نهى محمود
للسينما الكورية مكان كبير في قلبي، تبدو الأفلام بسيطة، تتحدث كلها عن الناس العاديين، تتناول عمق العادي، تمتلئ بشحنة ما قد يختبره كل البشر العاديين، فتدرك لحظتها أنه ليس عاديا على الإطلاق، وأن لكل قصة عادية مكررة خصوصيتها ومآسيها، ما يحرك مشاعرك، يدخل قلبك، يدعوك للتأمل.
شاهدت عشرات الأفلام الكورية، لكن بقى فيلم poetry الذي صدر عام 2010، وقامت ببطولته الممثلة يون جونج- هيو، ويحكي قصة سيدة في الستين من عمرها، تعمل في رعاية المسنين وتعتني بحفيدها، وترغب في تعلم كتابة الشعر، فتلتحق بكورس للمبتدئين لتتعلم كيف تكتب قصيدة، وتكتشف أنها مصابة بالزهايمر في مراحله الأولى وقريبا ستنسى كل شيء، وأن حفيدها الذي ترعاه وتهتم به أكثر من أي شيء في هذا العالم، متورط في اغتصاب فتاة وبسبب فعلته هو واصدقائه، أقدمت هذه الفتاة على الانتحار.
ظل poetry فيلمي المفضل لأكثر من 14 عاماً، حتى جاء فيلم past lives الذي أنتج عام 2023، من تأليف وإخراج سيلين سونغ في أول فيلم روائي طويل لها، وبطولة جريتا لي، وتيويو، وجون ماجارو. وأزاحه برقة وشجن كبيرين،
يحكي الفيلم عن عائلة، أب وأم فنانين، ولديهما فتاتان، يقرران الهجرة إلى كندا، للحصول على مستقبل أفضل في العمل، البنت الكبيرة في الثانية عشرة من عمرها، تخبر أصدقاءها في المدرسة أن سبب هجرتهم هو رغيتها في الحصول على جائزة نوبل، وأنه لا أحد يمنح الكوريين هذه الجائزة، عندما تسأل الأم ابنتها الكبيرة نا يونغ التي ستغير اسمها لنورا إن كان لها صديق مميز في المدرسة تخبرها عن هاي سونغ، وتخبرها أنه رجل حقيقي وأنها ستتزوجه غالبا، تهاجر العائلة، ويستطيع الولد والبنت أن يلتقيا بعد 12 عاما أخرى على موقع للتواصل الاجتماعي، يفرحان كثيرا، ويبدو الأمر كإعادة شمل بشغف كبير.
في تلك الفترة يدرس الولد الهندسة في جامعة في بلده ويعيش في بيت أسرته كما تقتضي التقاليد الكورية، بينما هاجرت الفتاة مرة أخرى لنيويورك لتستطيع أن تحقق حلمها في الكتابة، وتقديم نصوصها المسرحية.
تضغط المسافات، واختلاف التوقيت، والطموح على الفتاة مرة أخرى، وهي توشك على الذهاب لمنحة للكتابة في بيت منعزل للفنانين، وتطلب من الولد الذي لن يستطيع أن يجئ لزيارتها في نيويورك قبل عام، ولن تقدر هي على زيارته في سول قبل عام ونصف أن يتوقفا عن التواصل لفترة، قالت له إنها هاجرت مرتين لتحصل على ما لديها الآن، وترغب في التركيز عليه.
يمر 12 عاما أخرى، قابلت فيها الفتاة كاتبا شابا أمريكيا أثناء منحتها في البيت المنعزل، تزوجته وحصلت على الإقامة الدائمة، ومن ناحية أخرى يرتبط الولد في نفس الوقت بفتاة.
تحكي نورا للشاب الأمريكي عن “إين – يون،0” التي تعني بالكورية العناية الإلهية أو القدر، لكنها خاصة بالعلاقات بين الناس، أصلها بوذي ولها علاقة بالتقمص، ويحدث ال “إين -يون” إذا سار غريبان جوار بعضهما في الشارع وتلامست ملابسهما بالصدفة، فهذا يعني أنه كان هناك ما يجمعهما في حيواتهما السابقة، وإن تزوج شخصان، فهذا يعني ان 8000 مستوى من ال “إين- يون” قد تجمعا بينهما في الحيوات السابقة.
