أ. د .عمر محفوظ
كلية التربية جامعة السادات (سابقا )
فنيات الحكاية يقصد بها الطريقة التي تختارها الكاتبة لبناء روايتها من ناحية تشكيل الأحداث وترتيبها وتحيد علاقتها بالزمن والمكان والشخصية بهدف تحقيق الهدف الفني الذي يهدف له المبدع في روايته للوصول بها إلى أقصى غايتها الجمالية والموضوعية والفنية الحكائية ما هي إلا تكنيك فني هي ( كلمة تستخدم لتسمية الوسائل التي يستخدمها القاص ليؤدي العمل الذي يريده، وليحقق بطريقة فعالة الغاية التي نصب نفسه للوصول إليها)([1]) وبناء على هذ التعريف المنطقي يكون التكنيك هو الطريقة الخاصة المميزة التي يستخدمها الروائي في بناء روايته وتقديمها تقدما فنيا يثير وجدان قارئه ويحرك فكره ويستقطب أشواقه ويحقق له المتعة والفائدة في آن واحد (ولما كانت الرواية صنعة لها أصولها النظرية، وتقاليدها الفنية، ومهارتها التقنية المستمدة من طبيعتها الخاصة لزم لذلك حشد قدرات الكاتب وطاقاته الإبداعية من أجل توظيفها لتشكيل العمل الروائي على نحو فعال ومؤثر يرضى عنه طموحه الإبداعي وذوق جمهوره المتلقي)([2]).
ولا أريد بهذه المقولة _ فيما يتصل بوظيفة التكنيك الفني _ أن ألزم الروائي بالخضوع للصيغ الجاهزة، والأمثال للقوالب الجامدة التي أعدت سلفا. وإنما أريد أن يحتشد بطاقاته الفنية. ورصيده الثقافي، وتجربته الروائية ليتمكن من الاختيار والحسم أمام الخيارات العديدة المطروحة في ساحة الفن لحظة الإبداع الروائي، حيث عليه أن يحسم الاختيار لصالح تجربته، وفنه وقرائه فالوعى النقدي والإطار الثقافي والدربة والمكابدة تصقل أدواته النقدية، وتعمق رؤيته للأشياء، وتجعله قادرا على الاختيار في مجال التكنيك الفني، لأن الحرية الممنوحة له كفنان مبدع استجمع كل أدواته الفنية هو في الاختيار _ لا على مستوى تعليل الاختيار ( إن كل الوعي النقدي الذي يتميز به الروائي لا يفيده إلا على مستوى الاختيار، وليس على مستوى تعليل هذا الاختيارات ، فهو يحس بالحاجة لاستخدام شكل معين، أو لرفض صفة معينة، او لبناء فقرة بطريقة معينة، إنه يضع كل اهتمامه في البحث المتأني عن الكلمة السليمة ومكتمها الصحيح)([3]) والتكنيك الفني له جوانبه العديدة، وطرقة المنوعة التي يستخدمها الكاتب ( بعض هذه الطرق يتصل باختيار الشكل العام الذي تصاغ به الحكاية، وبعضها يتصل بأسلوب التعامل مع الزمان والمكان، وبعضها يرتبط بحركة السرد للأحداث سرعة وبطئا وبعضها يتصل بطبيعة البناء الفني، كالمنولوج الداخلي، واستخدام تيار الوعي، والحلم والاستدعاء)([4]) وسوف نعالج هذه المباحث بالتفصيل من خلال التطبيق العملي على نصوص الرواية النسوية العربية في السعودية.
الاستدعاء: تشير المعاجم إلى مصدر استدعاء [د ع و] (مصدر استدعى).
استدعى يستدعي اسْتَدْعَ استدعاءً فهو مستدع والمفعول مُسْتَدعَى.
استدعى الشخص طلب حضوره مناداةً أو مُراسلة. طلب المجيء استدعى القاضي الشاهد.
استدعى الأمر ذلك استلزمه – اقتضاه تَطِّلبه أَمْرٌ يستدعي الانتباه([5]).
استدعاء: جمع استدعاءات (لغير المصدر).
1- مصدر استدعى.
2- في علم النفس يعني عملية استرجاع الذكريات مع ما يصاحبها من ظروف المكان والزمان، وبه تنتقل عملية التذكر من عام المدركات الخارجية إلى عالم التصورات الذهنية([6]).
الاستدعاء من استدعى، وكان قدامة بن جعفر قد تحدث عن عيوب ائتلاف.
المعنى والقافية فقال “ومن عيوب هذا الجنس أن يؤتي بالقافية لتكون نظيرة لأخواتها في السجع لا لإن لها فائدة في معنى البيت” كقول أبي عدي القرشي:
ووفيت الحقوف من وارث وا \ لٍ وأبقاك صالحا ربَّ هود
فليس نسبة هذا الشاعر الله – عز وجل – إلى أنه “رب هود” بأجود من نسبتهِ إلى أنه “رب نوح” ولكن القافية كانت داليِّة فأتى بذلك السجع لا فائدة معنى بما أتى به منه([7]).
- أشكال الاستدعاء الديني:
تثير ظاهرة الرواية النسائيّة في السعودية، الكثير من الأسئلة التي تطفو على سطح المشهد الثقافي السعودي بخصوصيته وحساسيّته، لعلّ أهمها ما يتصل بسؤال التجاوز الإبداعي الذي ينفتح على مفاهيم الثقافة، على مستوى الأشكال السرديّة وارتباطاتها بالمرجعية الواقعية، وتواشج أفعالها السردية مع قصدية التخييل وإيحاءاته، ظاهرة فرضت نفسها على المشهد الثقافي العربي، كخيار تعبيريّ يحيل لوعي نسويّ يتوسّل فعاليتي الهدم والبناء في آن، بقدر انزياحه عن “القيم الذكورية السائدة” في لحظة تاريخية مختلفة تكتنز بتحوّلات الأجيال الثقافية والاجتماعية وانفتاحها على عصر الصورة والتفجّر المعرفي وثورة الاتصالات، والرواية الرقمية، والرواية التفاعلية، وانعكاس ذلك على “التجربة اللغوية” للرواية ومن أشكال الاستدعاء الديني.
1- الاقتباس: الذي يعني “أن يضمن الكلام شيئًا من القرآن أو الحديث، لا على أنه منه”([8]). لنرى القيد في الاستثناء فارقًا بين هذا الشكل من التوظيف والشكل الذي يليه وهو الاستشهاد.
وهذا الفرق يعني أن الاقتباس يورد اللفظة أو الجملة القرآنية لا على أنها دليل يذكر بنصه بل وسيلة لتجميل اللفظ وتحسين التعبير “بالإفادة في البيان القرآني، ولذا يسوغ فيه أخذ اللفظ دون المعنى، كما يسوغ التحوير في بنية اللفظ لتوافق السياق”([9]).
