حقا أم من نفسه ومن الوجود الأشمل بعين طائر حلّق عاليًا ورأى ربما من بلورة سحرية المستقبل.. حتى وإن كانت تلك العين، لطائر أو لفيلسوف تستمد شرعية انعزاليتها أو عدميتها في تلك اللحظة من موقفها من فكرة التاريخ، وانسحابها من الآنية بتخيل أو افتراض ما حدث لاحقا لكنه لم يحدث بعد في لحظة عدم مشاركتها تلك اللحظة المشبعة بأشياء كثيرة تتعلق بالجدوى أو بالمعنى، أو بالتاريخ ذاته؟

تحاول الذات الشاعرة استرداد التئام يرقى إلى الزيف الذي تشهد أنه رأته لما رأت في التليفزيون ( أداة سلطة شاهدنا استدارتها إلى تصوير نهر النيل ليلا وليست جماهير الميدان ) ميدانًا للثورة به شاب شهيد وشابة حرة. تستطيع الذات أن تنتخب معاركها غير المحسومة بعد مع المجتمع، مع السطات بأنواعها ومع خطابات تلك السلطات، لكنها لا تعلن عن خطابها/ منشورها السري إلا عبر الشعر، بدلا من نزول الميدان في وقت نزول الميدان. إنها أدق لحظة اختبار فاعلية تلك الأنا في محاكمتها لقامعيها، لكنها خافت أو استكانت إلى الشك، فاختارت الفرجة عبر شاشة في مدينة بعيدة والبكاء، إما كنبوءة مبكرة تستبق النتيجة كما أسلفنا والتي لو صحت ” أخلاقيتها ” (وكم أخاف من استخدام لفظة كهذه في ديوان كهذا بالأخص ) لانعدم معنى أي فعل أو قول عبر التاريخ برمته أو لانعدم أي فعل من الأساس، وربما لذعرها من إلغاء أشياء أكثر جدوى وأساسية لتلك الأنا بعيدًا عن احتمالية الانتماء وكراهيته، وهناك إشارة صريحة لفريق أو مشروع ليلى” وما تعرض له في مصر، وربما تبكي وعيها بخذلانها للمشاركة في الثورة بوصفها روشتة الأمل لتغيير السلطة وخطابها القاتل لتلك الأنا.

هكذا تقوم مفارقة متمسحة وناكصة نحو مونولوج داخلي” يا مجنون/ الله لم يمت/ الله انتحر/ لما بدا في الأفق نور/ نور محمد…. ” إلى آخر المقطع المتداخل مع نشيد ديني كانت تسمعه في طفولتها على نحو يمزج البراءة بالإزدراء، ليخرج من الموقف ككل.

مرة أخرى نقرأ في كتاب ” نقد الحداثة “:

” لأن النزعة الطبيعية والمادية في المجتمع الحديث هما فلسفتا المسيطرين، في حين أنه ينبغي للمأخوذين في شبكات وإيدلوجيات الخضوع أن يقيموا علاقة مع أنفسهم، وأن يؤكدوا أنفسهم كذوات حرة نظرًا لانعدام إمكانية أن يكتشفوا أنفسهم عبر أعمالهم وعلاقاتهم الاجتماعية لأنهم في إطارها مغتربين ومقهورين. يتحد نيتشه مع السعادة بهجومه على الوعي وعلى الذات مبينًا بذلك الطريق العكسي الذي ينبغي أن تسلكه فلسفة الذات والتي لا يمكن لها في نهاية الأمر إلا أن تكون سوسولوجيا الذات. باعتبار أن الذات لا يمكن لها أن تتخذ قوامها إلا بقطع روابط الخضوع التي تكبلها”. (ص 161)

ويمكن إضافة نقطة هامة هنا..أمام هذا الديوان المتماسك فنيًا، أي مفارقة حرصه على التماسك الفني بعد التظاهر بالتفكك الأوليّ واجتراح جماليات جديدة ، وبين نفس الحرص العاتي على التفكيك لقوام العالم أو تعاطيه لتفكيك العالم بصيغ تجسير بين ” أنا الوعي وأنا الذات الفاعلة” بحسب قول مارجريت ميد ( وهي الذات التي تعترف بعدم فعلها السياسي والتاريخي، مقابل فعلها لبدائل قد تكون بدورها ثورية على المستوى الشخصي في تقديري).

ولأن الصيغ كلها تتهشم أوقاتا في لحظة مفصلية، يمكن للذاتين الواعية والفاعلة أو الفاعلة/ الضد حتى ويمكن اللافاعلة حسب رؤيتنا، أن ترتد إلى هروبية ما يبدو أسهل، سب الإله أو غيره بتحوير سماع نشيد ديني مديحي إلى هجائية واقعة في فخ البراءة الصامت ومرة أخرى وهي تلعن تلك البراءة وكل براءة كما في قول الذات: ” أرى نفسي الطفلة ترى كل شيء/ مُفككًا في صورته الخام بلا معنى/ أراه / متنقلا أمام عيني كسربٍ أبيض/ بخلفية سوداء”، في مقابل ما قررته الذات قبل تلك الأسطر بجملة حُكْم متروكة للمطلق في إحالتها ” أرى زيفًا”، ومشفوعة بصيحة تبرير ( ونحن كلنا كائنات تبريرية بامتياز ) ” اليوم أي يوم وأنا لست هناك/ وكم واحد لم يكن هناك “، لتجاهل كم واحد كان هناك !

مع نيتشه وفرويد كف الفرد عن أن يكون مستهلكًا أو مواطنًا وحسب أي أنه كف عن أن يكون كائنًا اجتماعيا لا غير.

“أصبح موجودًا للرغبة تسكنه قوى غير شخصية ولغوية، ولكنه أيضًا كائن فردي، خاص. وهو ما يضطرنا إلى إعادة تحديد الذات. قد كان الله أو العقل أو التاريخ هو الصلة التي تربط الفرد بما هو كوني، أما الله فقد مات، والعقل أصبح أداتيًا والتاريخ صار خاضعًا للدول المطلقة. كيف يمكن للفرد في هذه الظروف أن يفلت من قوانين مصلحته التي هي في نفس الوقت قوانين المنفعة الاجتماعية؟ يلجأ أغلبية المفكرين إلى فكرة أن الإنسان يمكنه أن يستعيد بفضل الفن طبيعته العميقة، والمقموعة والمشوهة بسبب تدعيم السيطرة الاجتماعية. ينبغي تحويل الحياة إلى عمل فني، واستعادة الروابط التي توحِد الإنسان بالعالم عبر الجمال “.(ص 180 )

هكذا يستطيع نوّار أن يكتب :

  ” أغني أغني بدلا من تحية العلم

 في طابور الصباح،

 أغني على سلم الجامعة

في يومٍ عادي “.

