قراءات سَنة الشِدَّة

فن تشكيلي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد عبد النبي

أيام معدودة وتغادرنا هذه السنة الثقيلة، بعد أن رزحت بنكباتها على صدر العالَم كله، ومَن يدري؛ فقد متى يبتدَّد آخِر أشباح الخوف والعُزلة والوباء الذي قوَّض حياة الآلاف وأربك عيشة الملايين. في مستهل أشهر الإغلاق الكامل أو شبه الكامل الذي شهدته مصر ومعظم دول العالَم، شعرَ أشخاصٌ كثيرون بأنَّ عُملة الوقت النادرة شاعت فجأة وصارت متاحة أخيرًا، فاستغرقنا في مشاريع وأحلام يقظة تتعلَّق بخطط قراءة وكتابة ومشاهدة أعمال فنية، وربما بالغَ البعض وصولًا إلى دورات تدريبية لاكتساب لغات أو مهارات.

لكنَّ لعلَّ إحدى مفارقات هذه السنة هي إحباطها لطموحات الإنجاز في وفرة الوقت المتاح، ولا أدل على ذلك مِن الاستهلاك الضخم لأفلام ومواسم كاملة من مسلسلات تتجه في غالبيتها لأنواع التسلية والتشويق والإثارة. ثبتَ لنا أنَّ فِعل القراءة الهادئة المتعمقة بحاجة إلى حدٍ أدنى مِن السكينة وراحة البال، هذا إذا استثنينا بالطبع محترفي القراءة الذين يلتهمون الكتب التهامًا في السراء والضراء وفي المنشط والمكره.

بالنسبة لي على الأقل، كانت القراءة خلال سنة الشدة هذه ملاذًا آمنًا وبلسمًا ضد العزلة والإحباط والمخاوف وانعدام اليقين. وعلى سبيل التحية لا أكثر، أنوّه في السطور التالية بسبعة عناوين فقط من بين ما قرأت خلالها. مجرد عينة عشوائية اخترتها من بين حوالي ثمانين عنواناً آخر.  وهي ليست ممَّا صدر حديثًا، فمِن ناحية توقفت عن الركض وراء كل غلاف جديد ولا أظن أن هناك مَن يستطيع الإلمام بكل ما يصدر حديثًا ولو خلال عامٍ كسول في سوق النشر مثل العام الماضي، ومِن ناحية أخرى فقد كتبت ما تيسّر عن العناوين الجديدة التي استمتعت بها خلال العام ولن أعود للتذكير بها هَهُنا، ولكن سأشير لأعمال قد تكون قديمة أو معروفة لكني وجدتُ فيها الكثير مِن الأنس والدَعم والرؤى الثاقبة، فشكرًا لجميع الكتب والأعمال الفنية التي تهوّن علينا تلك المحن وتساعدنا على اجتيازها بدرجةٍ من التوازن والرشاد.

*

1– فن الكتابة، روبرت لويس ستيفنسون. ت: مجدي عبد المجيد خاطر (كتاب الدوحة، يناير 2020).

من نهايات القرن التاسع عشر، يصلنا صوت أحد أبرع الساردين، ليأخذنا في رحلة سريعة وعميقة عن فنٍ يتوهم كثيرون أنه بركة ضحلة ما أسهل أن يخوضوا فيها بأقدامهم، ويعرف أربابه مِن المحنكين فقط مدى عمق مياهه واضطراب عواصفه؛ فن كتابة القصص والروايات. هي سبع مقالات متوسطة الطول تتنوَّع همومها بين الأسلوب الأدبي، والمبادئ الأخلاقية لمهنة الكتابة، ومفهوم الواقعية، ثم بعض التجارب الخاص بصاحب جزيرة الكنز في كتابة بعض أعماله. الكتاب حافل بالأفكار الجديرة بالتعلّم والتأمل والمساءلة، وكان مترجمه على قدر المَهمة الصعبة بتقديم أسلوب عربي رصين وأنيق ومستساغ مع ذلك. أنصح به كل كاتب يتواضع أمامَ التقاليد التأسيسية لفن الكتابة، وأنصح به كل مختالٍ فخور كذلك، لعلَّ وعسى.