كما أن الاقتباس يُعَدُّ أحد أشكال علم البيان التي عرفها العرب منذ القدم في الشعر والخطابة والتراسل يعد أحد أشكال علم البيان منذ القدم في الشعر والخطابة والتراسل وقد حظي بالشرف لارتباطه بالقرآن الكريم وجوزه العلماء لوروده على لسان النبي r والصحابة والتابعين بشرط ألا يشتمل على إساءة للقرآن العظيم([10]).
يعد التراث بمصادره المتنوعة من القرآن الكريم والحديث الشريف والشعر العربي والحكاية الشعبية والتاريخ نهرًا دفاقًا يحتوي على الإيحاء ووسائل التأثير لما يحويه من فكر إنساني وقيم خالدة ومبادئ إنسانية حية “لأن عناصر هذا التراث ومعطياته لها من القدرة على الإيحاء بمشاعر وأحاسيس لا تنفد وعلى التأثير في نفوس الجماهير وعواطفهم ما ليس لأي معطيات أخرى يستغلها المبدع حيث يعيش هذه المعطيات التراثية في أعماق الناس تحف بها هالة من القداسة والإكبار لأنها تمثل الجذور الأساسية لتكوينهم الفكري والوجداني والنفسي”([11]).
أمَّا التراث فيعرف اصطلاحًا “ما تراكم خلال الأزمنة من تقاليد وعادات وتجارب وخبرات وفنون وعلوم في شعيب من الشعوب وهو جزء أساسي من قوامه الاجتماعي والإنساني والسياسي والتأريخي والخلقي يوثق علائقه بالأجيال الغابرة التي عملت على تكوين التراث وإغنائه”([12]).
أما التراث الغربي: فهو يتمثل فيما خلفته لنا الأمة العربية منذ القدم من عطاء المضامين بإمكاننا أن نستعين به في مواصلة الركب الحضاري فهو “ما خلفه لنا السلف من آثار علمية وفنية وأدبية مما يعد نفسيًا بالنسبة إلى تقاليد العصر الحاضر وروحه”([13]).
وهناك ثمة بواعث كثيرة في استدعاء التراث في الرواية العربية عامة والرواية السعودية النسوية على وجه الخصوص. ومن تلك البواعث النهوض بإعادة التفكير في البنى الفكرية، والاجتماعية، والسياسية والثقافية للمجتمع… إذ “إن تخلُّق النص، يعني البحث عن النصوص المشكلة للتخلق والمنفتحة على المجتمع والتاريخ والتي تكون نصوص المجال التناصي التي نبحث عن تقاطعها مع الذات التي تتشكل في النهاية بما يمكن أن يسمى الصوغ الذاتي”([14]).
ومما سبق يتضح أن تطعيم السرد الروائي بالتراث يأتي نتيجة على عناية الكاتبة في مدى تمسكها بالتراث. ولاسيما أنها وقفت من ذلك موقف الابنة البارة التي تحافظ على هذا التراث العظيم.
(أ) تضمِّين النص الديني:
اعتنت الرواية السعودية النسوية بتضمين النص الديني الآية القرآنية والحديث الشريف والمعنى الديني في مواقف عدة بل أن استدعاء الشخصية الدينية قد تحقق أكثر من غيرها. ومرجع ذلك لطبيعة المكان ونوع الشخصية، وثقافة البيئة. فرواية (توبة وسُلِّيَ) (لمها الفيصل) تتأسلم الرواية أو تدخل بها الروائية إلى روٍ، منطيقية صوفية حيث ينحى بها السرد إلى مزيج من التأسطر والتصوف فيما يشبه الإسقاط الكولاجي لمخزون قرائي من الموروث مستدعى بآلية استظهارية وليس تحت وطأة الاستذكار في صيغة ترميزية أقرب إلى عجائيبية الحكي وتلفيزه بشكل تركيبي بما يعني اغتراب السرد أو انتفاء حالة الانفعال باللحظة والمكان فالذات الروائية هنا تبنى على التجانس مع المقروء وليس على إدراك “الأنا” كمعبر للتماس والتغاير مع الآخر. “بسم الله الرحمن الرحيم. أبصرت طريقًا ثم أضعته، فكأنما شيء من خيال جال في خاطري فطاف بي لأتبعه بيد أن الحقيقة تنأى وأنا سائر جواب أحلام. وإذا بي أصل إلى رجل ساجد في خشوع تام… طال سجوده حتى ظننت أنه لا يقوم، ثم اعتدل من سجوده جالسًا. فبدا لي وكأنه قد ملأ الأفق لدى استوائه وصفرت الفلاه من حولنا على سعتها عجبت لما رأيت، ثم سلَّم الرجل وحيث همس “بالسلام عليكم” تحركت الرمال عصفًا يمينًا ثم يسارًا وما أن هاجت الأرض بسلامة حتى سكنت وكأن شيئًا لم يحركها جلل الخوف قلبي لما رأيت من أمره فلزمت مكاني. الْتَفت نحوي ثم قال:
قم معي. لنُصِلِّ على الميت([15]).
وظفت الروائية السرد التراثي تأكيدًا على تواصلها مع ماضيها وإلمامها به توظيفًا لا يخلو من قيمة تأويلية.
“قد اشتقت يا أخي غبار الأيام عني… تركني… لم أقدر أن أتحرك بعد مدة، سرت إلى حيث سار فوجدته يُصلِّي.. سَلَّم ثُمَّ استلقى على يمينه ولم يتحرك اقتربت منه فوجدته أنه قد مات حملته إلى حيث الغار الذي به أخوه عبد الله ودفنته بجواره وقفت عند مدخل الغار فإذا بقمر يملأ السماء ضياء هنا تذكرت قول توبة. وحق من أنار ليلي هذا الأظلم إني لا أبالي بصروف الزمان فما هي إلا أيام تمضي، وأحلام تفنى وأجساد تبلى. التفت فإذا بالنور يفيض إلى داخل الغار ليكسو قبر توبة بسناه.
وددت لو أنني رأيت ربابًا.. رحم الله عشاقها
كتبتها الراجية رحمة ربها مها أذهب الله عنها الغفلة والأسى([16])
فبالرغم من تداخل الرواية في أساليب وخيوط السرد نجد أَنَّ الميل إلى الاستدعاء للقديم في إطار نظرة إلى الحياة تنسجها الأحلام والأساطير والملاحم والمَثَلَ الخرافيِّ التي تسري في الرواية نجد الجو الصوفي الذي يقوم على وحدة الوجود رغم تعدد هذا الوجود المرئية واختلافها.
