قارئة القطار .. إبراهيم فرغلي ومسافره الأبدي

قارئة القطار
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام
قراءة لرواية قارئة القطار لإبراهيم فرغلي الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية

محمد سمير ندا 

حين يروض الكاتب قلمًا ممسوسًا، ويسقط القارئ في شراك حلم لن ينتهي.

في الحلم، يعيش الوهم حرًا، يتشبه بالحقائق. أما الحالم نفسه فيمضي في مسارات خفية في مدينة العقل الشاسعة، يتلمس دروبه بين آلاتها الجبارة، ثم يندثر في قاع الذاكرة. فإن أحيت الذاكرة الحلم عاش للأبد، وإن ألقته على أوديتها السرية اندثر في هاوية النسيان. في الحلم نرى صورًا ملونة أو شاحبة. تنبثق، بإيعاز من وحش اللاوعي البدائي، صورًا تتشكل وتتجاور أو تقفز لتقول جُملاً بلا معنى أو تهذر بالخرافة، وحين نصحو تلعب الذاكرة بالحلم كما تشتهي، فتزيح وتضيف وتترك إما أثرًا منقوشًا في الروح لا يذهب، أو تغيّب ما كان حلمًا في متاهة العدم، ليصبح وهمًا لا وجود له“.

بهذه العبارات يستهل إبراهيم فرغلي لقاء بطله الضائع بقارئة القطار، وبذات الكلمات يختتم حكايته التي لا نهاية لها! بعد أن شيّد متون وأسفار الرحلة الغرائبية لبطله من ذات الكلمات. تلك السطور كانت بمثابة طين الخلق الذي خلقت به الشخصيات والعوالم التي تدور الحكاية في أجوائها، هي الميثاق والناموس الحاكم والمسيّر للحكي، هي العتبة الافتتاحية والختامية لهذا النص متعدد الطبقات السردية.

من رحم الأحلام تولد حكايتنا، حاوية ذات الضبابية المميزة لعوالم تجوس فيها الروح خلال موات الجسد المؤقت إبان ساعات النوم، نشاهد فيما وراء الأسطر تلك الأضواء الخافتة، والظلال الباهتة، والأشباح الهائمة، والحكايات الناقصة، والنهايات المبتورة. إلا أن الأمر المؤكد، هو أنك حين تخرج من بين أوراق رواية/حلم إبراهيم فرغلي، سوف تستشعر ذات الأثر الذي تتركه أحلامك المتشابكة الحافلة بالتفاصيل في عقلك حين تحصو عقب سبات طويل هانئ.

القطار وكأنه رحلة حياة، رحلة يقاس عمرها بعمر الخلق وليس المخلوق، حياة قائمة على كلمة “إقرأ”، والقطار يسير طالما واصلت قارئة القطار فراءتها لكتاب يتبدل عنوانه ليدلل على عنصري الخلق في عوالم الرواية؛ كتاب الأحلام وكتاب الأوهام. يفقد السارد الرئيسي، أو الراوي “غير العليم” ذاكرته، من السهل أن ننسبه إلى زماننا الراهن وفقًا للمعلومات القليلة التي منحتها لنا صفحات الرواية الأولى، ولكنه يفقد هويته فور الولوج إلى القطار المتحرك، فهذا القطار لا يمكن أن يقف، هو الحياة بكل أطوار انسيابها وتخبطاتها ومساراتها المتعرجة التي لا تبوح بمآلها. داخل القطار، هناك عالمين متناقضين اتفقا على الانعزال رغم إقرار كل منهما بوجود الآخر، عالم قارئة القطار العارية وطيف شقيقتها التوأم، حيث الصمت التام والقراءة التي يتوقف القطار فور نضوب الكلمات من شفاه القارئة، وعربة الحفل، حيث الحياة الصاخبة بكل معالمها، حياة يحتفي الناس بالحياة دون إغفال للكتب والقراءة، الحياة الأولى لا تقبل ضمنيًا بوجود الحياة الأخرى وترفض مظاهرها، ولكنها تحرص على مواصلة مهمتها، رغم أنها بذلك تمنح ركاب عربة الحفل الاستمرارية والخلود.

