في سنوات منتصف عمري
وقعت في غرام الطريق
أقمت لي بيتا على سفح جبل الجنوب
فحين تحركني الروحُ
أخلو لنفسي
لأبصر ما لزم عليَّ وحدي أن أبصره
أسير إلى حيث ينبع النهر
وثمة أجلس
أشاهد لحظة يرتفع الغيم
أو لعلي أقابل ثمة حطابا
ولعلنا نتكلم
ونتضاحك
فننسى الرجوع إلى أرض الوطن.
***
ترى هل سنوات منتصف العمر هذه قريبة مما نعرفه بعمر النبوة تقريبا؟ والبيت؟ أهو الذي يقام حيث تقام البيوت، أو حيث يوجد نوع من البيت في انتظار من يراه، غار مثل في جبل بعيدا عن القرية.
هو عمر النبوة تقريبا. وهو البيت يقام حيث لا تقام البيوت، أو حيث يوجد نوع من البيوت في انتظار من يراه، غار مثل في جبل بعيدا عن القرية.
***
يتذكر المرء لاو تسو، الحكيم الصيني القديم الذي رأى أيضا في أواسط عمره أو أواخره أن عليه الخروج من مدينته إلى الطريق، وفيما كان عند أسوار المدينة استوقفه جندي وأبى أن يسمح له بالعبور إلا إذا ترك للمدينة حكمته، فجلس لاو تسو يدوِّن حكمته، وهكذا، بفضل تعنت ذلك الجندي، بقي للبشرية كتاب الطاو، ثاني أكثر الكتب توزيعا في العالم بعد الإنجيل، حسب ما يقال.
كأن الخروج من الوطن إلى الطريق طقس صيني انتقل أيضا إلى شعراء اليابان القدامى الجوَّالين. كأنما أهل شرق آسيا آمنوا فعلا أن للسفر فوائد، ولكنهم لم يكتفوا بقول ذلك في مثل سائر، بل راحوا ينفذون الحكمة فعلا.
هذا التعريض بالتراث العربي الذي ينص على أن للأسفار سبع فوائد لن يجعلنا نغفل عن ملاحظة دلالة الرقم. فالعرب أيضا جعلوا فوائد الأسفار سبعا، وهو رقم أقرب إلى المقدس في التراث الإنساني كله.
في هذه القصيدة أيضا ينبئنا الشاعر وانج واي أنه وقع في غرام الطريق، فأقام له بيتا عند سفح الجبل، ولكنه لم يركن إلى سكنى هذا البيت النائي المعزول على الأرجح، بل إنه ترك الجبل والبيت ومضى يتبع مجرى النهر إلى المنبع. أهو إذن باحث عن أصل الأشياء؟ الحق أننا لا نجد من الوقت ما يكفي لتأمل سؤال سريع كهذا، فسرعان ما يخبرنا الشاعر أنه جالس عند منبع النهر، يشاهد لحظة ترتفع الغيوم، كأنما لم يكن يكفي لرؤية الغيم لحظة ارتفاعه أن يفتح شباك بيته؟
***
يبدو أن المعرفة في ظن الصينيين القدامى لم تكن قط رديفا للاستقرار. يبدو أن المرء بحاجة أولا إلى فقدان الإحساس بالأمان. يبدو أن المرء إذا لم يستطع أن يحطم جدران بيته ويهدم سقفه، فعليه أن يترك هذا البيت ويمضي إلى العراء. يبدو على أقل تقدير أن سقف البيت لا بد أن يكون مليئا بالشقوق، لكي يتسنى للمرء أن يرى نور القمر كما في قصيدة لـ “إيزيمو شيكيبو” اليابانية، ويبدو أنه حتم على الشاعر أن يترك حماية الوطن الموهومة، ليخرج إلى الغابات فتخفيه أشجارها مثلما تخفي مقابر العشاق كما في قصيدة للشاعرة اليابنية “أونو نو كوماتشي“:
وما عاد لي خروج
إلا إذا أقبل الليل
في نور القمر.
متحاشيةً جميع العيون
وحرسَ القصر
أختبئ فيخفيني الشجر
مثلما يخفي مقابر العشاق.
أيها الخريف
أنت جبل.
يبدو أن العرب حينما حددوا فوائد السفر بسبع فوائد، كانوا يريدون لفت أنظارنا إلى أن ثمة شيئا ما يشترك فيه السفر، مجرد السفر، مع السماوات والأرض.