وتأتي هذه النزعة الصوفية لتُشكِّل نوعًا من التعزية التي تقف في وجه ما يبدو لنا أحيانًا من عبثية الركض والسعي والتعب.
ويظهر لي أن الكاتبة متأثرة (بألف ليلة وليلة) حيث تنقل من حكاية إلى حكاية أخرى في تتابع وتكامل وغرابة الأحداث وتجاوزها الواقع، والتي تبنى على المثل الخرافي العربي فهي تقوم بأنسنة الجماد والبنات والحيوان وتصل أحيانًا في خلطها الأمور بعضها ببعض وببنائها عالمًا غريبًا حيث الأحداث والوقوع بين أيدي القرصنة والصوص قطاع الطرق وُتَّجار الرقيق خلال البحث عن الحبيب أو الصديق.
تبدأ الرواية بما يبدو حالة تداخل بين الحلم والواقع حين تقول “أبصرت طريقًا ثم أضعته فكأنما شيء من خيال جال في خاطري فطاف بي لأتبعه”([17]).
فِإنَّ هذا الحلم يجر وراءه بطل الرواية إلى عوالم غريبة أبعد من الواقع وفوقه أحيانًا. وتنطلق رحلة الغرابة عندما رأى البطل سجادة رائعة من نسيج بالفتاة (سُلِّي) تحمل صورة نساء ورجال في ثياب فاخرة وقصور بديعة لكن كل من ظهر فيها قد بدأ على وجوههم علامات الحزن والأسى وسأل عن ذلك فقيل له أنهم سجناء.. قد سخنتهم (سُلِّي) في نسجها.
ليجد البطل هناك كتابًا يقرأ فيه عن البساط الذي “إذا رأيته خلته بستانًا من الزهور”. وهنا تناص الروائية مع القرآن الكريم ) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (([18]).
ومن الواضح بمكان أن الرواية النسوية السعودية (وظفت النص الديني على مستويات عديدة كتوظيف البنية الفنية واستحضار الشخصيات الدينية وتصوير البطل في ضوئها وبناء الأحداث الروائية في ضوء القصة الدينية بالإضافة إلى التنوع في إدخال النص الديني في الرواية) ([19]).
فالاستدعاء الديني غالبًا ما يكون قائم على الاقتباس أو التضمين من القرآن الكريم والحديث الشريف أو الأخبار الدينية بحيث ينسجم مع السياق الروائي ويؤدي غرضًا فكريًا أو فنيًا.
وفي رواية (البحريات) لأميمة الخميس..
تتسم الرواية بصيغ التحول في المكان وخاصة مدينة الرياض بما فيها من خصوصية الإنسان كفاعل تستوي عبره أنماط وصيغ التحول. فالمكان يعطي ماهية ساكنيه وتظهر المفارقة بين آثار وتجليات التزاوج بين (الصحراء/ والبحر) ويعبر عن المفارقة من خلال الوقائع والأحداث التي تعيد الكاتب استثمارها في مضمار سردي روائي في اسياق الخطاب السردي المحلي الذي بدأت نماذجه تقارب تخوم الأمكنة وتصعد في كشف أنساقها الاجتماعية وإضاءة مضمراتها عبر الحفر والتعرية والتقاطع والتكثيف لحضور الأمكنة وصيغ الالتزام باشتراطات ذلك الحضور في صنيع سردي جمالي يتفيأ المكان ويحرك مستقراته فقد جاءت رواية (البحريات) حفيِّة بهذه المهارات السردية إذ اتخذت الكاتبة البحريات مدخلاً تحفر به قاع المكان وتوقظ به ركوده.
فهن المضاف الإنساني الاستثنائي إلى الصحراء والطارئ بثقافته ووجد أنه المضمخ برائحة البحر وأسراره وحكاياه.
فالبطلة (بهيجة) عميدة البحريات “كانت فاقعة – مفرق شعرها الكستنائي المشقر يلتمع تحت غطاء رأسها (التل) الأسود الشفاف الذي يغطي رأسها ومن ثم يستدير حول وجهها وعندما يلامس وجنتها البيضاء المرتفعة اللامعة كان يزيدها غرابة لكنها كانت فاقعة وناتئة على تلك الغرفة في البيت الطيني للمزرعة الواقعة في الطرف الجنوبي لمدينة الرياض”([20]).
في النص السابق نلاحظ الاستدعاء من القرآن الكريم لفظًا ووضعًا في وصف بهيجة )قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ(([21]).
فهذه البحرية الأولى التي تستهل بها الرواية ومنها يبدأ الغوص في المكان “لكن بهيجة لم تستطيع أن تروض ألوانها البحرية، وارتداد الموج في بحة صوتها لم تكن تملك في موروثها الجيني تلك الإشارات الخفية التي تخبرها عن الذئاب المتربصة خلف الأبواب الخشبية المصنوعة من شجر أثل مشبع بذاكرة العطش”([22]).
إنَّها النفس المحملة بالوصف والسواد المثقل بالمرارات، المفارق بين بياض بهيجة وجذورها البحرية ويلقي بظلاله على وجنتها البيضاء وهو بداية انسراب الدلالة النصية الرمزية في المتن السردي.
في استدعاء إيماني آخر (أخذ أنين جرح سعاد في الارتفاع حتى أنها لم تعد تسمع بوضوح صوت الأسود التي تزأر لواعج غربتها في حديقة الملز… كانت تمسك مسبحتها بيدها.. وتهمس يا نور… يا نور. أخرجني من الظلمة.. يا نور أشعل دوامسي.. أنقذ روحي التائهة من جحيمها يا نور النور أنقذني وتذكر أنها استعمت إلى دعاء (ذا النون) في بطن الحوت في المذياع تلك الليلة أخذت تصرخ عسى ربها ينقذها من ظلمتها بدعاء ذا النون (لا إله إلاّ أنت سبحانك أني كنت من الظالمين) ([23]).
كما تنحو الكاتبة إلى استثمار (تقنيات تيار الوعي) في استدعاء مكان بهيجة الأول البحر ومن ثم تفسح أفق التداعي لاستيعاب التفاصيل الأكثر تعبيرًا عن الوجدان البحري واستظهار جدله الذهني في مفردات الحياة اليومية البسيطة التي تَنُّم عن معنى أبلغ تأكيدًا على نزوع تلك الشامية إلى كل ما يجعل إلى دفئها العائلي وحمى رابطة الأمومة الذي يخترقه منفى أم صالح عندما تسترجع ذاكرتها فصولاً من ذلك التنافر الضدي بين وجداني (البحر والصحراء) في صيغ مظهرية بسيطة تنطلق من أعماق نفسية دفَّاقة (مازالت تذكر بحرقة مرطبانات المكدوس والزيتون المعقود التي كانت تصلها من الشام من أمها بين فينة وأخرى فتصفها على الرف الخارجي لغرفتها فتقوم أم صالح بالتخلص منها بحجة أنها تفسد الممر برائحة الثوم”([24]).