بعد ذلك يعود إلى فكرة العقاب. ثمة عقوبة نؤديها ولا نفهم على ماذا، كما نستشعر من صرخات الديوان. يقلب الآية على مقرر العقوبة ففي سجن الحياة نستعير الألوان الخاصة بالسجون. اللغة خرجت من كهف غرابتها ومن تعليق المعنى الذي شغف به الشاعر، وفي الذنوب المختلَقة هناك بذلة حمراء للمحكوم بالإعدام ستجعل الذات الشاعرة ارتداءها من نصيب الله وهو اللون السر الذي به بدأت الحياة. ” عن زي المحبس أنه قال : الحمراء: عندما كان الله حيرانًا/ ماذا يسمي نفسه؟”.                        

وقد تكون إشارة إلى الدم الأول المسفوك من أول أخ لأخيه.

ثم ينتقل إلى: ” الزرقاء: كان كل شيء أسود، وكانت الكرات كثيرة، والماء دوما

ما

يمارس العادة السرية.” كإشارة إلى تكوّن الأرض.

ويستكمل: ” نشكل أوتارنا وعظامنا وأنسجتنا ” كمنجات” و” بيانو” ثم نعزف

  In G minor حتى يرتدي الله البدلة الحمراء التي ما هي إلا البدلة الحمراء”.  

ها هو النص يبتعد قليلا عما بدأ به، ولو لفترة، وهو الثقافة الشعبية الإباحية ليتخذ له مسارًا انفعاليا آخر . يستخدم كلمة ” رومانسيًا ” بلفظها، ويقر أنه يبكي كل ليلة صارخًا بملحمية لا تفوت القارئ هل فيكم أحد طيب ؟”

لكن هنا مجددًا لا يريد لنا هناءة اللغة الجاهزة فيشفعها بما يُبلبل: ” بينما من حولي الجَمَل”.

ثمة ملحوظة وهي متجددة في المتن، العودة لكتابة أسماء أعلام وأماكن باللغة الإنجليزية، مثل ليوناردو داﭬنشي وكنيسة السيستين وأوهارا.

لا أفهم لماذا كُتِبت بالإنجليزية سوى أنها اختيار الشاعر دون خشية من تهمة تثاقف، ولا أفهم لماذا بعض الأشياء كُتبت بالعربية بينما كُتِب البعض الآخر بالإنجليزية أو الفرنسية أو اللاتينية أو الإسبانية بمعنى عدم توحيد المفردات والأعلام الأعجمية بلغة واحدة هي الفصحى، داخل متن متعدد التراكيب والحيل جماليًا وخياليًا ومشبع بالتناص.

تحملنا غربة الذات الشاعرة من فرديناند دو سوسير( المكتوب بالفرنسية أيضا ) إلى لب المأساة الغائرة التي تعانيها الذات الشاعرة ” لكني كل صباح أقف على ناصية حارتنا لألعق أحذية الشحاذين والطلبة وموظفي الحكومة والعسكري ذي المخلة …. الخ ” حتى يصل إلى ” كي يخبروني:

ماذا يعني تتابع و+ ط + ن ؟”

هذا الذي ذكرني بأغنية للأطفال كنا نسمعها في برامج التليفزيون لهم ” يعني إيه كلمة وطن ؟” وتستمر الأغنية بتفكيك حروف الكلمة ثم تنهمر حالة من التقديس في المشروح الملحق بكل حرف.

هناك احتمال أن التغريب داخل المتن هو محاولة لتوصيف مساحة الاغتراب الفعلي داخل الذات الشاعرة بعرض تلك المسافة اللغوية المقصودة بين العربية ، ليس فقط العربية النواسية ( أبو نواس ) أو عربية الأعشى واللغات الأوربية بل في تبليغ القارئ حجم المسافة بين أعلام تنتمي لثقافات أخرى وبين الشحاذين والعسكري صاحب المِخلة والحارة الخ.

” بينما من حولي الجَمَل” تتكرر.

يأخذنا الشاعر إلى مغنٍّ سكندري، سعيد الهوا ثم يبدأ فيما وصفته الذات الشاعرة أنه أقصوصة حلم يحدث فيها الكلام أوتوماتيكيا، وللكتابة الأتوماتيكية تاريخ في الشعر. فيبدأ بآلية جمالية سبق وأن استخدمتها القاصة غادة الحلواني في أحد أعمالها وهي الكتابة المشطوبة بسطر ظاهر كأنما يقول لنا ألا محو ولا إثبات في الوقت نفسه، وربما يريد المنطقة الوسطى بين حالتي المعنى/ اللامعنى، الإفصاح والإخفاء خاصة وأنه دشن لهذا التكنيك هنا بجملة غير مفهومة جاءت بحروف عربية وجاء الهامش الشارح أنها نقوش مقدسة بالهيروغليفية، وقد يكون رغبته في قول إن كل الكلام ممحو مثل كل قائل له، أو الإيماء إلى المكتوم المسكوت عنه. ثم تتابعت التقنية أو الاستراتيجية تلك لكن بالعربية المفهومة المشطوبة، وتوَاصَل ذلك لصفحات فيما رأيته أحيانا – مع فائض تكنيكي يتقصى الغريب والصادم – يخلق زحامًا في بعض مناطق الديوان وتكدسًا لأسلوبيات ومقولات ترغب في جعل النص يبيت، قدر الإمكان أو لأطول قراءة ممكنة خارج حدود العقل والنُظُم والمعاني لكنها بقيت، حتى في محاولاتها أسيرة تارة لحالة تفلسف، أو لدوائر بعض الرموز الفكرية اللغوية، وينطلق النص في اختيارات لغوية من نوع ” الساركزمية ” بدلا من ” الساخرة ” مثلا بما يكشف عن أو يمكن تفسيره كحالة اشتهاء لمجاورة الإكزوتيكي والرفيع مع المنحط أو الوضيع.. ردايو كفر الشيخ الحبيبة وشخصية آدم ياسين ” ذو السبعين ألف فولوورز وإرازموس روترداموس “.

