مروان ياسين الدليمي
1 – ” مَجَرَّةٌ مُعَطَّلَةٌ في خَاصِرَةِ الضَّوْءِ “
أُعَلِّقُ قَلْبِي عَلَى مِسْمَارٍ فِي رُدْهَةِ الزَّمَنِ،
وَأَنْتَظِرُ أَنْ تُعِيدَنِي ٱمْرَأَةٌ مِن نِسْيَانِهَا.
لَا شَيْءَ يَكْتَمِلُ هُنَا،
ٱلسَّاعَةُ تُدَقُّ إِلَى ٱلدَّاخِلِ،
وَٱلنَّوَافِذُ تُفْرِغُ ضَوْءَهَا فِي حَلْقِ ٱلمَدِينَةِ.
كُنْتُ أُشْبِهُ رَصِيفًا فَقَدَ ذَاكِرَتَهُ،
أَكْتُبُ عَلَى ضَبَابِ ٱلنَّوَافِذِ أَسْمَاءً لَمْ تَكُنْ لِي.
كُلُّ ٱلْأَشْيَاءِ ٱلَّتِي لَمْ أَمْلِكْهَا، أَقَامَتْ فِيَّ ،
كَأَنَّنِي فُنْدُقٌ بَارِدٌ يُؤَجَّرُ لِلْفَرَاغِ.
ٱلَّتِي أَحْبَبْتُهَا —
كَانَتْ تُحَاذِي ٱلْمَعْنَى دُونَ أَنْ تَلْمَسَهُ،
تَسِيرُ عَلَى خَوْفِي كَمَا تَسِيرُ ٱلْكَلِمَةُ عَلَى حَافَّةِ ٱلْقَصِيدَةِ ،
وَلَا تَسْقُطُ.
عَيْنَايَ مَمَرٌّ لِلضَّوْءِ ٱلْمُسْتَقِيلِ،
لَا يَرَى،
بَلْ يَتَذَكَّرُ.
وَلَا يَتَذَكَّرُ،
بَلْ يَرْتَابُ.
كُلُّ مَا ٱقْتَرَبَ مِنِّي،
تَرَكَ عَلَى جِلْدِي خَرِيطَةً إِلَى مَكَانٍ لَا أَبْلُغُهُ.
ٱلْعَاطِفَةُ،
ذَلِكَ ٱلطِّينُ ٱلْقَدِيمُ،
لَمْ يُخْلَقْ لِي مِنْهُ شَيْءٌ سِوَى ٱلْأَصَابِعِ ٱلَّتِي تُلَوِّحُ لِلْمُغَادِرِينَ.
ٱلْمَدِينَةُ —
مُجَرَّةٌ مُعَطَّلَةٌ فِي خَاصِرَةِ ٱلضَّوْءِ،
وَأَنَا كَائِنٌ هَشٌّ،
يَنْتَظِرُ قِطَارًا فِي مَحَطَّةٍ لَمْ تُبْنَ بَعْدُ.
2 – هَوَاءٌ يَحْتَكُّ بِٱلْعَدَمِ
لَيْسَ لِي مِنَ ٱلْعَالَمِ سِوَى ٱلْمَمَرَّاتِ ٱلَّتِي لَمْ أَعْبُرْهَا،
وَصَدَى ٱلْخُطَى ٱلَّذِي يَتَرَدَّدُ فِي فَرَاغٍ لَا يَتَّسِعُ لِأَحَدٍ.
كُلُّ ٱلْمَعَانِي تَأْتِي مُتَأَخِّرَةً، بَطِيئَةً،
كَحَافِلَةٍ فَقَدَتْ طَرِيقَهَا فِي ضَبَابِ ٱلْفِكْرَةِ.
أُقِيمُ فِي جَسَدٍ لَا يَخُصُّنِي،
أُمَارِسُ حُضُورًا لَا أُؤْمِنُ بِهِ،
وَأَبْتَكِرُ ٱنْقِطَاعًا يَلِيقُ بِي أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ يَقِينٍ.