كانت بهيجة تُحِسُّ بالألم والحزن والفقد. كما نجد أيضًا نموذجًا آخر من الاستدعاء القرآني في رواية (طريق الحرير) لرجاء عالم وهو ما جاء مختلفًا عن النمط المعتاد لتوظيف النص القرآني في الروايات السعودية النسوية فهذه الرواية توظف الآيات بشكل مكثف بطريقتين:
1- عناوين الفصول 2- تضاعيف الصفحات
تدور فكرة الرواية على عالم الغرائبيات والأساطير والسحر والشعوذة، والعقائد المخالفة وتناسخ الأرواح. وهي تنكئ عليها كثيرًا في توصيف الشخصيات على مَرِّ التاريخ والمزج بين الواقع والماضي عبر اللغة الغامضة([25]).
وحشد الموروث من نصوص وحكايات بجميع أشكالها في جو من الغموض والألغاز في مدخل الفصل الأول.
1 60
30 600
30 02
5 اللهم سخر لي أعدائي كما سخرت الريح لسليمان
4 بن داؤد عليهما السلام
ولينهم لي كما لينت الحديد لداود عليه السلام.
وذللهم لي كما ذللت فرعون لموسى عليه السلام.
وقهرهم لي كما قهرت أبا جهل لمحمد r
بحق كهيعص حم عسق.
صمٌّ بكمٌ عميٌّ فهم لا يرجعون
صم بكم عمي فهم لا يرجعون”([26]).
نحن أمام سياق سحري مشعوذ بغير رابط فني واضح فقد حشرت الروائية النص القرآني في وصفة سحرية حاجب للرؤية الفنية والنقدية على أن تأتي بما هو فائدة للقارئ المتلقي. فلم يكن الاستدعاء لهذه الآيات له فائدة تذكر ولا فكرة تدل عليه.
بالإضافة إلى ورود آيات القرآن الكريم في الرواية وسط جو من أقوال الشعراء وسحرة ومنجمين، ألفاظ غامضة لشخصيات أسطورية يوحي بأنها مجرد مأثور فحسب لا أنه نص مقدس يحفظ قداسة في استدعاء يحفظ مكانته.
ومن أمثال الاقتباس المتجاوز ما جاء أيضاً في نفس الرواية.
نقرأ المقطع التالي “علت آيات سورة العنكبوت، كانت تخرج من جوف حبشي وتفر من أطرافه كجيوش نَمْلِّ “وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون. بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتو العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون” وكان حبشي ينعس في جلسته بين الرجال ومن طول سهاده في تعب رسله وخدمتها غرق في النوم وفاجأت الآيات المجلس، فسكب عامل القهوة حرّها لحجر الحبشي”([27]).
وهذا الاستدعاء يمكن الإشارة إليه في سورة العنكبوت (آية 48/49) في قوله تعالى: )وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ( في هذا الاستدعاء إدراج لعالم غير واقعي ولا منظور وادعاء مخالف لمنزلة القرآن العظيم([28]).
(ب) الاستشهاد:
هو نوع من التوظيف يأتي على شكل الاستدلال بالنص القرآني أو الحديث الشريف لأداء موعظة أو تقديم نصيحة أو تأكيد موقف. مما قاله أبو هلال العسكري عن الاستشهاد “وهذا الجنس كثير في كلام القدماء والمحدثين وهو أحسن ما يتعاطى من أجناس صنعة الشعر ومجراه مجرى التذيل لتوليد المعنى وهو أن تأتي بمعنى ثم تؤكده بمعنى آخر يجري مجرى الاستشهاد على الأول والحجة على صحته”([29]).
وورود النص القرآني في الرواية السعودية النسوية يمثل واقعية السرد نظرًا لأنها تصور مجتمعات مسلمة وتحكي عن شخصيات مسلمة والمبدع يتمثل شعائر دينه الإسلامي ومنها أداء النصيحة والتذكير والتبليغ والرجوع إلى القرآن الكريم والحديث الشريف.
ويأتي التوظيف والاستدعاء للنص الديني على نوعين:
1- متطلبات سياقية وهو ما يرد في بنية السرد إخبارًا أو وصفًا.
2- متطلبات شخصية وهو ما يرد على لسان الشخصيات في الحوار.
ويعد هذا الشكل من الاستدعاء توظيفًا فكريًا في مقابل الأداء الجمالي الذي ينهض به الشكل الأول “الاقتباس” فهو يحمل دلالة على وعي الشخصية وفكرها وبعدها الديني والاجتماعي.
إذا نظرنا إلى نماذج هذا الشكل من الاستدعاء، بالاستشهاد في رواية (توبة وسُلِّي) لـ (مها الفيصل).
“كان لي إخوة كثيرون ولكني أحببت رضوان أخي. فكان لي بمثابة هارون لموسى قربته إِلىِّ لا يفارقني أينما ذهبت كنت لا أصبر على بعده كان رضوان رجلاً عدلاً عفيفًا به سماحة، فسبحان المعطي بغير حساب جبله على الرفعة في كل الأمور وعلى قدر ازدياد حبي له وتنامي ثقتي به كان الغيط في قلوب بطانتي وأهلي عليه.
قالوا: لقد اصطفاه لخبير كبير .. لقد فضله علينا.
وبلغ الحسد ما بلغ. خرج أخي ذات يوم في رحلة صيد وقد كنت حذرته من ذلك مرارًا لما عرفت من شرهم ولإشفاقي عليه من أن يصيبه ضرر. أعادوا رضوان إليِّ من رحلة صيده هذه ميتًا قالوا: إنه وقع لدى جفول فرسه عند رؤيته لثعبان فتهشمت رأس أخي إثر ذلك.
قلت لهم “بل سولت لكم أنفسكم أمرًا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون”.. بكيت عليه ليالي ولكنني آثرت التجلد حتى لا يشمت بي أحدًا..” ([30]).
في هذا المقطع نجد استدعاء لقصة يوسف عليه السلام وآية من (سورة يوسف آية (18) ليأتي الاستدعاء مصورًا للبعد النفسي والديني لشخصية سلوان الملك. فقد جاءت الآية موافقة مع السياق العام متوافقًا للحدث والقص وتأكيدًا لموقف.
