قانون قديم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 15
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د.رضا صالح
عندما يطالعني بيتنا القديم أشعر بمذاق الحياة؛ و تحضرني أيام الطفولة بذكرياتها الأليفة؛ أشتاق أحيانا لزيارة بعض أقاربي المقيمين فى ذلك البيت، أتجه إلى الحى العتيق، أتامل الميدان الفسيح، أرتفع بعيني إلى شرفاته التى تطل على الميدان.
بالرغم من اللون الرمادى الذى آلت إليه جدرانه البيضاء من الأتربة التى تحملها موجات الرياح والعواصف على مدى السنين، فما زالت تبهرنى تلك الشرفات الطويلة الدائرة مع دوران البيت، كنا نجرى ونختبىء فيها وندخل من باب لنخرج من آخر، وتلك النوافذ الخضراء اللامعة .
أيام حرب 56 أحضر والدى زهرة زرقاء، وأذابها أمامنا فى طست من الماء، وطلى بها النوافذ باللون الأزرق، وأذكر أنه جهّز لنا أرجوحة فى مدخل البيت الواسع الرطب الشاهق الارتفاع، يومها أتى بحبل سميك، وربطه فى جانبى الباب الحديدى، ووضع علي الحبل وسادة صغيرة أحضرها أخى من شقتنا، كنا نتسابق فى اللعب على الأرجوحة التى أعجبتنا تماما، فى نفس الوقت الذى تصل فيه إلى آذاننا أصوات طلقات و انفجارات من الخارج بين حين وآخر ..
مازال البيت يحمل عبق الزمن الجميل !فى هذا اليوم ؛ على العكس؛ أثناء صعودي الدرج ؛ اعترتني كآبة و شعرت بغصة فى حلقى ؛ ؛ وضربت كفا على كف، ضحكت من تفانين القدر، وحكايات الدنيا التى لا تنتهى عجائبها !
***
كان ذلك عندما رأيت هذا المقيم بشقتنا القديمة؛ كان واقفا وقد أحضر الحداد الذى كان يحمى عينيه بنظارته الواقية التى يمسكها بيد اليسرى ؛ بينما يتطاير الشرر وينبعث ضوء مبهر من ذلك ” الصاروخ” الذى يقبض عليه بيده اليمنى ؛ لصهر وتقطيع وتركيب الباب الحديدى الضخم ليكون بابا ثانيا إضافة إلى الباب الخشبى القديم لتلك الشقة التى لعنتها فى الوقت الذى ندمت فيه عليها ؛ بمجرد حيازته لها وإقامته فيها منذ زمن .
***
نعم ! لقد صارت شقة لعينة ؛ للأسف بعد أن كانت شقة الذكريات، كانت تسكنها فى البداية عائلة جدتى،التى أقامت البيت، كان فى الماضى ؛ مجموعة بيوت خشبية بغدادلى قديمة، بعد ثورة يوليو هدموها وأقاموا تلك العمارة الجميلة التى تطل على الميدان الفسيح، و التى لم تسلم من حسد الحاسدين، قضيت فيها طفولتى، و سكنتها أسرتى أيضا مع عمتى و ابنتها، وعمى الكبير وعمى الآخر الصغير، شقة رحيبة بها ست حجرات، ودورتان للمياه، كانت أسرة والدى تشغل حجرتين منعزلتين من الشقة، بينما تسكن جدتى الحجرة الكبيرة المطلة على الميدان، عرفت فيما بعد أن عمى الكبير عاد لعيش فى منزل العائلة بعد فشل زواجه من ابنة عمه ؛ كان يقيم مع عمى الصغير فى الحجرة البحرية الأخرى، أما عمتى وابنتها الشابة، فكانتا تقطنان الحجرة البحرية المترعة بالضوء و التي تطل على الميدان ؛ ابنة عمى كانت معلمة، وكانت تقتنى كتبا كثيرة ومجلات ؛ كنت صغيرا أيامها، وكنت أحب أن أتفرج على ما يقع تحت يدى منها .