ٱلْمَسَافَةُ ،
لَيْسَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ ٱلْأَشْيَاءِ،
بَلْ بَيْنِي وَبَيْنِي،
كَأَنِّي فِكْرَةٌ سَقَطَتْ مِنْ رَأْسِ ٱللَّهِ قَبْلَ أَنْ يُصَنِّفَهَا.
ٱلْحُبُّ —
جُمْلَةٌ نَاقِصَةٌ فِي كِتَابِ وُجُودٍ مُمَزَّقٍ،
كُلُّ مَنْ قَرَأَنِي أَعَادَ تَرْتِيبَ حُزْنِهِ عَلَى مِقَاسِي.
ٱلْفَتَاةُ ٱلَّتِي أَحْبَبْتُهَا كَانَتْ ظِلِّي قَبْلَ أَنْ أُولَدَ،
تَعْرِفُ كَيْفَ تُصِيبُنِي بِنَظْرَةٍ لَا تَرَانِي،
وَكَيْفَ تَكْتُبُنِي فِي دَفْتَرٍ،
لَا يَحْتَوِي سِوَى مُلَاحَظَاتٍ عَنِ ٱلصَّمْتِ.
أَعْرِفُ ٱلْآنَ:
ٱلنَّجَاةُ وَهْمٌ ٱخْتَرَعَهُ ٱلَّذِينَ خَسِرُوا كُلَّ شَيْءٍ ،
عَدَا ٱللُّغَةِ.
وَلِأَنِّي لَمْ أَعُدْ أُحْسِنُ ٱلتَّصْدِيقَ،
صِرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ٱلْحَيَاةِ كَوَجْهِ شَخْصٍ أَعْرِفُهُ ،
لَكِنِّي أَنْكَرْتُ ٱسْمَهُ عَمْدًا.
3 – مِقْصَلَةُ ٱلِاحْتِمَالِ
كُنْتُ أَبْحَثُ عَنِّي،
فِي زَوَايَا لَمْ تَطَأْهَا حَيَاتِي،
فِي صُدْفَةِ بَابٍ لَا يُفْتَحُ،
فِي مِرْآةٍ تُدِيرُ وَجْهَهَا كُلَّمَا ٱقْتَرَبْتُ مِنْهَا بِٱلْأَسْئِلَةِ.
ٱلْوُجُودُ مَشْهَدٌ مُرْتَجَلٌ،
فِي مَسْرَحِيَّةٍ بِلَا جُمْهُورٍ.
نَقِفُ عَلَى ٱلْخَشَبَةِ،
نُلَوِّحُ بِٱلنُّصُوصِ ٱلَّتِي لَمْ نَكْتُبْهَا،
ثُمَّ نَمُوتُ —
خَارِجَ ٱلسِّيَاقِ.
ٱلَّتِي أَحْبَبْتُهَا —
رُبَّمَا لَمْ تَكُنْ شَخْصًا،
بَلِ ٱحْتِمَالًا تَسَرَّبَ مِنْ حَيَاةٍ لَمْ أَعِشْهَا،
أَوْ ظِلَّ فِكْرَةٍ نَمَتْ فِي رَحِمِ ٱلصَّمْتِ ،
ثُمَّ نُسِيَتْ.
لَمْ أَعُدْ أُصَدِّقُ ٱللُّغَةَ،
فَكُلُّ جُمْلَةٍ تَقُولُ شَيْئًا وَتَقْصِدُ ظِلَّهُ،
وَكُلُّ مَعْنًى يَتَدَلَّى مِنْ حَبْلِ ٱلتَّأْوِيلِ كَشَاهِدَةِ قَبْرٍ،
نَسِيَ صَاحِبُهَا أَنْ يَمُوتَ.
ٱلْوَاقِعُ وَهْمٌ ،
ٱتَّفَقْنَا عَلَى تَصْدِيقِهِ كَيْ نُكْمِلَ ٱلسَّيْرَ .
وَٱلْمَوْتُ ،
أَحَدُ وُجُوهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلَّتِي رَفَضَتْهَا ٱلْمَرَايَا.