ويأتي توظيف الاستدعاء أحيانًا منطويًا على مخالفة عدم الدقة في إيراد الآية بلفظها الصحيح. كما في رواية “ومات خوفي” لظاهرة المسلول “وتراءت لي الآية الكريمة )لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها( إن بوسعي الاحتمال لم يكلفني ربي بهذا إلا لعلمه أن بوسعي الاحتمال يا رب يا رب أنني أثق بك يا رب بقدرتك انجدني”([31]).
فالنص به استدعاء من (سورة البقرة لآية رقم 286) ) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (فقد وردت على لسان الرواء بضمير المتكلم وهو يصف لحظات الضياع التي كان فيها في الصحراء وحيدًا تائهًا وسط الوحشة والظلام وقد جاءت الآية هنا بوصفها حدثًا لا حديثًا إذ يقول أنه في تلك اللحظة من الضنك تراءت له هذه الآية.
الحديث الشريف:
يمثل الاستدعاء للحديث الشريف نسبة أقل حضورًا في نصوص الروايات موضوع الدراسة. وقد تراوحت درجة صحة الأحاديث الموظفة في الاستدعاء ما بين الصحة والضعف والموضوع. كما جرى التوظيف في الاستدعاء عبر شكلين هما:
1- الاستشهـاد:
يأتي الاستدعاء للحديث منسوبًا إلى الرسول r نسبة تصريحية أو نسبة مفهومة من السياق العام في رواية “اللعنة” لـ سلوى دمنهوري: التي تهتم بالبعد الاجتماعي فيها أثر العادات والتقاليد المميزة للبيئة المحلية فأحداث الرواية تقع في جدة فالرواية تحكي قصة شاب اسمه (شامل ديمرين) ومهنته طبيب عاد من أمريكا إلى جدة وأثناء عودته إلى موطنه يتذكر طفولته عندما كان ابن السابعة وهو أكبر إخوته. يحدث لهم حادث حين عودة أسرة شامل من المطار تتعرض لحادث سير فيموت كل أفراد الأسرة ما عدا “ميرامار” وأثناء البحث عنها يتعرف على امرأة تدعى (شروق) من خلال زياراتها له في العيادة الطبية وهي المتزوجة من رجل سبعيني اسمه (يوسف الملاحي).
وهذه العلاقة المحكومة بجمال المرأة لم تتطور إلى حب إنما اقتصرت على إعجاب كل منهما بالآخر فيقول (شامل) في حوار مع شروق “الآنسة تهاني تعجبني و…” ([32]).
كما أن جاذبية المرأة يحكمها أولاً البعد الجسمي أما جاذبية الرجل فترجع إلى البعد المعنوي، إذًا سر إعجاب (شامل) بـ (تهاني) يعود إلى جمالها الجسدي، أما إعجاب (تهاني) بـ(شامل) فيرجع إلى ما يتمتع به من دماثة أخلاق. وهذه العلاقة تثير غيرة (شروق) من (تهاني) فتحاور نفسها قائلة “حتما سحره وجمالها”([33]). مما جعلها تحاول الإنقاص من قدر جمالها بتوجيه نظر (شامل) إلى أصلها فتقول له “لا تخدعك المظاهر شامل. ولا الجمال.. فقط الأصل والأخلاق.. فلتبتعد.. دكتور.. ابتعد كي لا تحرقك نار الظلالة.. لقوله صلى الله عليه وسلم “تخيروا لنطفكم فإن العرق دساس”([34]).
وفي الفصل الثالث حرص (شامل) على الصلاة عندما يرتفع صوت الآذان فيخاطب نفسه قائلاً: “الحمد لله.. هي فرصة للصلاة” ([35]).
يأتي الاستشهاد في رواية (آدم يا سيدي) لـ أمل شطا
فشخصية (عائشة) على مدى 235 صفحة من بداية الرواية حتى نهايتها لا تزال تنبت أحاسيس عائشة بنبرة الولاء، والاحتماء في كنف الرجل (وأي رجل هذا) إنه الرجل الفقيد الرجل الغائب، مع الإسراف في تفسير القيود التي كانت تضيق بها ذرعًا تستر عائشة على عيوب الزوج الذي كان عقبة وأحيانًا تشير إليه أنها قسوة على سبيل (اذكروا محاسن موتاكم) ونلاحظ طغيان التقريرية والمباشرة على بوح عائشة فما تعتقد المرأة قيدًا هو حماية لها وما تتذمر منه هو نعمة لن تعرف قدرها إلا بعد أن تفقدها: “كنت ترعاني بمحبتك وتدرأ عني المخاوف وتحميني وتحتويني تحت جناحك، ولا أدري كيف كنت أضيق بهذا الحب وهذا الاحتواء واعتبرته نوعًا من السيطرة وحب التملك وقيدًا وعقبة أمام حريتي وانطلاقي مع أنك ما كنت يومًا عقبة وإنما حاجز أمن بيني وبين المخاطر، ولكني لم أستوعب ذلك إلا بعد زمن طويل”([36]).
في المقطع السابق نرى أن الكاتبة تستدعي ضمنًا الحديث القدسي.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله r يقول: “قال الله عز وجل: يا ابن آدم، إنك ما دعوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك، يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة”. رواه الترمذي وقال حديث حسن([37]).
فقد حملت الرواية اسم عنوانها “آدم يا سيدي” وحرف النداء للبعيد كما يمكننا أن نحلل العنوان على مستويين.
1- من خلال العلاقة الخاصة للبطلة فقطبي العمل يتمثلان في (عائشة وحمزة) (عائشة) بطلة الرواية وتحمل دلالة حضور يضاف إلى حال زوجها اسم فاعل من الفعل (عاش).
2- حمزة متوفى لكنه يشكل مصدر آدم في قوته الخفية للبطلة ويبدو تألقها به خلال محاولتها استبقاءه حاضرًا يجعله المخاطب في الرواية.
لقد مثل العنوان تركيزًا لفكرة العمل وإحياء للغائب من خلال اسمي آدم وسيدي بما تحمله دلالة الاسم عمومًا من ثبات وعدم اقتران الزمن فقرار العنوان وثباته هو قرار (حمزة) في نفس البطلة كذلك فإن استخدام ذات النداء للبعيد (يا) ووضع النقاط الفاصلة بين الاسمين يعكس إحساسًا بالفقد بلا شك.
ففي الفصل التاسع نجد عبارة (يا سيدي) التي اشتملها العنوان ترد لأول مرة “آه يا حمزة.. آه يا سيدي وحبيبي” وبعدها بسطرين: “كنت آدم، وكنت إلى جوارك أنثى متوِّجة”([38]).