يذهب الولد بعد 24 عامل ليزور نورا فتاته في نيويورك، بعد أن انفصل عن صديقته، وأخبر الجميع أنه سيسافر لنيويورك لقضاء عطلة.
“جاء في عطلة”. هذا ما أخبرت به الفتاة زوجها، الذي يعرف قصتها مع حبيب طفولتها.
مشاهد متالية ممتلئة بالعاطفة والارتباك لهم جميعا.. آرثر الزوج يخبر نورا: أفكر في قصتكما، لا يمكنني منافسته حبيب الطفولة الذي جاء بعد 24 عامل ليقابلك، تبدو قصتكما معا ممتعة أكثر، حكاياتنا مملة، تقابلنا في بيت للفنانين، مارسنا الجنس معا، لأن كلينا كان عازبا، عرفنا أن كلينا يعيش في نيويورك فانتقلنا للعيش معا توفيرا لثمن الإيجار، تزوجنا لتحصلي على الإقامة الدائمة، في القصة سأكون أنا الرجل الذي تتركيه عندما يظهر الحبيب.
تخبره أن الحياة الحقيقية لا تسير هكذا، ويقول أعرف..
ثم يسأل: ماذا لو قابلت شخصا غيري في السكن! ماذا لو كان كاتبا آخر من نيويورك، قرأ كل الكتب التي قرأتها، وشاهد الأفلام التي شاهدتها، وكان يسدى لك النصائح في مسرحياتك، ويستمع إلى شكواك من بروفاتك؟
بينما يقول الفتى هاي سونج ل نايونغ، ماذا كانت علاقاتنا في حيواتنا السابقة في رأيك؟ ويتبادلان الاقتراحات.. ربما كانت علاقة حب مستحيلة بين الملكة وخادم الملك، أو ربما كنا مجبرين على زواج سياسي وكان كلانا يعامل الآخر بقسوة، كلانا يخون الآخر، كلانا يسب الآخر. أو ربما كنا جالسين جنبا إلى جنب في نفس القطار بسبب أرقام تذاكرنا، أو طائرين تشاركا الغصن في صباح يوم ما.
أثار الفيلم داخلي تساؤلات أخرى عن الكارما أو ما سميت هنا ال إين – يون، وأفكر في رجل تجمعني به مستويات كبيرة من إين يون، وبيقين مبهج وممتلئ بالشجن، أظن أن حكاياتنا في كل الحيوات كانت مميزة جدا، وأن ذلك يفسر ببساطة مكانته في قلبي، الراحة التي أختبرها معه، مشاعري التي أبوح له بها بلا تفكير ولا خجل، كل ما جمعنا، وكل ما نتفق عليه، ونحبه، أفكر أن كل تلك الطاقة لا يمكن أن تكون وجدت هذه المرة، وفي هذه الحياة.
هي تراكم طبقات تشبه الصخور التي أحب شكلها في الجبال مدورة ومهولة، وممتلئة بالعناصر والألوان، ممتزجة وعظيمة، الصخور الرسوبية هذا يشبه كثيرا ما بيننا. أمر قد لا يفسره الحب وطبيعة العلاقات الإنسانية قصيرة المدى والعمر كأصحابها، لكنها قد تبدو واضحة في ترسيبات الصخور التي تكونت من ملايين السنين.
أفكر وتسيل دموعي مع مشهد الفيلم الأخي، عندما تقف الفتاة والولد ويودع كل منهما الآخر ويسألها ماذا لو كان عدم تلاقينا في هذه الحياة مجرد حياة سابقة أخرى؟ ماذا تعتقدين أننا سنكون في المرة القادمة وبعيون دامعة تخبره أنها لا تعرف، فيقول إنه لا يعرف هو الآخر، ثم يلوح لها ويقول أراك هناك.