ما هو الهدف من الرحلة؟ وفي أي قطار يتوجب علينا الركوب؟ تلك هي معضلة الوجود وصرخة الرواية المدوية، نحن لا نتحدث هنا عن تمرير للفلسفة الوجودية بين السطور، ولكننا نقف أمام عربات القطار، الواحدة تلو الأخرة، لنسأل ذات السؤال؟ ما جدوى كل هذا؟ بطلنا هنا، محمود الوهم ( أو حنّا هارون الذي ذكر في الرواية أيضًا)، يبحث عن هويته التي أسقطتها ذاكرته الضائعة، يترنح بين ثنائيات يغزلها فرغلي ببراعة فائقة؛ الحضور والغياب، الذاكرة والحلم، الطفولة والشيخوخة، الجسد والروح، الذات والآخر، ينتقل إلى عربة الحفل وقد كان ظنه أنه بذلك يستعيد ذاكرته، ولكنه لا يحصل سوى على ومضات متقطعة تبزغ على إثرها  وجوه مألوفة لا يقدر على تمييزها بوضوح، ليراكم تلك الصور الزائغة مع تعلقه الغامض بذكرى، الشقيقة التوأم لزرقاء قارئة القطار، يعود من عربة الحفل مطرودًا متهمًا بارتكاب جريمة، وهنا تقرر زرقاء، قارئة القطار التي تمثل أصل الحياة ومسيّرتها الفعلية، وكأنها تجسد صورة لحواء التي ظلت عارية منذ بدء الخليقة حتى تروي على رؤوس الأشهاد حكاياتهم، كانت هي -وحدها- القادرة على فصل الخيوط المتشابكة بين الواقع والخيال، والحلم واليقظة، وهي فقط من تعرف الحكاية الحقيقية، تستدعيه زرقاء إلى غرفتها في عربات النوم، وتروي له حكايته.

قطار من الداخل

تدفن الجدة حفيدها المصاب بمرضٍ عضال عجز الطب في زمانه عن مداواته، قررت العجوز صاحبة الحكمة، نافذة البصيرة، وربة الحكايات الأولى، أن تضع حفيدها في القبر، على أن تعود له عقب مرور وقت محدد لإخراجه، فإن ظل حيًا، وتغلبت روحه على ظلمة القبر ووحشته، صحّ جسده، وُشفي من مرضه للأبد، آمنت الجدة إن الروح إذا ما اكتسبت قوة الغيب واطلعت على قبس من مشاهد الحياة الأخرى، يتخفف الجسد من المؤرقات الملموسة والمحسوسة مثل المرض والخوف. ولكن الجدة لا تعود، يفتح الصبي عينيه في قبره وحيدًا منسيًّا غريبًا، فيقرر أن يهجر قريته التي قررت نسيانه، لا يسامح أهل القرية وقد نسوه في قبر موحش، ولكن ما اختزنه من حكايات الجدة يظل بمثابة الزاد والزواد، كانت حكايات الجدة العجوز هي النور الذي استكشف به الكثير من مناحي الحياة والناس، وربما تكون الجدة هي المعادل الواقعي/التاريخي لقارئة القطار في وجدان الراوي/البطل. بتعرف الصبي في رحلة هروبه على فتاة شابة تقرر خرق أطر العادات والهروب من القرية إلى المدينة، كانت تلك هي فاطمة، المعادل الواقعي لذكرى توأم قارئة القطار، حب يولد مكبلًا بذكورة الرجل الشرقي الرافض لتحرر المرأة وعملها وامتلاكها لقرارها، يجد راكب القطار نفسه في حكاية قارئة القطار في زمان آخر، فهو ذلك الشاب الذي لفظه الموت حيًا، وارتحل رفقة النيل وفاطمة إلى قاهرة عرابي، حيث ينخرط في أعمال مختلفة حتى ينتفض المصريين على إيقاع كلمات زعيم الثورة العرابية، تجمعه طرقات القاهرة بفاطمة عدة مرات، ولكنه يؤثر الصمت على البوح، حائرًا بين الحب السارح في قلبه، وعقله الرافض لتحررها التام، حد أنه يتردد كثيرًا حيال مساعدتها عقب تعرضها لحمل نتج عن اغتصاب  أحد الأكابر لها، تتمدد حيرته حتى تشكل جدارًا بينه وبين فاطمة، التي تعود وقتما وجد في قلبه مساحة غفران تسمح بأن يسكنها إياها، لتعلن تراجعها عن طلبها السابق له، وانعتاقها التام من حاجة المرأة الشرقية الأزلية لرجل تختبئ خلف ظله، يشكل ذلك صدمة حقيقية للصبي الذي بات شابًا مستقلًا، ويقرر العودة إلى البلدة التي نساه أهلها ولم يقدر على نسيانها، يكتشف أن التاريخ الذي شكله وشتل به غضبه تجاه قريته، كان تاريخًا مغلوطًا بُني على ظن، فجدته لم تعد لتخرجه، كما لم يعد أي شخص آخر، فقط لأن القرية قد فتك بها الطاعون، فلم ينج من أهلها سواه!