ثم يقول في مقطع يدل على الوعي بكل اختياراته الجمالية:

وهذا العالم

كان من الممكن أن ينتهي ببساطة هكذا ضاحكين

دون أي حادث نهائي فاجع مزخرف لغويًا

فما تكون السخرية – الساركزمية بلفظه – من الذات أكثر من إدلاء من هذا النوع في عمل يتحرى كثيرا الحوشي من الألفاظ والزخرف اللغوي .. ولو لنسفه وتسفيهه، لأنه ببساطة ما من سبيل آخر لإنجاز الأمر إلا باستعارة مكمن ما ننتقده ؟! . التقنيات مملة مستهلَكة وهو يبحث عن جديد لا يضجره هو ولا يضجر القارئ في سعيه التودوروﭬـي لكسر التوقع ثيماتيًا ولغويًا.

تحدث نقلة عاطفية- إن شئنا – في توازيات الضحك والبكاء مقرونة بفكرة الانتحار، ليس للإله هذه المرة والتي سبق أن سجلتها الذات الشاعرة بافتخار متيقن، بل انتحار أنا المتكلم، بطرق عديدة فالضحكات من الآخرين يمكنها إنجاز القتل وأيضا أنا المتكلم أقرت ” قد جززتُ ديكي بالمقص الذي جززن به شعرك في الميدان صارخة/ كابن الرب”.

فعل قص الشَعر تاريخيًا عقوبة وتجريس وسينمائيًا ظهر في أكثر من عمل كمثال عقوبة ( تتستر خلفها أحيانا الغيرة النسائية لتبرير القهر بقص الشعر نتيجة ارتكاب ” الخيانة العظمي” أو ممارسة الحب أو العهر بأجر مع المحتل). نتذكر ابنة رايان وفيلم مالينا” ..هو مرادف أوروبي وقت الحرب العالمية، لكشف العذرية الإجباري من الداية في ثقافتنا، وإن كان القتل من الذكور هو الإجراء الأوسع انتشارا مقابل الشك في الشرف.  وسمعت أن نساء المناطق الشعبية في مصر، من أفواه بعضهن، يقمن أحيانا بانتقاء ضحية لهن يجمعن على تأديبها فيتعمدن جرها إلى الشارع وفتح فرجها علنا وحشوه بالفلفل الحار في عرض الطريق.

 أما كلمة ” ديكي ” فقريبة من الإنجليزية السوقية لكلمة dick أي عضو الذكورة. هنا فرويدية خالصة في نص يقاوم أحيانا إعلان الإخصاء خاصة وأن الديك رمز للذكورة أو الفحولة، لكن مرة أخرى الرمز ابتعد عن الفحولة المباشرة أو المعتادة المرتبطة بكلمة ” ثور ” أو ” حصان”.

تتوالى بكائية تلك الأنا في المتن مع استعارات سينمائية مالينا/ مونيكا التي نفهم أنها طبعا مونيكا بيلوتشي ومطر البكاء للذات أو عليها يحملنا إلى بكاء محمد سعد على فراش فيفي عبده ( الممثل والراقصة/ الممثلة) والاستمناء لضمان توقيت فعل القذف مع انفجار أذان الفجر لضمان الانتقام من الإلهي فيما تتداخل المواخير في نظر الأنا المتكلمة المشبعة ببكاء إيلاجتها المجهضة حزنا من الهدر والوحشة حتى تمس الذات الشاعرة إيحاءًا يقترب من أحد أشهر فصول رواية سلمان رشدي آيات شيطانية وأكثرها حساسية.

في مقطع أو افتتاحية داخلية نجد العنوان التالي: Nothing is original

وهنا شبه بوح بحكاية يحضر فيها الأب لكنه لن يولد لن يولد وهو ما يحيلني إلى فكرة إنما الولد أبو الأب أو الرجل، ويواصل: ” وتلك الرسالة المقروءة/ ماتت/ منذ أكثر من عشرين سنة/ كعمر كلينا تمامًا”.. العمر الذي يبقى ضمن وصفة مشفرّة بين صديق الأنا المتكلمة وتلك الأنا، مع عود لفكرة الطيبة، والحاجة لإعلان الاحتياج المُمض إليها ولو باستخدام القسم بالله!، الله المقتول أو الذي سبق انتحاره كما أفادنا سابقا في المتن.

في إحدى الصفحات أي من اللحظة التي يكون نوّار قد قرر أنه سيتحول إلى السرد الغالب ظاهريا يخرج المعنى ، ويمكن المجادلة أن العكس هو الصحيح، أي أنه في لحظة قرار تحول المتن إلى المعنى ( أكثر ) بدأ السرد وتَراجع الكولاج. تنتصر السيمانطيقا بوصولنا إلى صفحة 34 وبوضوح. يمكنه سرد موقف في إحدى المحاضرات الجامعية وانعكاسه على الذات الشاعرة البكاءة التي تتساءل ” لماذا لا يبحث عن الإجابة في القرآن؟”

قسوة العالم مستمرة، نافذة.
عيّان محجوز بين سريرين/ في عنبر مستشفى جامعية/ ولا يؤجر نفسه/ كي يتعلم عليه الطلبة/ عكس آخر مسكين أيضًا / ثم اندفعوا عليه كالخنازير/ بكى الرجل وضحكتم/ وهممتُ بالبكاء/ إلا إني ألوذ بوجهكَ”.

يذكرنا هنا وفي مواضع لاحقة بمهنته كطبيب. تبدأ حوارية استرجاعية فالذات تستدير بجذعها وذاكرتها للوراء، نرى بعض المشاهد في شاطئ النخيل ونرى آخر عبر عين الذات الشاعرة له وجه محمد الدرّة” ونبرة أبيه وهو يحترق، ويخطفنا بسريالية واصفا الآخر المُقرَّب: ” كنتَ غريبًا ليلتها/ تركب ذيل سمكة/ مدلِكًا ركبتيك/ وتقول ” إني ذاهبٌ للفردوس” ، ولكن كيف لي أن أحسم كقارئة أن الآخر هنا ليس سوى صوت الشاعر ذاته، متحدثًا عن نفسه؟

تتبرأ الذات الشاعرة هذه المرة بقسم صريح:

أقسم لك أن كل السابق

ليس سرياليًا

أنا أرى العالم

يلتوي ويتركب من حولي

فعلا “.