***
فى ذلك الزمن كانت الأخبار تتحدث عن بناء السد وعن الانفصال بين مصر وسوريا ؛ وكنا نسمع عن شكرى القوتلى، كان أبى يقول متحسرا : خسارة كبيرة، كنت منبهرا بالأخبار، و بحواديت جدتى وأبى و تلك الساعة العتيقة التى تتصدر بهو الشقة، بينما يتدلى منها بندول نحاسى طويل لامع لا يكف عن الحركة، كأنما تحرص على إبهاري بدقاتها المميزة، والتى صارت علامة من علامات البيت ؛ يومها قالت لى جدتى إن جدى اشتراها من أحد البحارة الانجليز الذى كان يصاحبهم ويتعرف عليهم فى ميناء بورتوفيق ؛ كانت أياما هنية، وقالت أيضا أنها باعت منزلا بثلاثمائة جنيها ؛ كان المنزل بشارع القاضي الذى كان يلعب فيه إسماعيل ياسين مع والدي وزملاءهما فى طفولتهم، وقالت لى إن جدى باع قطعة أرض كان قد اشتراها من يوناني صاحب سفينة كان يسافر إلى بلاد الهند والسند وسيلان ليجلب العطور والبخور والشاى واللبان والياقوت من هناك، أذكر أنها قالت إن عمى الكبير أيضا رهن ذهب زوجته عند أحد التجار اليهود، واشتروا بالمبلغ كله تلك البيوت القديمة المتلاصقة التي تطل على الميدان ؛ والتى هدموها و أقاموا العمارة بدلا منها، عرفت أن زوجة عمى حزنت على الذهب، لأن لم يستطع عمى أن يسترده، بعد أن أنفق ثمنه فى البناء، وسارت خلافات بينهما حتى انتهت إلى الطلاق .
***
قال لى أبى : أيام حرب هتلر كنا نرفض استلام الجنيه الذهبى من صراف الشركة آخر الشهر ؛ فلما سألته عن السبب قال : الجنيه الورق كان أغلى منه فى السوق ؛ أيامها كان الجنيه الذهب يباع بسبعة وتسعين قرشا، ونصف القرش للأمانة، قلت له ضاحكا نصف قرش ! قال نعم ! نصف القرش هذا الذى لا تعرفه ؛ كان يساوى عدة جنيهات من جنيهات هذه الأيام ! تعلمت الجلوس جوار الراديو والإنصات إلى الأخبار والقرآن الكريم من أبى، كان يحرص على أداء تفس الطقوس يوميا، يصلى الفجر ويغير ملابسه، ويجلس تحت النافذة والراديو القديم ليشرب كوب الشاى بالحليب وهو يسمع القرآن، ثم يدير المؤشر ليسمع أخبار لندن، ثم يهرول إلى عمله بالشركة قبل بزوغ الشمس وقبل أن نذهب نحن إلى مدارسنا، ما أن تزوجت ابنة عمتى المعلمة حتى قامت حرب يونيو، وهاجرنا من بلادنا .
***
هاجرت الجدة والعم إلى الصعيد حيث لاقت الجدة وجه ربها بالمهجر ودفنت على الجانب الآخر من النهر، عبرت الجنازة النيل بالباخرة فى موكب بحرى جليل، بعد وفاة جدتى تزوج العم للمرة الثانية ؛ واستقر فى مهجره،
ورزق بالأولاد، كان زواجا سعيدا عليه ؛ بالرغم من أنه كان قد جاوز الستين، لم تكن الزوجة من الأثرياء، لكنها كانت سيدة بيت أصيلة وولود

اتخذت العمة وابنتها مع زوجها سكنا فى مصر العتيقة، للأسف لم يعش الزوج سوى عام و بعض عام حتى لقى وجه ربه، وعاشت العمة مع ابنتها فى ذلك الوقت ظهر أحد الأقرباء من الدرجة الثالثة أو الخامسة ! ليعرض خدماته على السيدتين، صار يتردد عليهما ويقوم بخدمتهما فوجىء الجيران يوما بأنه تزوج من الأرملة الحسناء، كانوا يقولون ساخطين : تزوج الخادم من سيدته ! لم يدم زواجه منها شهورا حتى مرضت أمها مرضا شديدا ونحل بدنها، صاروا يترددون بها على الأطباء والمشافى، حتى نحلت نحولا مخيفا ؛ كانت دائما تطلب من طلبا واحدا وتلح عليه وتكرره ؛ أن يهتم بأبنتها وألا يتركها أبدا ! حتى توفيت ودفنت بالبساتين .
