إبراهيم مشارة
عن منشورات المتوسط بميلانو إيطاليا صدر عام 2017 كتاب الشاعر العراقي المغترب فوزي كريم بعنوان لافت “القلب المفكر القصيدة تغني، ولكنها تفكر كذلك” في 253 صفحة احتوى مقدمة وخمسة أبواب تتضمن نصوصا للشاعر في فهم الشعر وتذوقه ونقده مازجا بين الحداثة الشعرية وفق المنظور الأدونيسي وتيارات الشعر العالمية التي ألم بها أحسن الإلمام مع نصوص لنقاد عرب كأدونيس ،عبد الفتاح كيليطو، هادي العلوي ،عبد القادر زيدان تفصل القول في ماهية الشعر والفرق بين الشعر العربي والعالمي وهذا الطوفان من الشعر الذي يكرر نفسه وتجيش فيه العاطفة على حساب الفكرة المتأملة والمنحى الإنساني ، كما استعان بنصوص من كتابه “يوميات نهاية الكابوس” ونصوص ترجمها لنقاد وشعراء غربيين شكلت في مجملها أبواب الكتاب.
وفوزي كريم شاعر صدر له أكثر من ديوان شعري أو كراسة شعرية، وبعض دواوينه مترجم إلى اللغات الأوروبية، كما له أكثر من كتاب نقدي وكلها تدور حول موضوع الشعر مستفيدا من تجربته الشعرية وثقافته الغزيرة العربية والأجنبية التي جعلت منه شاعرا صاحب رؤيا وموقف حداثي جدير بالتنويه، كما صدرت عن تجربته الشعرية عدة دراسات كــ”أنسنة الشعر نحو حداثة أخرى فوزي كريم نموذجا” و”أنساق التعبير في شعر فوزي كريم” و”تجليات البنية الأسلوبية في شعر فوزي كريم “.
نحن إذن أمام شاعر تمرس بالقول الشعري وعبر دواوينه الشعرية سنفضي إلى اكتشاف عالمه الشعري الذي لا يعول على جيشان الشعور فقط ورصف الكلمات البليغة بقد ما يجعل من العالم بمختلف مظاهره المادية والإنسانية مادة للتأمل في رزانة عميقة واتزان وجداني متوسلا بالدهشة والحيرة والشغف بفتنة السؤال وإثارة القلق أو الشك الذي ينير دهاليز الفكر ويضئ عتمة النفس. وهكذا يغدو الشعر عنده قبسة من الروح وسبحة من الخيال وتحويمة للفكر لا مجرد بضاعة لغوية وقطع غيار معجمي بالإمكان استبدال قطعة مكان أخرى.
وإذا كان العنوان عتبة أولى للنص يعد مدخلا له فهو يعني بالشعر المفكر التأملي لا مجرد الشعر العاطفي الذي لا ينتهي إلا إلى صخب الشعور وخواء الفكر أو الشعر الخالي منهما معا إلا نصاعة العبارة وجودة الصياغة ومختلف الألاعيب اللغوية.
كتب الناقد حسن ناظم عن كتابه هذا(يمتاز فوزي كريم بكونه ناثرا من طراز رفيع ويجلي نثره ميزتين اثنتين واجبتين في كل نثر عظيم الثقافة الرصينة والأسلوب الآسر الذي يكمن سره في هذه الكيمياء الساحرة التي تجمع ذاته وتبصراتها بالحياة).
ينطلق فوزي كريم في كتابه هذا الذي يعتبر إضافة وبقعة ضوء مسلطة على منجزه الشعري ليجيب على كثير من الأسئلة حول عالمه الشعري وتجربته الإبداعية وموقفه من الشعر العربي القديم والحديث، ونظرته إلى الشعر العالمي من مسلمة احتفائه بالقصيدة المفكرة وعدم ميله إلى القصيدة التي تصلح للغناء أو تحتفي بالعواطف فقط في اعتدال أو إسراف أو تحتفي باللغة في تأليف القول الشعري مع خلو كل هذا الشعر من الفكرة والتأمل ونفاذ البصيرة، ولا يعني هذا إلغاء القلب والاكتفاء بالفكر فحينها يغدو الشعر أشبه بالرياضة الذهنية واليباس الذي لا طائل من ورائه ويخرج عن روح الشعر وماهيته وهو يكتب في المقدمة كعتبة ثانية لهذا الكتاب تضئ دهاليزه وتشرح متونه (هذا الكتاب إنما يهدف إلى المتعة بفعل احتفاء مصوت القصيدة المفكرة، والقلب المفكر الذي وراءها، في وجه القصيدة التي تخرج من محض عبث، أو جد لغوي، ذهني تحت راية مسميات عديدة).