ويصل الأمر حد التشكك في معاناة هلاوس بصرية، لأن طموح النص كله هو حمولة طموح الفن كله، وهذا دون شك عبء هائل خاصة على ديوان أول، رغم عنف اللغة وتحريها ” للابتذال” أملا في كشف كنه الابتذال الحقيقي أو التمومس المستمر الحقيقي.

هل يمكن المجازفة بإدعاء أننا أمام نص رومانتيكي بعناصره الخفية وطموحه ذاك؟

 شراهة الأمل في التحرر من الحزن رغم احتضانه ، في التحرر منه قد تكون مضادة للرومانتيكية، لكن أيضا الحرص على التنصل، التخلي، الابتعاد، العزلة، إعلانات البكاء المستمر وصولا إلى ” المطر ” المتناص بهامش مع ” أنشودة المطر” للسياب، الشعور بأن العالم ذابح حتى وطلبة الطب الذين منهم الشاعر يتدافعون ” كالخنازير” على مرضى أحياء يؤجرون أنفسهم للفحص تحت وطأة الفقر.. أليست كلها رومانسية باهظة الإيلام؟

وهناك شَرَك الجدليات المتصارعة. ” لا أتمنى أن أقاسي/ التظاهر كما أفعل بينكم ” ، وسب سلطات يُفترَض أنها مطلقة خانقة بما يولِّد أزمة قد يكون المخرج منها هو خلق تلك السلطة المطلقة التي قد تعرفنا التجربة أنها لعلها لم تكن موجودة قبل تلك اللحظة.. واللحظة الشارخة في النص تأتي مع تفاوت نبر المتحدث فنسمع الذات الشاعرة متناوبة التقمص للذكورة والأنوثة في مقطع مثير بجدليته اللغوية المُدوِّخة. يكتب:

سيأتي يوم أفر منكِ

ها أغني

لكَ

سأجدكِ على جانب الطريق

تبتسم لي

في حالة من الــ bromance

الــ bromance يا صديقي

هي حالة من الحب الرومانسي

بين صديقين

لا تعرف الجانب الجنسي

                            قُم قَبّلني.” 

 

هنا بالضبط وأكثر من أي موضع آخر سببية بل وشرعية كسر اللغة لتطويع ضمائرها المتنقلة، وكلنا نستخدم اللغة ضمن أطر وشروط وسياقات يصفها تيري إيجلتون بكونها  politico-discursive أو سياسية- استطرادية.

حنا أرندت كانت ترى أن الفعل والكلام يتعاملان ويحتكان باستمرار بشبكة الأفعال والأقوال لغيرنا، ولا سبيل لإنكار أن اللغة تتواطأ على حرياتنا مع السلطة بكافة أشكالها، ففعل الكلام نفسه هو فعل سياسي.

نعلم أن كل محاولة لتقليل الارتباط أو زيادة التملص من فكرة العلاقة بين الفن والمؤسسة ( جاليرهات، دور نشر، مكتبات وجامعات وغيرها ) ترتكن على الخطاب الذي يسعى كل فنان لانتزاعه من السلطة لتأسيس سلطة بديلة، وسلطة اللغة هنا، بجانب أنواع السلطات المختلفة القاهرِة، هي أداة يريد الشاعر أو الفنان أن يفعل بها كل شيء.. ضدها، ويريد طبعا شيئًا أعمق وهو يكتب بِحُمى.. القيام بعملية إزالة الغموض عن demystification  وتعرية كل النظم والأفكار والمؤسسات بالأخص حين تكون شمولية والتي تضع نصب عينيها السلطة والحكم.

 

التداخلات الثقافية والتناصات القائمة متعددة في ” لا تقل عن ولدي… “ وقد تحاصر كثيرًا راديكالية اللغة المراد بجعلها إكزوتيكية، التثوير الجمالي للنص والتثوير النفسي للقارئ. أحيانًا كان الديوان يقترب من منطقة الخطر جماليا وهو يدفع بتلك العملية إلى حدودها القصوى.

وتتبع الذات كما أشرنا من قبل أسلوب الاعتراف الـﭘـاراﭬـاني ( مقصودي هو الساتر أو الحاجب أي الـﭘـاراﭭـان ) أو الاعتراف الصريح ومن أمثلة الأول  كأسلوب في الاعتراف عبر النفي أو الاعتراف السلبي:
” أنا اعتدت أن أكون شاعرًا

الشاعر ذو أخلاق

الشاعر لا ينظر إلى المحارم

مِن رجاله

لا يتلصص من خلال شيشش الغرفة

على جاره المتزوج

الشاعر عزيز النفس

يعرف أن مهبل

الرجل لا يُشترى

لذا لا يذهب بعد صلاة العيد

لمن ” يُدلل” عليه

مقابل 150 جنيهًا مقدمًا“.

 لكن توماس مان كتب مطولا في تعليل اشتهائه لجمال جسد أحد أبنائه وكيف أنه ارتكب زنا المحارم عليه أو معه.. وفي استطراد يبتعد عن هذا الديوان أتذكر أن ذلك الابن انتحر في المستقبل.

يكتب إسلام نوّار:

أنا اعتدت أن أكون شاعرًا

الشاعر ليس كالأنبياء

يقولون ” نفسي نفسي “.

الشاعر يجره محبوبه

إلى المظاهرة

متغوطًا في سرواله

حتى إذا قُتِل تركه وفر“.

وفي مقطع بديع، تصرخ الذات الشاعرة من ذكرى بطفولتها:

خلاص يا ماما آخر مرة آخر مرة

فعلا غبي ذلك الطفل

يذاكر النصوص كالحساب

بالمسطرة والقلم الرصاص“.