***
مع أول إشارة من السادات لفتح مدن القناة وإعادة الحياة بها، عادت من مهجرها بصحبة زوجها ؛ قلبها مترع بالهموم، مثقلة روحها بالأحزان، لتحتل شقة العائلة الرحيبة، فى المدينة التى تكاد تكون خالية سوى من أطلال المبانى المهدمة بفعل الحرب، وعواء الكلاب وحفيف الأشجار وأصوات الرياح ومواء القطط ونعيق الغربان والبوم ..
***
عمت الخيبة والكآبة أفراد العائلة، وخيم الحزن والتقوقع عليهم جميعا، ومضت الأيام تترى، حرص الزوج على وضع اللمسات العاطفية التى تقربه منها، قام بتعليق صورة كبيرة للمرحومة فى بهو الشقة جوار الساعة العتيقة، وصورة أخرى فى الصالون لها إطار مذهب، وصور أخرى متناثرة على المكتب وفى أركان الصالون وحجرة النوم، كما ظل محتفظا بحاجياتها كما هى،حرصا على إرضاء زوجته، يحضر لها كل ما تطلبه بانتظام، الطعام والجرائد والمجلات التى تحبها، وأنواع الفاكهة والحلوى، كان يحاول إرضاءها ويكسب ثقتها، كانت ترسله باللحم والأرز أول شهر عربى إلى مسجد سيدى الغريب، كما تعودت أن تزور الأولياء، مرت أعوام ثم مرضت الزوجة، وطاف بها على الأطباء، ثم حتى جاءت النهاية المحتومة وتوفت إلى رحمة ربها .
***
عاش وحيدا داخل الشقة الرحيبة، ما أن تسلم الشقة حتى سال لعابه للتغيير، وأراد أن يستوثق من وجوده بها واحتلاله لها، كانت أجمل وأوسع شقة فى البيت الذى لا يملك فيه شيئا، و قد حالت العشرة والتقاليد وقانون الإيجارات القديم دون أن يطلب منه أحد مغادرة الشقة، أو حتى استبدالها بشقة أخرى أصغر، لعلم الجميع أنه لن يوافق، ولن يستطيع أحد إخراجه، لأن القانون معه، شاهدته أنا فى ذلك اليوم ؛ أثناء صعودى الدرج لزيارة عمى الصغير الباقى من رائحة جيل والدى وأعمامي وعماتي، كان هذا العم يقطن الدور العلوى بشقة غربية ضيقة، كان الرجل- الزوج الارمل واقفا مع الحداد أمام باب “شقته”، كنت أنا فى ذلك الوقت قد تزوجت، وسكنت أيضا بشقة فى عمارة بإحدى المدن الجديدة التى تم بناؤها بعد انقضاء سنوات التهجير .عندما لاحظ علامات الدهشة والاستنكار على وجى همّ قائلا بلهجة الواثق الحزين :
أردتُ تجميل المنزل، انتم – ملاك العقار- للأسف لا تفعلون شيئا ؛ ورأيت أنه لابد أن أساهم معكم، وباب الشقة الخشبي صار قديما كما ترى !
**

مقالات من نفس القسم

تراب الحكايات
موقع الكتابة

خلخال