2– صوت مِن المنفى (تأملات في الإسلام) نصر حامد أبو زيد وإستر نيلسون. سيرة، ت: نهى هندي. (الكتب خان -2017)

باستثناء ملابسات القضية الشائنة والحكم المخزي ضد د. نصر، ربما لا يعرف أغلبنا إلَّا خطوطًا عامة من مشوار حياته، لذا يسد هذا الكتاب فجوة كبيرة، من خلال حوارات ممتدة مع الأستاذة والكاتبة إستر نيلسون يسترجع الأكاديمي الباحث والإنسان العظيم أهم محطات حياته منذ طفولته الأولى في قرية قحافة وحتَّى اضطراره للسفر خارج مصر وعمله في بعض الجامعات الأوروبية وفي اليابان. لعلَّ سيرته لم تزل بحاجة إلى مزيد من الكشف والبحث والتكريس، كما أنَّنا بحاجة الآن أكثر من أي وقت سابق لاستعادة منجزه وقراءة أعماله الأساسية ومناقشتها وإتاحتها في المكتبات. وبالمناسبة حياة دكتور نصر رحمه الله مترعة باللحظات الدرامية والإنسانية الحقَّة إلى درجة لا يصعب معها أن تتحوَّل إلى عمل درامي. هل كان هذا الكتاب بحاجة لمزيد من الاعتناء في ترجمته وتحريره؟ لا شك عندي في هذا.

3. مذكرات طالب بعثة. د. لويس عوض (الهيئة العامة للكتاب، 1991)

من السطور الأولى لمقدمته وحكاية ضياع النسخة الوحيدة من الكتاب ثم ظهور المدعو كناري ونشره للكتاب من غير استئذان، يسحرك الكبير لويس عوض ويثبتك في موضعك ولا يدعك إلَّا وأنت في الصفحة الأخيرة تتساءل متى ستعيد قراءة هذا الكتاب مرة ثانية. هذه سيرة سنوات تكوين واحد من أهم الأعلام الفكر والنقد والثقافة في مصر الحديثة، كتبها باللغة المصرية المحكية، ربما ليثبت لنفسه والآخرين أنَّها قادرة على استيعاب أسمى الأفكار وأعقد التجارب، كتبها كما فكّر فيها وكما أحبَّ أن يسمعها الناس أو يقرأونها، وفيه مادة تتراوح بين السرد والتأمُّل والاستبطان، لا تعكس روح كاتبها وحسب، بل روح بلدٍ كبير كان يسكن قلب العالَم وليس هامشه. أتمنى أن يكون الكتاب متاحًا في منافذ الهيئة وإلَّا فليس أقل من طبعة جديدة منقحة وواضحة.

4. إجازة تفرغ. بدر الديب (الكرمة، 2015)

هي رواية لا تُشبهُ شيئًا غيرها، كتبها واحد مِن أعمدة الكتابة الراحلين ونشرت أوَّل مرة [على ما أظن] في 1990 ثم أعادت دار الكرمة نشرها قبل خمس سنوات في سلسلة مختاراتها من العلامات البارزة، وخيرًا فعلت. لا أذكر رواية أو عملًا فنيًا آخَر طرح معضلات الفنان والمثقف المنعزل والساعي رغم ذلك لكسر عزلته بهذا القدر من الوضوح والتعقيد والصراحة الصادمة أحيانًا، ليس هذا وحسب بل تشتبك الرواية أيضًا مع لحظة استثنائية وربما تكون مغفَلة إلى حدٍ ما مِن التاريخ المصري وهي فترة حرب الاستنزاف، وتضحيات الجنود المصريين وعَدم رغبة المسؤولين وأولي الأمر في رؤية دمائهم وجثثهم، ولو مرسومة في بورتريهات الفنان بطل العمل، لَعدم إضعاف الروح المعنوية للشعب. وهي أيضًا رواية نفسية بامتياز، ويكفي أن نتأمل علاقة الراوي المرتبكة بالنساء منذ أمه وزوجه المصرية وحبيبته الأجنبية حتَّى نقرّ بهذا، لهذا كله فإنَّ مَن لم يقرأها فوَّت على نفسه الكثير.