 قبل هذه المقاطع بكثير كنا لاحظنا بدء النزوع إلى المعني، الأمر الذي   جاهد النص خاصة في بداياته للإفلات منه أو تعليقه كما أشرنا بما استخدمه من تشذر لتعددية السياقات والاستراتيجيات وفتح الأمر على حالة من التيه الذي تحسه الذات الشاعرة في وجود يفرض عليها “إعادة هيكلة لكافة السياقات إلى ما لا نهاية كاستعارة عامة لكون كل النصوص مفتوحة”.(ص147) من كتاب

“Postmodernism And Contemporary Fiction”    لــــ Edmund.J.Smyth  

عندما يكرر الشاعر جملة ” بينما من حولي الجَمَل” قد لا يريد إرباكنا كما توهمت في سطور سابقة بتعليق أو إلغاء أو إرجاء المعنى، قد يكون أنه يحلم بإعادة تأسيس لغة محررة من متحدثها وهواجسه وأحلامه، حرة حتى من الوعي بكونها لغة. أية جملة أو عبارة بحد ذاتها قد لا تعني شيئًا أو تعني نقيضها طالما تتشبث بمعنى ما، والمعنى قيد كما أنه حرية. بالأحرى حالة اللاتحديد أو إرجاعنا خاصة في النصف الأول من ديوانه إلى اللعب والانفتاح على لا محدودية التأويل لا ينقل إلينا هشاشة ما نستخدمه ويُستخَدم ضدنا كل يوم فقط لتغدو كل العلامات حيرة خالصة ..إنه نجح في تفعيل إرادة لغة مُغيَّبة أبانت عن أن ما يلوح في الحياة شديد العادية والترابط بين الدال والمدلول( والشاعر يستخدم هاتين المفردتين نصًا في صفحة 22 حيث يكتب ” لا بد لكل تعاقب صوتي ” دال” أن يكون له فكرة ” مدلول “) قد يكون واهيًا جدًا إن وجد.

” وأنا أنكسر سريعًا/ كهذي القاطع المنكسرة”.. يتكلم ليس عن التكسر بل الانكسار. يحيلنا إلى حزننا المتجشَم نتيجة هروبيتنا من المعنى لأنه قد يكون أذى وإلى عدم قدرتنا الاستغناء عنه، إلى الإيحاءات الخاطئة، الاستنتاجات المغرية، فوادح رغباتنا في تصديق ظاهر مُنْبت الصلة بالباطن، وسريان لعبة الإنكار والنفي المستمريين بين متحدثين يتحدثون لكن بلا كلام أو بمغشوشه، كما أكد لنا العظيم كالـﭬينو في مدن لا مرئية ” أن لا لغة دون خداع “.

يتمسك الديوان بتلك الحقيقة وهو يجاهد لمقاومتها ضمن شفرة تضع كل شيء بين قوسين، بقناعة مسبقة أن النتيجة صفرية بين منتصِر ومنهزِم لغويًا وثمة سياقات لا يمكنها منحنا إلا عدم التحديد(” فما الفرق بين العشب في غرفتي/ والعشب خارجها كي أهرب له؟”) ، وكأن لسان حاله يقول نعم أنا هكذا، اذهبوا للجحيم.

هل هناك أطر وسياقات تعبيرية يمكنها منحنا بعض الثقة بلا جبال الفجوات بين دالها ومدلولها؟

 أُصدِّق أنها مكنونة موجودة نادرة. أما نوّار فليصدق ما يشاء، ولتصدقوا أنتم ما شئتم..

أوقاتا يتحقق الهدف الجمالي بإحباط سعي وإرادة القارئ للوصول إلى شاطئ المعنى وأوقاتا نظل نحمل الغرابة في يدنا نتأملها فقط وقد يكون أن نصل فعليا إلى ما أسماه  John Mepham في الكتاب السابق لسميث أنه تركيب تفسيري ( نتيجة الجمع بين الطريحة والنقيضة ) .

لنعد إلى أمثلته التي لا تحصى التي تضعنا أمام دوال ومدلولات تخلق الإكزوتيكية التي ينحني عليها ويوظفها أيضا آخرون من جيله الشعري ولكن دون إفراط… ” مالينا وعائشة” ( ووضع أمه في نفس سياق المقطع عن الماخور ) و” جوتفريد بن في مشرحة شبين الكوم ” و ” الـنوبيرا” و Happy Halloween والحمام القزّاز، وتشارلز هيرمان وأنا” و” لا أخلاقي جيد” ومؤخرة كارو ” و” أبو نادية” يسمى ” هايدجر، و” سيد” يُسمى ليـﭬـي شتراوس وغيرها.

بعد أن عطشّت الذات الشاعرة القارئ للمعنى وعطشت هي له تسطع النبرة الاعترافية هنا للتفاخر الجنسي. مثلا:

المنطقي الوحيد أنني كــ جيد

ومتصالحًا أعترف

لي غلمان كُثر

وأشذ معهم

ومبكرًا جدا

في عُشة

على سطح عمارة

بمنتصف شارع جامعة الدول العربية

( وهذا لا يرمز لشيء )

تديرها امرأة

تسمى صافو

ألوط معها دائمًا “.

جنسانية تريد الإدلاء بإعطاء مساحة لذكورة مترنحة وذكورية استعراضية، فنراها تتراوح بين مِثلية جنسية وازدواج جنسي لتبدأ متوالية من أسماء عشاق ( بشير، مختار، لطيف ) ويستخدم كلمة الجنسانية ذاتها بالإحالة إلى هوياتها المتعددة في إشارة إلى عَلَم المِثليين. يورد اسم لوركا ومصيره ، عدا انتقاله مرة أخرى من المذكر للمؤنث بعبارة ” حان وقت الانتحال/ أنها شاعرة شريرة/ عنونت نصها/ بألفاظ نابية” وفي قراءتي الثانية استقبلت هذا أو فهمته عكس قراءتي الأولى، كإحالة محتملة من الذات الشاعرة إلى نفسها وليس من أنا المتكلم وهو يتحدث عن أنثى مستقلة، أخرى.