ومن نصوص أثبتها لنقاد عرب حداثيين ونصوص شخصية يخلص إلى أن القصيدة تندلع من فكرة وتتكاتف المخيلة والعاطفة والموسيقى لاحتضان الفكرة ،لذا تبدو القصيدة في النهاية غامضة وغرائبية ،ذلك أن اللغة خرجت عن طورها ولم تعد لغة القامومس لأنها تمثلت فكرا عليه أن يتأمل، يفكر ويعتمد على تغذية ثقافية جادة ،كما أن الشعر الذي انقض عليه بعد جيل الرواد طائفة تؤمن بالفكرة إلى حد التقديس أي الشعر الملتزم بمبادئ الحزب والشعب والوطن يعد شعرا ظرفيا وعرضيا ولا يدخل فيما يكرس له فوزي كريم منجزه الشعري ومتابعته النقدية.
يأخذ فوزي على الشعر العربي مثلما أخذ أدونيس والذي وضع ما يتعارف عليه بمقاييس الحداثة الأدونيسية للشعر على الشعر العربي حين يقارن بالشعر العالمي ففي حين يسعى الشعر العالمي إلى القصيدة المفكرة تسعى القصيدة العربية إلى المهارة البلاغية والعناية بالشكل وهذه القضية فصلها وأفاض فيها القول في “الثابت والمتحول” كما اهتم علي الوردي بصفته ناقدا اجتماعيا ومنظرا فكريا تتبع عيوب الفكر العربي ومأزق الحياة الاجتماعية ونقد سرديات التاريخ التي لا تنقد قديما ولا تضيف جديدا ففي كتابه “أسطورة الأدب الرفيع” انقض على الأدب الذي يوسم بالرفيع في مبالغاته العاطفية وبهلواناته اللغوية وتوظيف الشعر للاستقطاب السياسي ووضعه في خدمة الخلفاء والأمراء على حساب الشعر أولا والإنسان ثانيا وفصل عبد الله الغذامي في الأنساق الثقافية ظاهرة الأنا وتفخيمها إلى أن غدت ورما ماانفك الشاعر يشدخ رؤوس قارئيه بفحولته تارة كنزار قباني الذي لا يتردد أن يقول:
فصلت من جلد النساء عباءة
وبنيت أهرامات بالحلمــــات
والمتنبي الذي لا تخلو قصيدة له من حديثه عن أناه في إسراف وإسهاب:
واقفا تحت أخمصي قدر نفسي
واقفا تحت أخمصي الأنـــــام
في حين تنصل المعري من هذه الأنا التي بدأ محتفيا بها مضخما لها متشامخا بها على غيره كما في ديوانه الأول “سقط الزند” وقصيدته المشهورة (ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل) وانتهي بعد نضجه الفكري إلى شجب هذا النوع من القول الشعري والتبرؤ منه لصالح التأمل في الحياة والإنسان والعالم الفاني والباقي، طارحا مزيدا من الأسئلة محتفيا بمزيد من الشكوك فاضحا توترات نفسه وقلقه الفكري.
ولإثبات وجهة نظره حول خلو الشعر العربي من الفكرة واحتفائه باللغة أو الشعور تعمد إلى نصوص لأحمد أمين في فجر الإسلام حول احتفاء العرب باللسان مع غياب الفكرة ،ونص لجواد علي حول الوصف وضعف المنطق وعدم تسلسل الأفكار وغياب الوحدة العضوية ،ونص لطه حسين يرجع ذلك إلى ضعف الاحتكاك العربي بآداب العالم فهم وإن أخذوا عن اليونان الفلسفة والعلوم توقفوا عن التأثر بالأدب بحجة الوثنية، وكل ذلك أثر على الشعر العربي وجعله متاهة للغة وجيشان الشعور مع غياب الفكرة.
في الباب الذي عقده للشعر والأخلاق ومن نص لأدونيس ينتقد فيه المقولة التي ترى أن الشعر خرق يجوز له ما لا يجوز لغيره فهو اعتباط لفظي ذلك أن الأمر ينطوي على مفارقة ولا إنسانية أن يجوز للشاعر الإشادة بأناه مع تملق للسلطان وتمدح للطاغية والدعوة إلى الكسل واحتقار الأسود ، فكيف يحفل الشعر العربي بكثير من أمثلة هذا؟!