5. حياة كاملة. روبرت زيتالر. ت: ليندا حسين (التنوير-2017)

سرد رائق وعذب لحياة شاقة، تكاد تكون مستحيلة مِن فرط مشاقها، لرجلٍ بسيط لا يملك إلَّا قوته الجسدية وأحلامه وارتباطه بالجبال الثلجية التي ولدَ ونشأ وشاخَ في كنفها. من غير موضوعات ضخمة وأفكار معقدة، يعرض زيتالر حياة كاملة بمعنى الكلمة عبر أحداث متسلسلة كالماء الرقراق. زيتالر كاتب وممثل نمساوي مقيم في برلين، ولم  نعرف عنه الكثير في العالَم العربي، حتَّى وصلت روايته هذه إلى القائمة القصيرة للبوكر الدولية في 2016. ويبدو أنه مِن محبي السلاسة والبساطة الآسرتين، وهي طريقة في الكتابة تبدو للقارئ من الخارج سهلة وعادية لكن يعرف المتبحرون أنه ليس أشق من نحتها كلمة كلمة وجملة جملة.

6. سيدة أورتوبي وقصص أخرى. بيو باروخا ت: د. جمال يوسف زكي (سلسلة إبداعات عالمية، أكتوبر 2019)

قد تبدو هذه المجموعة القصصية لوهلة موسيقى كلاسيكية بامتياز، تقليدية ومحكمة وجليلة، غيرَ أنَّ تيارات تحتية عديدة تجري تحت سطح سطور هذا المعلَّم الكبير لفن السرد، ولعلَّنا جميعًا قرأنا قصصًا في العربية أو لغات أخرى تجد بذورها الأولى (ولو لم يدرِ أصحابها بالضرورة) في قصصه المكتوبة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. الكتاب ككل، بقصصه ومقدمته وهوامش مترجمه المضيئة ولغته العربية شديد الأناقة والجزالة، وجبة دسمة وغنية لعشاق فن القصة القصيرة، التي تتراوح أشكالها وطرائقها كما في هذا الكتاب، بين الحالة المشهدية العابرة والصورة القلمية لشخصية ما والدراما مكتملة الأركان فكأنها مسرحية صغيرة.

7. مِن مقام راحة الأرواح. مريم عبد العزيز (روافد، 2016)

فاتتني قراءة هذه المجموعة القصصية حين نشرها منذ سنوات، لكنها كانت أحدث ما قرأت في فن القصة القصيرة المصرية، خلال هذه السنة التي نودّعها الآن آملين أن تتبدد غيومها سريعًا. هو الكتاب الأوَّل لصاحبته، وعلى الرغم من ذلك لم تقع في بعض مزالق الكتابات الأولى المعهودة حاليًا، من قبيل الانغلاق على الهموم الذاتية للكاتب أو  محدودية التجربة والرؤية، بل أشرعَت أبواب قصصها على العالَم بناسه وألوانهم وحكاياتهم التي قد تكون بعيدة عنها كثيرًا، دون أن تتخلَّى عن لمسة إنسانية خاصة تبين في نبرة صوت الراوي وطريقة عرضه لموضوعه. بعيدًا عن التيارات المهمينة بدرجة ما حاليًا على فن القصة مِن الفانتازيا والفوضى والكابوسية وقتل المعنى، نجد لدى مريم القصة بصورتها المطمئنة وبإحساس جَمالي خاص ولغة مقتصدة متوازنة، ولذلك فهي تجربة واعدة تستحق الالتفات والإشادة وتبشر بأعمالٍ أفضل في القريب الآتي.

 

مقالات من نفس القسم