أَمَّا أَنَا —
فَأُعَلِّقُ رُوحِي كَمِعْطَفٍ ثَقِيلٍ فِي خَزَانَةِ ٱلرِّيحِ،
وَأَنْتَظِرُ أَنْ تُغْلِقَ ٱلْحَيَاةُ بَابَهَا،
بِرِفْقٍ.
4 – نُسْخَةٌ نَاقِصَةٌ مِنِّي
أَنَا، نُسْخَةٌ نَاقِصَةٌ مِنِّي،
هُرِّبَتْ مِنْ طَابِعَةِ ٱلْخَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَجِفَّ ٱلْحِبْرُ.
كُلُّ مَا فِيَّ مُؤَقَّتٌ،
حَتَّى حُزْنِي يُغَيِّرُ شَكْلَهُ ،
وِفْقًا لِتَقَلُّبَاتِ ٱلطَّقْسِ ٱلْوُجُودِيِّ.
لَا أَعْرِفُنِي.
أَقِفُ قُبَالَةَ نَفْسِي كَغَرِيبٍ يَنْظُرُ إِلَى غَرِيبٍ ،
وَيَتَسَاءَلَانِ — بِلَا صَوْتٍ —مَنْ مِنّا كَانَ ٱلْمَقْصُودَ؟ .
ٱلْمَكَانُ لَا يَذْكُرُنِي،
وَٱلزَّمَنُ يَمُرُّ بِي كَمَا تَمُرُّ ٱلْيَدُ عَلَى سَطْحٍ لَا يَتَفَاعَلُ.
ثَمَّةَ صَدْعٌ فِي رُوحِي يَنُزُّ تَأْوِيلًا،
أُرَقِّعُهُ بِأَسْئِلَةٍ لَا تُجِيدُ ٱلتَّوْقِيتَ،
وَلَا تَعُودُ بِخَيْبَاتٍ صَالِحَةٍ لِلْأَرْشَفَةِ.
ٱلْفَتَاةُ لَمْ تَعُدْ ذِكْرَى.
صَارَتْ لُغَةً تُـمَارَسُ فِي ٱلْخَوَاء،
قُرْبَى لَا يُطَالُهَا ٱلنِّسْيَانُ،
وَلَا يَحْتَمِلُهَا ٱلْحُضُورُ.
لَا دَلِيلَ عَلَيَّ سِوَى ظِلٍّ لَا يَتْبَعُنِي،
لَا خَرِيطَةَ سِوَى ٱلرَّغْبَةِ فِي ٱلتِّيهِ.
كُلَّمَا مَشَيْتُ،
تَرَاجَعْتُ خُطْوَةً نَحْوَ نَفْسِي.
5 – تَعَطُّلٌ طَفِيفٌ فِي لُعْبَةِ ٱلْوُجُودِ
ٱلْعَالَمُ آلَةُ قِمَارٍ،
نَسِيَ أَحَدُهُمْ أَنْ يُطْفِئَهَا.
نَحْنُ ٱلرُّمُوزُ ٱلَّتِي لَا تَصْطَفُّ،
وَٱلْجَائِزَةُ — إِنْ وُجِدَتْ —لَا تَعْتَرِفُ بِٱلْخَيْبَةِ.
أُفَتِّشُ عَنْ نَفْسِي،
كَمَنْ يَبْحَثُ عَنْ مِفْتَاحٍ فِي جَيْبِ سِرْوَالٍ لَمْ يَلْبَسْهُ قَطُّ.
أَقَعُ عَلَى أَشْيَاءَ تُشْبِهُنِي،
قَصَاصَاتٍ مِنْ وُضُوحٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ،
ضَحِكَاتٍ أُطْلِقَتْ فِي وَجْهِ ٱلسَّرَابِ وَسَقَطَتْ فِي فَخِّ ٱلْفَوْضَى.