الذات التي تشعر، تدرك أن ﭘـاروديا الوجود لا تغلبها أية محاكاة ولا يخفف ألمها أي انتحال، وكأنها تتقبل، في النصف الثاني من العمل، احتياج الفن خاصة القائم على اللغة إلى منح بعض المعنى لأن اللعب الخالص وحده لن يصل بالقارئ أو المستمع إلى ” التأثير” المراد إحداثه… لذا بعد كلام كثير عن بحر البسيط والتساؤل في أحد مقاطع الديوان ” هل الشطران متساويان/ في الطول أم/ عدد  الكلمات أم/ إنها تلك الحروف المتشابهة/ في النهايات ” واختيار كلمة مثل ” وجهكمو” بدلا من ” وجهك” و” اللغوب ” وغيرها يتجه إلى السرد بخيال ينافس كثيرين مُستلهِمًا صوره الشعرية من الشكمانات و” المساعد” كجزء من قطع الميكروباص الذي يركبه، والتروسيكل بأصوات الطريق وهنا الجزء البارع في انتقالات أصوات المتحدث.. السائق الذي قد يكون ناثانيال فلماذا يريد أن نصدق أن اسمه إيهاب مثلا ؟

من نحن بدون أوهامنا وأسطرتنا لأشخاص وأزمنة، بدون تحويل كل شيء إلى رمز ، إلى نذير أو بشارة ؟ من نحن بدون خوفنا وأرباع اعترافاتنا، وارتجاعنا الأسلوبي وحسراتنا وتناقضنا الأخلاقي مع أنفسنا قبل المجتمع؟

كعباد شمس أعور

لكن نتن

إلى حد غير كافٍ“.

يعود إلى المرجعية الدينية مزاوجًا بينها وبين الذات المتنقلة أو المتحولة بين ذكر/ أنثى:

إذا سألتني فسأقول

ليتني أجرؤ

أن أكون كـ ” يهوذا “

بل سأنكركِ ثلاثًا

وهي

لم تقم “.

هو يريد لنا أن نسأل. هل ” هي ” هنا المسيح الذي بالحقيقة قام بينما الذات الشاعرة تسمح أو تريد له أن يكون أنثى، أن الرب يصبح/ تصبح أنثى، أم المقصود عضو ذكورة غير منتصب أم قيامة مشكوك فيها أو غير مصدقة ( كبعث للخليقة بالمعنى الإسلامي) طالما الذات الشاعرة سبق وعينت أن الله انتحر، أم ” هي ” تشير إلى بذاءة استمرار التنكر الجنساني الذي يراوح مع الاعترافية الجنسانية في نص من بداياته يعانق حالتي ” التباذؤ” و” اللخبطة” والتقطيع و” التحيير” بتعبيري، أم ” هي ” يراد بها المعنى، فلماذا يجب أن يكون المعنى ” مذكرا في اللغة، اللغة التي تبدو كلمة مؤنثة تنتظر أن ” يدخلها ” المعنى، شأن عديد من أنهار الهند التي يجعلون من تفريعات أي إثنين منها، واحد مذكر وآخر مؤنث أو أنثى كعقيدة وليس في بنيان اللغة الهندية، أم ” هي ” غيبوبة تفاعلات العلاقة بين شاعر وقارئ ، بين أنا هذا وأنا ذاك، حتى ليرمي الأول بصقة على أقدس مقدساته التي باسمها – كما توهمنا – سب كل شيء فإذا به لا يستثنيها هي ذاتها.. أي الحرية؟

 

” أنا اعتدت أن أكون شاعرًا

أهيم مع الاستعارات

لا أخط جملة تقريرية

واحدة “.

ولا ننسى أن نوّار يكتب القصة القصيرة أيضًا لكنه ينفي أية طوطمية داخل نصه:

 

” أبي يتحسس الكلام

الآن على فيسبوك

أبي لا يقرأ

الجملة الأخيرة،

أنا ” أقلش”

أنا اشتمنا جميعًا

كأني أحمد زكي”

أنا أشتم الحرية

هي الأخرى

” إتفوووو”

أو
 ” إتفيه”!

 

 

وكما يتنقل على مستويات إستطيقية جمالية يكرر تنقلاته الجنسانية والدينية ” رغم أنه لم ينل سعادة ما بعد التحرر من الأخلاقية الواحدة       moralisation.

وهنا تثاءب الكلمة”، و” هنا نام الكلمة “. يؤكد الدلالة الدينية، ضمن فتور ما بعد الرعب من الطابور الذي ينتظمنا جميعًا، مقولته:

ولأني

حين لم ألد ولم أولد مثله لم ألد ولم يولد معي الدمع”.

في إحالة واضحة من المسيح ككلمة الله، إلى صورة الإخلاص القرآنية ومحاكاة الجزء من آية ” لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد”.

الذات الشاعرة تشاهد وتسمع – بشكل وقتي لـفيلمـ The English Patient –فنتذكر مجددًا مهنة الشاعر صاحب الديوان.

 تسمع أمرًا:

” استشهد من أجل الشق فوق القصي

قلت فرادى لا جماعات أحييك، وأحييه وأحي عائلتي، مهما تنوعت ثم أميت الإيمان بأي فكر حتى الموت”.

التحول الأنثوي اللغوي فرادة هذا الديوان وسبقه الشعري حصريًا( في الراهن الشعري المصري ) وليس فقط المقاطع البديعة عن التروسيكل والإفادة من عامية أو دارجة ثرية بصوتيات رقيقة ومضحكة في آن ” الكتاكيت والجبنة القريش والقروانه ” وغيرها. التناص وافر مع فيلم المريض الإنجليزي باعتماد جمل عديدة مقتبسة من خطاب تكتبه البطلة كاثرين لحبيبها في لحظة الفاجعة والتي عندها تتحول سرعة و momentum الكتابة عند نوّار إلى ما يبدو أغنية من اللهاث السريع بتناوبات جمل بالإنجليزية وإصرار الذات الشاعرة على توصيف تصاعدي لدرجات البكاء، والتفحم بكاء والنشيج بالعربية على نحو متداخل.

التحول الأنثوي خدم النص على مستويات أعمق. كيف؟

هناك علاقة مركبة بين القراء وبين معرفتهم/ معرفتنا بجنس الكاتب أو صاحب العمل تتركنا في حالة عدم استعداد لأي تغيير في الضمائر إلا ضمن شروط شديدة الإحكام بشأن الضمائر ومَن المتكلم حتى مع الاستمتاع بـﭘوليفونية العمل سردا كان أم شعرا، لكن هنا استطاع الكاتب أن يستغل جنسانيته ومهنته ووجدانه في الإتيان بفيوض استعارية ناعمة، بديعة متواشجة مع منمنمات لذكريات عائلية رفعت درجة نقاء النص ككل من أية شبهة لجاهزية لغوية أو جاهزية مخيالية لدى القارئ. كـأن إسلام نوّار قد جاهد منذ الصفحة الأولى ليمسح اسمه من على غلاف كتابه حتى لا نتعرف على جنس المتكلم، رجلا أم أنثى. هذه إحدى معاركه الداخلية مع لغة الديوان، وهو في التجربة الشعرية المصرية كاستثناء حقيقي على هذا المستوى وغيره، أنجزها بإبداع متمكن حزين. كذلك أتجاسر على الإدعاء أنه لو لم يكن أغلبنا يعرف سن نوّار الحقيقي لما استطعنا – من كتابته وحدها – أن نخمن عمره.