من خلال عودتها للحديث عن حياتها ومشاعرها تجاه زوجها حمزة وبعد ذلك مباشرة تتحدث عن عدنان بعد أن تخرج وانتهى من دراسته واكتملت رجولته فيمكن اعتبار الفصل التاسع ولادة حقيقية لآدم جديد، ذلك الذي سيحمل عن حواء عناء وأعباء المسؤولية، فقد كانت الكاتبة تختار التقديم لكل فصل بنص محوري من داخل ذلك الفصل فإنها قد اختارت في الفصل الأخير التقديم بآخر عبارتين في الفصل العاشر وهي آخر عبارتين أيضًا في الرواية([39]).
“الحمد لله ألف مرة، الحمد لله الذي جعلنا مسلمين”.
والتي يمكن اعتبارها إحكامًا لدائرة التولد الحكائي في الرواية كما تمثل هذه النهاية خلاصة للرواية وعودة إلى نقطة البدء مع إعطاء عبرة عامة عن الحياة.
2- الاقتباس:
لتوضيح هذا الأسلوب نقول أن المبدع يميل أحيانًا إلى دعم فكرته أو تحسين أسلوبه وأقوى ما يكون دعم الفكرة إذا استند الأديب في قوله على آيات من القرآن الكريم أو فقرات من الحديث الشريف فإذا قال (الأديب) معرض كلامه قال (عَزَّ وجَلَّ) أو قال عليه أفضل الصلاة والسلام ثم جاء في سياق كلامه بشيء من القرآن الكريم والحديث الشريف.
فلا يكون للنص أب واحد أو أصل واحد بل مجموعة من الأصول والأنساب، على حد قول الناقد (جيرار جينيت) وقول الإمام على بن أبي طالب “لولا أن الكلام يعاد لنفد”([40]).
في رواية “امرأة على فوهة بركان” بهية بو سبيت.
إن الرواية تمكنت في صفحاتها الأولى أن تقدم سردًا ممتعًا يرجع سبب هذه المتعة هي توظيف العادات التي رصدتها الكاتبة في سياق بداية الرواية فهي تذكر وسيلة المواصلات آنذاك التي تعرف باسم القارئ وهي عبارة عن حوض خشبي مربع الشكل يتسع لخمسة أشخاص يجرها حمار كذلك الوقت لا يعرفونه إلا بدخول الشمس وارتفاعها وغيابها أو سماع صوت المؤذن. إضافة إلى ذلك تذكر عددًا من السلوكيات والعادات لاسيما ما يتعلق منها بالمرأة وإقامة أعراس الزواج قديمًا حيث تذكر أنه من المعيب جلوس الفتاة أمام النساء عند زيارتهن لبيتها حتى لا نسمع كلامهن، الأم تقول لابنتها: “لو سمعك أبوك ترفضين الزواج وتريدين التعليم لذبحك”([41]).
فالبنت لا تشاور ولا يؤخذ رأيها عند الزواج لذا عقد قرانها وأصبحت زوجة دون أن تعلم بذلك إلا في اليوم التالي وإذا أرادت أن تسأل “فمن كان في مثل سنها أي (13 سنة) لا يسأل بل يسمع ويسكت”([42]).
فالحديث الشريف يقول عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال “الأيَّمَ أحق بنفسها من ولهيا والبكر تستأمر وإذِّنها سكوتها” أخرجه أبو داود والنسائي بإسناد جيد بلفظ “ليس للولي مع الثيب أمر، واليتيمة تستأمر وصمتها إقرارها”([43]).
وفي السياق نفسه تذكر الروائية عددًا من المواقف التي توضح العلاقة السائدة بين الرجل والمرأة ورأي المجتمع في ذلك “فالبنت ما خلقت إلا للرجل وما قعودها في بيت أهلها إلا لضيفة عابرة والرجل لا يلقي السلام على زوجته”([44]).
قال أحمد في مسنده (27118) حدثنا أبو المغيرة، قال حدثنا الأوزاعي، قال حدثني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري، عن جدته، أم سُلِّيم قالت كانت مجاورة أم سَلَمَة زوج النبي r فكانت تدخل عليها فدخل النبي r فقالت أم سليم يا رسول الله أرأيت إذا رأت المرأة أن زوجها يجامعها في المنام أتغتسل؟
فقالت أم سلمة تربت يداك يا أم سليم. فضحت النساء عند رسول الله r فقالت أم سليم إن الله لا يستحي من الحق وإنَّا إِنْ نسأل النبي r عما أُشْكِّل علينا خير من أن نكون منه على عمياء. فقال النبي r لأم سلمة بل أنت تربت يداك نعم يا أم سليم – عليها الغسل إذا وجدت الماء فقالت أم سلمة يا رسول الله وهل للمرأة ماء فقال النبي r فأني يشبهها ولدها هن شقائق الرجال”.
في رواية (خاتم) لرجاء عالم:
الشيخ نصيب يبدو الشخصية الأقوى والمركزية التي تتحرك عبرها الأحداث “لم يبح الشيخ نصيب بآلامه ولا حتى لأقرب قريب كان يتسلم لذلك الرفض الرابط في ناموسيته… برق عين الشيخ نصيب هذا الذي ختم على القادم مع ارتفاع الآذان لصلاة الفجر في الحرم في صمت كان قد قطع الحبل السري أغلق على السرة بريال فضة وختم على النزف بالعنبر الأسود” أشهد أن لا إله إلا الله والله أكبر سميناه خاتم” كبر الاسم ثم ترك لزوجته أن تحكم عليه القماط”([45]).
لقد أفادت هذه الاستدعاءات للحديث النبوي الشريف بشكليها الاستشهاد والتوظيف في إعطاء صورة واقعية عن البلد المسلم عن طريق بيان شدة ارتباط الشخصيات الإنسانية في الرواية بنصوص الوحيين. كما يلاحظ أن الاستدعاء الكلي للحديث النبوي الشريف الذي يأتي على هيئة التأثر والاستحياء هو شكل ظهر في القصة القصيرة فقط كما في قصة (ما لم تقله شهود العيان)، التي كانت في مجملها استلهامًا لحديث الصخرة حيث ينجي العمل الصالح من المضائق دون ذكر صريح للنص([46]).
2- دلالة الاستدعاء الشعري:
يعد استدعاء الشعر في الرواية النسوية السعودية بأنواعه المختلفة من أوسع أنواع الاستدعاء وذلك لارتباط الفن العربي بديوان الشعر عامة. فالرواية تُعَدَّ ديوان العرب الآن، فقد أرجعت الباحثة (منال عيسى) في رسالتها للماجستير “حول القصة القصيرة في المملكة وأثبتت فيها أن الاستدعاء الشعري هو الغالب في إنتاج الكتاب السعوديين”([47]).