ٱلَّتِي أَحْبَبْتُهَا —
رُبَّمَا لَمْ تَكُنْ إِلَّا أَحَدَ تِلْكَ ٱلْأَخْطَاءِ:
فَاصِلَةً زَائِدَةً،
قَوْسًا مَفْتُوحًا لَمْ يُغْلَقْ قَطُّ،
جُمْلَةً شُطِبَتْ مِنَ ٱلسَّطر
لَكِنْ ،
بَقِيَ أَثَرُهَا فِي ٱلْحَاشِيَةِ.
ٱلْحَقِيقَةُ لَا تُهِمُّنِي.
أَنَا مُجَرَّدُ نُقْطَةٍ فِي نِهَايَةِ جُمْلَةٍ لَمْ تُكْتَبْ بَعْدُ.
6 – نِهَايَةٌ لَا تَبْحَثُ عَنْ ٱسْمٍ لَهَا
فِي نِهَايَةِ كُلِّ شَيْءٍ لَا تَنْفَجِرُ ٱلْحَقِيقَةُ،
بَلْ تَتَلَاشَى،
كَكَلِمَةٍ تُهْمَسُ فِي غُرْفَةٍ فَارِغَةٍ ،
ثُمَّ تُنْسَى.
مَا كُنْتُهُ،
لَيْسَ أَكْثَرَ مِنْ أَثَرِ مَشْيٍ فِي ضَوْءٍ مُبَلَّلٍ،
تَمْحُوهُ ٱلرِّيحُ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ أَحَدٌ عَنْ وِجْهَتِهِ.
ٱلْأَسْئِلَةُ ٱلَّتِي حَمَلْتُهَا ذَابَتْ فِي جَيْبِي،
تَرَكَتْ لَوْنًا دَاكِنًا عَلَى سِرْوَالٍ بِٱلْكَادِ أَرْتَدِيهِ.
كُلُّ ٱلطُّرُقِ ٱلَّتِي سَلَكْتُهَا أَوْصَلَتْنِي إِلَى نَفْسِي،
لَكِنِّي لَمْ أَكُنْ هُنَاكَ،
كُنْتُ مُجَرَّدَ ٱحْتِمَالٍ ،
يَنْتَظِرُ أَنْ يَتَحَقَّقَ فِي سَطْرٍ أُعِيدَتْ كِتَابَتُهُ أَلْفَ مَرَّةٍ
ثُمَّ شُطِبَ.
ٱلَّتِي أَحْبَبْتُهَا —
لَا ٱسْمَ لَهَا ٱلْآنَ،
وَلَا صُورَةٌ،
هِيَ مَجَازٌ أَدَّىٰ دَوْرَهُ ثُمَّ عَادَ إِلَى ٱلْعَدَمِ ،
مُرْتَدِيًا ٱبْتِسَامَةً مُلَثَّمَةً.
أَفَكِّرُ أَحْيَانًا ،
أَنْ ٱلْحَيَاةَ كُلَّهَا حَدَثَتْ بِينَمَا كُنتُ أُصَلِّحُ خَيْطَ ٱلْحِذَاءِ،
أَوْ أَفْتَحُ حَقِيبَةَ مَلَابِسِي ،
لِأَتَأَكَّدَ أَنِّي لَا أَرْغَبُ بِشَيْءٍ.
ٱلنَّجَاةُ لَيْسَتْ بَابًا،
بَلْ إِقْنَاعٌ دَاخِلِيٌّ بِأَنَّكَ لَنْ تَعُودَ لِتَطْرِقَهُ.
كُلُّ مَا بَقِيَ،
أَنْ أَتْرُكَ ٱلنَّافِذَةَ مفتوحةً ،
أَنْ أُقَابِلَ ٱللَّازَمَنِ بِكُرْسِيٍّ فَارِغٍ،
وَأَنْ أَبْتَسِمَ ،
لَا لِأَنَّ ٱلْأَمْرَ بِخَيْرٍ،
بَلْ لِأَنَّنِي أَخِيرًا،
لَمْ أَعُدْ مُضْطَرًّا لِإِيجَادِ مَعْنًى.