عند ” 4:48″ فجرًا

تنتفخ أردافي

ويَدقُ خصري

وتبدأ الغدد اللبنية في صدري رحلتها

من الضمور نحو الفوران

ولا أقدر أن أقول أكثر من هذا

حتى لا أتجاوز حدود اللياقة

أو أثير اشمئزاز أحد

أو ضحكهِ ساخرًا

ثم ضحكهِ ساخرًا مرة أخرى

لأني أخجل

لأني إذا صح القول رجل أعذر

أو رجل عذراء

أختي أكثر خشونة مني

تقول وهي ترقص على مهرجانات أوركا وأورتيجا:

أنا كذلك لأني تربيت بين ثلاثة ذكور”

هي تربت بين ثلاثة ذكور!

أنا إذن أنثى

لأن ما آلاف النساء بداخلي؟

يتوالى النص إلى أن ” وجدت نفسي دافئًا تحتهن كالكفن/ ككفن ابنة عمي الطفلة/ التي ألقت بنفسها من الدور الثالث هذا الربيع/ كنا حول المشرحة ونادوا بغبائهم/ ” أين محارمها ليساعدونا في حملها إلى النعش؟”/ ابن العم ليس من المحارم قلت لنفسي/ وذهبت لأحملها وأنا أبكي كعادتي” … إلى أن نكتشف نحن أن ألم الركبة المميت الذي تعانيه الذات المتحولة يعود إلى كون تلك الفتاة ” البدينة المظلومة/ قد دُفِنت داخلي/ دُفِنت في ركبتي”.

تلك الذات تحيض كالشِعر مرة شهريًا ويركل بطنها ( بطن الشاعر/ الأنا الشاعرة ) جنينها وهي التي تفك حمالة صدرها- الذات العميقة والمخبوءة جدا- فتطير الحمالة نحو وجه رجل سقط من على الموتوسيكل، كماسك أوكسجين، هي نفس الذات التي يطير قلم الروج خاصتها الذي تلوِّن به شفتيّ باﭭــاروتي وتدفن قلم الروج تحت سريرها هي.. رغم أن ” قلم الروج هذا الممنوع أبدًا من تصحيح أوراق الإجابة/ بعد نفاد كل الأقلام الحمراء”.

ولأنه ليس مسموحًا في ثقافتنا العربية والإسلامية لرجل باقتناء واستخدام قلم روج، ستبقى الكثير من أوراق الإجابة غير مصححة، بلا عدل أو فرصة قراءة بعد نفاد الأقلام الحمراء. لكن عدم التقييم نتيجة نفاد الأقلام لا يؤدي إلى استغلاق النتائج وحدها. إنه يلغي من الأصل صدقية ومعنى وفكرة التقييم بصح أو خطأ، بنجاح أو برسوب.

هلت إحدى رضيعاتي مُصفقة

“تعالي يا ماما لقد خرج التنين المجنّح

خرج من أوراق يوغي وهدم المدرسة “.

لا أتذكر جيدا هل كان يوغي إحدى شخصيات مسلسل الأطفال الكارتوني جراند دايزر أم في مسلسل كارتوني آخر، لكن المدرسة التي تمنع كل صيغ قراءة النصوص المختلفة ولا تعطيها فرصًا متساوية في القراءة والتعامل والتصحيح جديرة بالهدم.

بعد ذلك يقدم الشاعر تناصًا مع أغنية ” Ne Me Quitte pas

وهو/وهي تبكي، ثم لا بد من التوقف بدرجة ما عند مشهد الميكروباص، به توصيف اغترابي مسترسل اللغة شديد الثراء ولا يخلو من إحالة دينية، ومع مقطع يردد فيه السائق هذا الصوت الغريب على أنغام أغنية شعبية: ” ماتربربرب ربربرب “.

فهل نكون شططنا لو قلنا بجواز تأويلها ” مات رب رب رب ” أم تقطيعها ” رب رب رب ” طالما تشرح لنا الذات الشاعرة اسم ناثانيال بمعنى ” الرب أعطى “؟

ويقوم الشاعر – ضمن خصوبة تكنيكية تشمل الديوان ككل- بتطويع واستبدال كلمات أغنية المطرب الشعبي الراحل شفيق جلال وكلمات بيرم التونسي: ” الملاّحة الملاّحة وحبيبتي مَلوْ الطرّاحة” بالصيغة الآتية: ” النيرﭭـانا يا النيرﭭــانا/ وكسو مَلوْ الطرّاحة” في استهزاء وابتذال لغوي لاعب برمز ينتمي، للمرة الأولى وقرب نهاية الديوان، لإحدى الديانات غير الإبراهيمية، فالنيرﭭــانا في البوذية بمعنى الاتحاد مع الإله هي الانعتاق بعد سلسلة من دورات الميلاد والموت والابتعاث في صورة كائنات مختلفة، تقابلها الموكشا في الهندوسية، والرمز الجنسي ماثل أيضا كبديل لمفردة حبيبتي.

وأستحضر هنا أفراد جماعة هاري كريشنا في شوارع لندن سبعينيات القرن العشرين. أوروبيون اعتنقوا الهندوسية وحلقوا شعورهم وارتدوا ملابس نساك الهندوس وبينما يترنمون بـ هاري كريشنا ، هاري راما هاري هاري كانوا يوزعون مجانا على المارة كتيبات بها وصفات لوجبات نباتية وبعض التعاليم التي من بينها دعوة أي شخص وغير الهندوسي للترنم باسم الإله راما، ولو سخرية!