وكان الاستدعاء للشعر يتراوح ما بين الشعر العربي الفصيح والشعر العامي والأهازيج الشعبية، بالإضافة إلى الأغاني والشعر الأجنبي المترجم.
(أ) الاستدعاء على مستوى القصيدة:
وهو الاستدعاء الكامل للقصيدة في الرواية استحياءً لها وتوظيف كامل لأبياتها. كاملة نصًا، أو إشارة، ويمثل هذا النموذج رواية (الفردوس اليباب)، (لليلى الجهني) حيث وظفت فيها ملحمة “الفردوس المفقود” للشاعر الإنجليزي (جون ملتون) ([48]).
وتمثل هذا الاستدعاء فيما يلي:
- الاستدعاء مع العنوان – الفردوس اليباب – الفردوس المفقود.
- الاستدعاء على مستوى الفكرة العامة.
- الاستدعاء للقصيدة في متن الرواية.
وفيما يتعلق بالناحية الأولى نجد أن الرواية (الفردوس اليباب) تشترك مع عنوان القصيدة الفردوس المفقود في المبنى واللفظ عدا اختلاف بسيط في كلمة مفقود إلى كلمة (يباب) بالرغم من أن المفقود هو اليباب، ونلاحظ أن الرواية والقصيدة تقوم على (المأساة) فهي العمود الفقري لكلا الرواية والقصيدة.
يأتي الاستدعاء على مستوى الفكرة العامة فالملحمة تدور حول أمور غيبية مثل الجنة والنار والشيطان والملائكة والإنسان في هذه الملحمة هو محورها كما أن الملحمة تتناول مسألة المعصية وهبوط آدم من الجنة ودور الشيطان في الإغواء كما تحتوي الملحمة على كثير من الأساطير والآراء الفلسفية.
أما الرواية فكان استدعاء الهبوط من الجنة بعد معصية الأكل من الشجرة المحرمة عليه. بالإضافة إلى استدعاء الرمز من قصة الملحمة من حيث دلالتها على انهيار الأحلام وضياع النعيم وهذا ما ورد على لسان بطلة الرواية (صبا) ([49]).
ثالثًا: استدعاء القصيدة في متن الرواية وجدنا الروائية تستشهد بنصوص من القصيدة كما في الفقرة التالية.
.. الفردوس المفقود آدم وحواء والشيطان يسائل نفسه قرب جنة عدن:
أي شقي أنا! في أي اتجاه ينبغي أن أحلق
غاضبًا بلا حد ويائسًا بلا نهاية؟
وفي أي اتجاه حلَّقت ثم جحيم أنا ذاتي جحيم
…. ألم تبق فسحة للتوبة أو الفقران
.. إذن وداعًا للأمل، ومع الأمل وداعًا للخوف.
وداعًا للندم!” ([50]).
في الفقرة السابقة نجد أن، الروائية استشهدت بمقطع من القصيدة([51]).
وجدنا أنَّ السرد يَكْمُن في استدعاء الحزن الطاغي واليأس المفرط والحيرة الشديدة عبر صيغ الاستفهام وهو ما تعاني منه البطلة نفسيًا حين تواجه صدمة عنيفة، ومصير مجهول بعد الوقوع في الإثم، وتخلى صاحب الإثم عنها.
ويتجلى الاستدعاء بطريقة أخرى في كثرة تكرار عنوان القصيدة (الفردوس المفقود) في صفحات الرواية، بعد أن جعلته اسمًا على المكان، الذي كانا يلتقيان فيه “الدانتيلا والشموع والفردوس المفقود ذهبت الدانتيلا، وبقيت شمعة، والفردوس المفقود”([52]).
“يا الله الفردوس المفقود وآدم وحواء والشيطان. دائمًا آدم وحواء حتى الكون بدأ بآدم وحواء وشيطان وفردوس مفقود. ولا أتذكر كيف تفتق الاسم في ذهني، هتفت في جذل:
وجدتها (Paradise. Lost) الفردوس المفقود على الطرف الآخر من الهاتف ضحكت خالدة.
ألم أقل لك ستموتين وأنت تحلمين؟ الفردوس المفقود؟ ما أعجب هذا الاسم”([53]).
ومما سبق نستنتج ما يلي:
- استدعاء عنوان الملحمة، وفي الفقرة الثانية، نجد ذكر ذلك باللغتين العربية والإنجليزية.
- تكرار الاسم ثلاثة وعشرين مرة في الرواية مما يدل على مدى الاستدعاء النصي بين الرواية والملحمة بوصفها ظلاً جرى استحياؤه في الرواية.
(ب) الاستدعاء على مستوى بيت الشعر:
يأتي الاستدعاء للبيت الشعري في الرواية النسوية السعودية وأكثر ما نجده في رواية (توبة وسُلِّي) (لمها الفيصل)، ورواية (بيت الطاعة) لـ (منيرة السبعي). فقد جاء الاستدعاء متراوحًا بين السلب والإيجاب. ففي رواية (توبة وسُلِّي) سألتني سارة:
– ما كان اسمها؟
قلت
– ريحانة.
تابعت سارة سائلة: وهل كان بها ما يميزها؟!
استغربت سؤال الفتاة وقلت:
أو يطلب المرء تميزًا فيمن يحب؟ ثم أخذت أغني لها…
قد يختفي المرء الثوب منطويًا
تحت الغبار.. ولكن عنده عهد
من تكن ترية الأعتاب مسكنه
عند الصديق نتاج ترابه شهد([54]).
أكملت بعدها قصتي قائلة:
فقد مضى الملك في طريقه بقلب قوي وعزم أكيد”([55]).
في رواية البحريات لأميمة الخميس.
تأتي الروائية في أول فصل لها.. بهيجة.
“دعاني من نجد فإن سنينه .. لعين بنا شببا وشيبتنا مردا
بلاد بها تلقى الفتاة مشيخة .. وتلقى سري القوم تحسبه عبدا
كانت ماقعة مفرق شعرها الكستنائي المشقر يلتمع تحت غطاء رأسها (التل) الأسود الشفاف.
استدعت الروائية الأبيات الشعرية تناسب الموقف للبطلة في الرواية فالشاعر (الصمة) (بن عبد الله القشيري) من شعراء العصر الأموي قد خطب ابنة عمه فاشتط عليه عمه في المهر ورغب هو إلى أبيه في أن يسوق إلى عمه المهر الذي يطلبه فبخل عليه فخرج مغاضبًا لأبيه وعمه وارتحل إلى طبرستان فأقام بها حياته فهو تارة يحن إلى (نَجْد) لأن بها أحباءه وتارة يذم نجد لأنها موطن هذين الشيخين اللذين فرطا فيه من أجل بُعران: هذا فَرَّط فيه جشعًا وطمعًا فيه ضنانة وبخلاً.