بانتهاء قارئة القطار من تلاوة حكايته الموازية لحياته في القطار، يرتد المسافر إلى قطاره، يعبر المعبر الشفيف بين الواقع والحلم، أو بين وهم وآخر، والحقيقة أن الرواية بطبقاتها المتراكمة، ومساراتها المتوازية كقضبان سكك حديدية متشابكة لا تسمح بالتلاقي أو الاصطدام، لا تمنح القارئ جوابًا نهائيًا حول هوية المسافر، ولكنها تصوره في مشهد النهاية وقد رفض مغادرة القطار حين سنحت له الفرصة، بعدما شارف على استكشاف هويته الحقيقية من خلال طفلة تدعوه لمغادرة القطار، ولكنه يؤثر البقاء، ومواصلة القراءة، حتى يستكمل القطار سفره الأبدي. وكأن السؤال الذي لم يكتبه فرغلي وكان حريّ به أن يوجهه للقارئ؛ ماذا تفعل لو وجدت نفسك في هذا القطار؟ وهل بمقدورك أن تجزم بأنك في هذه اللحظة، ووقت قراءة هذه الكلمات، لست في وقاع الأمر سوى أحد ركابه؟

قطعة فنية سردية بديعة، لا أذكر متى كانت آخر مرة قرأت فيها عملاً يحتمل هذا القدر من التأويل والتفسير، ويعج بكل هذه الأسئلة، ولعلني إذا ما أفلحت في ترتيب أدراج ذاكرتي القرائية المكتظة بالقراءة والكتابة، لوجدت آن آخر نص ترك فيّ هذا الأثر، كان -غالبًا- لذات الكاتب!

ولكن: لدينا ثمة صور لا يمكن إغفالها رغم الضبابية التي تغلفها، القطار والرحلة كمرادف للعمر/الحياة، والاستفهام الجليّ حول دواعي الرحلة وكيفية تحديد الوجهة وتعيين المحطة الأفضل للمغادرة، الصراع الداخلي بين الحاضر والماضي، وإحالة التاريخ الشخصي إلى محاكمة قد تفضي إلى زيفه بالكامل. الدين وكيفية استيعابه ما بين مفهومي الرحمة والعقاب، والقراءة كمرادف لاستمرارية الحياة؛ فهذا الكون الذي أُنشئ على كلمة، “إقرأ”، أو “كن فيكون”، لن ينتهي إلا بموت الكلمة، وسكوت الرواة!

ثم لابد أن نتوقف أمام المرأة، هي هنا رافد أساسي للمعرفة، القارئة زرقاء، والجدة الريفية المتبصرة، خازنة الماضي وحارسة الموروث الشفاهي المنقول، ثم المرأة كمرادف لحماية استمرارية الحياة من خلال قارئة القطار مرة أخرى، والمرأة كمرادف للعشق وبث الطمأنينة (ذكرى)، وأخيرًا؛ المرأة كمرادف للتحرر والكفر بمواثيق المجتمعات الذكورية (فاطمة).

طالما أبدع إبراهيم فرغلي وتميز في مزج الواقعي بالمتخيل، وله بالفعل عدة إصدارات نالت أكثر من جائزة دارت في ذات العوالم شديدة الخصوصية التي خلقها واستقر فبها ككاهن في محراب الخيال، يعتكف رفقة قلم مراوغ يجيد التلاعب بالعيون والعقول، أذكر له العوالم التي ابتكرها في كهف الفراشات ومغامرة في مدينة الموتى وحكاية مدينة الظلام في معبد أنامل الحرير، كما أذكر وضعه لشخص ميت فوق منصة السرد ليروي أقسامًا من الحكاية، أعني هنا عماد في ثلاثية جزيرة الورد.

نحن إذن أمام سارد مختلف، يكتب وكأنه ساحر هندي يروض قلمًا ممسوسًا، والقلم يتراقص على إيقاع الخيال، ينوّم القارئ مغناطيسيًا ويسحبه إلى عوالم روائية مغايرة للسائد. إبراهيم فرغلي يوجه كتابته فقط إلى القارئ اليقظ، فهو لا يكتب لمن يداعب النوم جفونه، إنما يعقد مع قارئه منذ الصفحات الأولى ميثاقًا يفرض على القارئ أن ينتبه، وأن يشحذ طاقته كي يلتقط الإشارات التي نثرت بحنكة بين الأوراق، وأن يعبر بين طبقات السرد ليستبين الصور المدمجة فيما وراء السطور، مع منحه الحرية الكاملة للجنوح إلى التفسير والتأويل الذي يلائمه.

عمل يستحق العرض والتناول والمزيد من قراءات، وقبل ذلك وبعده، من الحتمي أن نتوجه بالشكر إلى الكاتب، فقد منحنا عملاً إبداعيًا مراوغًا، له مفعول الحلم الذي نستيقظ منه، فنسارع بروايته، خشية أن ننساه! 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وكاتب مصري 

مقالات من نفس القسم