توجد تناصات لا نهائية مع فيلم البؤساء”، وتعديلات مفترَضة لرواية الشحاذ” لنجيب محفوظ وعدد من الاستعارات الطبية التقريرية فيتنقل بنا بين استقبال الجراحة ونوبطجية الإسعاف حيث ينتظر الموتى من الثامنة صباحا حتى الثامنة مساء، بجانب تناصات مع والت ويتمان وأﭘولينير، وأغنيات إسبانية، ثم يقدمنا إلى فوكو وألثوسير وشتراوس ويحضر عامل الأمن شبيه ديكارت بلا بطاقة هوية أو أهل لكن الشاعر ” موجود ” فينوب رمزيا عنه وعن كثير منا في الشك منذ بداية الديوان كما سينوب عن أهله في الحزن ، وداخل تجربة الميكروباص وغرف الإنعاش نضع أيدينا على التشظي الأغنى نحو منطقة أبعد كأنما نواجه ديوانًا جديدًا مستقلا، بعد فتح سيل الحكي والسرد المعقوف على حزن صاحبه في سلسلة ذاكراتية وشخصية مع المرضى ومع الحبيبة ومع ذكرى البكاء الأول لأنا المتكلم عند الميلاد، والعرض لحيثيات لحظة جنسية مع الحبيبة أو العشيقة بما لا يسمح العالم بأكثر منه، أي صياغة كلمة ” أحبك” والرد عليها بسخرية الوعي.. أنها تُنطَق في عالم فقد براءته ولم يعد يحتمل قولها إلا بذلك الوعي، وبتوصيف ما يجري في الجسد لحظة الشهوة بتفصيل إكلينيكي كمن يدون في مفكرة حدثًا يراه أمامه وليس هو بطله.

الحقيقة أن هذا عمل يريد تحقيق أمنية الذات الشاعرة التي عبرت عنها في سياق أحد المقاطع، بترك ” فجوة ما لشيء ما ” كي يأتي أو يعبر، حلم يتجاوز الجنسي والجسداني واشتهاء مُمض لما وراء القبلة التي تحسد الأنا الشاعرة أصحاب القبلات من الممثلين لحصولهم عليها في فيلم سينما ﭘـاراديسو”، رغم كل الجنس والعلاقة مع الآخر والأخرى بامتداد المتن إذ تقر: ” لم أحظَ قط بطعم واحدة منها “. هذا هو الحرمان رغم التشبع الجنسي، الشعور الذي ما زالت تلك الذات عطشى إليه، تحلم به.

الشاعر يملك إخفاء غنائيته وراء حفنات من تعديلات مخطوط الشحاذ لمحفوظ :” إن تكن تريدني حقًا فلم ابتعدت عني؟” ثم يعدلها قرب نهاية الديوان الكبير حجما وكيفًا:” 23:44 سأعدلها للصياغة النهائية: إن تكن تريدني حقا فلم هجرتني؟”، كأنها أجزاء سقطت من رواية عثر عليها هو ليضمنها ديوانه ويمنح نفسه حرية ذلك التعديل بتصرف.

إنه يمشي قبل نشوء الواقع كما يصف نفسه ( إله إذن؟) ، فيما توضح الذات الشاعرة رفضها لذلك الواقع، الواقع بصفته الشيء الوحيد الموجود لديه بلا تبرير رغم كل الحاجة لذلك.

 يحتاج مع زخم تقنياته- وأظنه نجح كثيرًا في هذا – أن يكف عن مواراة وتحجيم المأساة التي تتقيؤها الذات الشاعرة، الوجود وبداخله تفاصيل المآسي:

وقلبي بين ضلوعي، ودمي في أوعيتي الدموية

وليس في بوست

وإحساسي سابق في وجوده على لغتي،

أو لغتي تسبقه

لا يهم

بالتأكيد لا تعبر جملة: أنا حزين! عما بداخلي

أو أنا حزنان يا بومبا لا تعبر برضو

وما الفرح؟

لا الأسلوب الأكثر إنسانية وبساطة يقول

ولا الأرقى أو الأكثر تعقيدًا“.

يصعب حصر كل ما حاول إسلام نوّار كتابته وتجريبه داخل سرود ترفض الإمساك بلعب قديمة ربما أكثرها لم يعد صالحًا للعب، لكن الصرخات المتتالية بصيغ فنية متنوعة قبل ” الفينالة” التي استقبلتها كصرخة الصرخات، الملحمية ذات الالتياع اللاهث، المُتناص، المتيقظ، المتوجع تشهد لا على انتصار السيمانطيقا على أي سيميوطيقا في المتن فقط، ولكن على انتصار إرادة الفعل الفني وغليان ما أحسسته كمديح للجنون ونفض كل شيء، ومجاوزة جمالية رفيعة للشائن، والذابح، والقاهِر ، وحتى لأحفوريات الضياع بين الأسئلة المدرارة في ديوان أول يمنح نفسه ببطء بعد مكابدات أولية للقارئ ليصل إلى مساحة رقراقة أعمق من قدرة الذات الشاعرة على العثور على إجابات فيها على أسئلة مثل: ” أين اضع التلافيف داخل جمجمتي، التي أكتب بها/ بين لا إله إلا الله وتحيا مصر/ أم بين قطرات المنيّ المقذوف مني، على سجادِ غرفتي؟”

في خلاصات جمالية متتابعة العلو والهبوط كرسمٍ بياني ضمن تقل عن ولدي إنه يمشي في السماء “ ، لا يبدأ الجمال فقط من المنتصف حتى وإن كان يزداد ويعمق عند ذلك المنعطف، ولا بكون الاستمتاع مكافأة القارئ والكاتب معًا، بل في كنه الروح التي حملت التجربة ككل والتي علمتُ من صاحبها أنه كتبها في سنوات دراسته الأولى، وكيف نجح في التعامل مع روغ اللغة، ومشكلات تكرار الصور أو الاستعارات حتى ” أنشودة ” النهاية الأخيرة ذات الذم لأنها بملحميتها غير الخجلى وعت جمالية جرعات ومناطق التكرار لتنهي ديوانًا يحمل عنوانه نهيًا( أو أمرًا بعدم القول) ، بكلمة أو عبارة متكررة، إيجابية أخيرا وبصيغة أمر! .. هي المطالبة بالقول” وقولي إني حي “.

وأنا: غادة نبيل كقارئة أقول إنك شاعر، و حي!

 

 

مقالات من نفس القسم