وكان تودوروف يرى أن الشعر ليس لصلاح العالم وإنما عبر إضافة الجمال له وهو يسعى مثل كل فن إلى جعل العالم أكثر وضوحا وأغزر معنى وبالتالي أفضل، وهكذا فالمعري وأبو نواس على الرغم من التناقض بينهما يسعيان إلى الجمال والحقيقة فأبو نواس عبر ثقافة المجون يحرر ويتحرر من ثقافة الأمر والنهي والذهاب إلى ثقافة الحرية والمعري عبر تأسيسه لمعرفة هي نقيض المعرفة التي تقوم على حقائق نهائية إنه رمز للخروج من المذهبيات واليقينيات من أي جهة كانت يقذف بالقارئ في متاهة من الضياع أو العدمية بوصفها جوهر العالم فهو إذا شاعر بمعيار الحداثة الأدونيسية لأنه شاعر بقيد الفكر ومفكر بقيد الشعر.
في نص عن شعر المعري يكتب كيليطو في نصه الذي استعان به فوزي كريم عن حداثة إفراغ النص من المعنى وفي نص الفستق بين كيليطو كيف حاول المعري تقويض مبدأ الهبة الذي يدين به الناس ومن قديم قال المعري:
إذا كنت تهدي لي وأجزيك مثله
فإن الهدايــــــا بيننا تعب الرسل
هذا المبدأ السائد بين الناس والذي قوضه عبر رفضه الزواج والإنجاب فإذا كان مدينا لوالديه بقدومه على العالم فلن ينجب ولن يكون أحد مدينا له في وجوده وهو السبيل الوحيد للقضاء على الفساد ونظام الاستدانة في هذا العالم.
ومن نماذج القصائد المفكرة التي أثبتها كنماذج متأصلة مقطع من رباعيات الخيام حيث دعوة عمر الخيام واضحة فعلى الإنسان أن يقاوم ما استطاع الإغواء ويتجنب محاولة إعطاء معنى لكل ذلك ليتسنى له أن يعيش.
ومن ملحمة جلجامش التي يرى أنها أول قصيدة مفكرة وهي بأقسامها الثلاث تبدأ مع الإنسان البدائي ثم مرحلة الوعي الجديد والتحضر وأخيرا الوعي الصادم أن الموت مقدر على البشر وأن الآلهة قد استأثرت بالخلود. وهو نص مترجم استعان به الكاتب ونصوص لجلال الدين الرومي ومن أبدع سبحاته الفكرية :
حين أكون معك ،نسهر طول الليل
حين لاتكون معي ،لا أستطيع االنوم
احمد الله على هذين الأرقين
وعلى الفارق بينهما
فالصمت كما يرى الرومي هو لغة الله وكل ما عداه ترجمة بائسة وعلى المرء أن يبيع ذكاءه وبثمنه يشتري الحيرة فالجرح هو المكان الذي يدخلنا الضوء منه.
نصوص نقدية وقصائد مفكرة في هذا الكتاب من فاوست إلى ريلكه إلى نيشته ولوكريتيوس ييتس، بسوا وإليوت ودانتي ريتسوس وتشيسلاف ميووش قصد بها المؤلف إلى تبيان الفارق بين الشعر العربي والشعر العالمي حيث اتجه الثاني إلى القصيدة المفكرة واتجه الأول إلى القصيدة اللغوية وهذه الفكرة قال بها بعض المستشرقين ولها شواهد لا تخفى في شعرنا العربي وتناولها بالنقد والدرس الغذامي في نقد الأنساق الثقافية وعلي الوردي في أسطورة الأدب الرفيع ولعل الشعر حاد عن طريقه كأفق للتأمل ومنفذ للدهشة والإدهاش والتوتر والحيرة وانحاز إلى صف اليقين والرتابة والوثوق والتسليم والابتذال في مضمار الألاعيب اللغوية والبكائيات المبالغ فيها والهجائيات التي تصنف في خانة قلة التربية وما تفخيم الأنا واحتقار الآخر وغير ذلك ما يمكن أن يسمى مرض الشعر الذي حاد عن القصيدة الرؤيا وعن العقل والتفكير وعن الروح المتوترة كما في الشعر العالمي.