وجه الاستشهاد: انتصاب (سنينه) لأن اسم (إن) وعلامة نصبه الفتحة الظاهرة على النون لأن النون عُدت كأنها من أصل الكلمة نحو غسلين ولهذا لم تحذف للإضافة وجاء في الحديث الشريف “اللهم اجعلها عليهم سنينًا كسنين يوسف” في رواية تنوين سنينًا ومعلوم أن مجيء النوم في (سنين) من غير تنوين لإضافتها إلى الهاء([57]).
وفي الفصل الأخير من الرواية نفسها تستفتح الروائية أول الفصل
أكرر طرفي نحو نجد وإنني .. عليه وإن لم يدرك الطرف انظر
حنينا إلى أرض كأنَّ ترابها .. إذا مطرت عود ومسك وعنبر
في مستشفى (منيابلس) كانت تشكو من ساعات الصمت الطويلة التي أعقبت ارتدادها بقوة إلى الداخل ظلت (فاطمة) ذلك الوجود الدافئ المؤنس ولكنه لا يأخذ كثيرًا من وحشتها كان وجود فاطمة يشبه وجود مخلوق أليف وادعٍ وصامت. لا يقدم لك كثيرًا من الأنس ليس يقدم أكثر من حضور طيفي باهت بالأنس البشري”([58]).
البيتين لأبي “النشناش النهشلي” وهو من الشعراء الصعاليك في صحراء نجد هربًا من السلطان ويقال أنه ألف الظباء. وألفته:
ألا يا ظباء الوحش لا تشهرنني
واخفينني إذا كنت فيكن خافيا
أكلت عروق الشرى معكن والنوى
بحلقي نور الفقر حتى ورانيا ([59])
فهذا التركيب الروائي والانفتاح على ديوان العرب الأول الشعر والحوار والجدل والتأويل يجعل من الرواية وحدة متكاملة في سرعة إيقاع السردي وحيوية إحداثها كما تمكنت الروائية من الكشف عن الأبعاد النفسية العميقة لشخصياتها وعن التباس علاقتها وعن ثقافة المكان في الرياض وما تمثله للشخصيات في صناعة سردية اتخذتها الرواية لبناء متخيل تتقاطع فيه أشكال مختلفة من الفنون القولية والبصرية. ولعل رواية (توبة وسلِّي) لـ (مَهَا الفيصل) تنهج المنهج نفسه فيما يتعلق بالاستغراق في المكان البديل، حيث تؤسس لمكان خارج الواقع حدوده ذاكرة مثقلة بالرغبة في الخلاص من ضيق المكان إلى رحابة الحياة فأحداث الرواية تدور في فضاء يطلق لا يختزل أي إحالات اجتماعية مباشرة رغبة في تأكيد كونية الفعل متخذة من فكرة التطهر من اجتراح السيئات مدخلاً للبحث عن الخلاص من القهر وفقدان الأمل ولتأكيد كونية التطهير يغيب المكان بمضمونه الواقعي المعاصر ليحضر المكان المفرغ من أي دلالة واقعية لتصبح الخطاب كما توحي به الرواية غير احتجاجي وغير تصادمي منسجمًا مع التكوين الكلي للرواية.
3- دلالة الاستدعاء الْبَصَرِي والسمعي
كشفت الدراسات السردية المتخصصة أنَّ هناك ضربين من السرد في الرواية هما: (1) سرد شفاف، (2) سرد كثيف فحين يختفي الراوي وراء الأحداث، ويتوارى إلى أقصى حد ممكن لصالح الحكاية.
يكون السرد الشفاف، وهو أن تكون الأحداث تعرض نفسها دون أن يشعر المتلقي بوجود الراوي. كوسيط سردي بينه وبين الأحداث المتخيلة. أما حينما يشير الراوي إلى نفسه كثيرًا بوصفه منتجًا للأحداث، ومبتكرًا للحكاية ومتحكمًا بحركة الشخصيات، ومصائرها فإن المتلقي لا يندمج مع العالم السردي التخيلي ولا تتحقق شفافية الحكاية فيتبدد الإيهام وتتكسر مقوماته، ذلك لأن الراوي يتدخل متحدثًا عن نفسه وعن دوره في العالم التخيلي “مبديًا ملاحظات حول كل شيء يتصل بعملية التأليف، وهنا يظهر السرد الكثيف واصطلح على النوع الأول من السرد Covert وعلى الثاني بـOvert) ([60]).
فصياغة الرواية وما تحمله من شعرية ونثرية الموحي، والصور المكدسة ولحظات التأمل الموضوعي تبعدنا عن الواقع وأحداثه فنعيش في ظلال اللغة الشعرية الروائية. فالرواية تبرز من خلال شكلها الذي يتميز بمرونته، وانسيابيته (لكن تنوع الشكل الروائي وتجدده الدائم وقدرته على الانفتاح يؤثر فيها عوامل عديدة لعل أهمها تمرد الشكل الروائي المستمر على ذاته استجابة لظروف البيئة المحلية، وطواعيته، وقدرته على استلهام أدوات وتقنيات فنية متنوعة من الشعر، والدراما والسينما والتراث القصصي، الشفاهي [وتفاعله مع تطورات الفكر الأدبي المحلي والعالمي وأحسب أن كل ذلك يتكون من خلال التفاعل الدائم مع تنوع تصورات الفكر البشري وتصويره]([61]).
ويتجلى الاستدعاء في رواية (بيت الطاعة) لـ. (منيرة السبيعي) بين السرد والوصف والشعر والرسم والسينما والصور الفوتوغرافية فهي كتابة تتحرك على السور الفاصل بين هذه الأنواع والأجناس. (فنورة) تتجه لمقابلة (نوف) العاشقة لزوجها (إبراهيم) وهي في الطريق “استدعت السائق، وخرجت وفي تلك الأثناء تذكرت أنها لم تتصل بالمشرفة.. ما أن أنهت مكالمتها حتى عاجلها السائق بسؤاله.
To the school mam? إلى المدرسة يا سيدتي؟
No Whily، air port way لا يا ويلي.. إلى طريق المطار
Sorry mam، but are you traveling?
آسف يا سيدتي ولكن هل أنت مسافرة؟ سألها تشكك وفضول.
No، and don’t ask?
لا ولا تسأل، ردت بضجر.
“معه حق فعلاً” حدثت نفسها.. مضيفة، أكيد لاحظ شكلي المختلف وعباءتي الخاصة بالمناسبات هذه. ثم أقول له اذهب إلى طريق المطار وفي هذه الساعة المبكرة. أكيد يتساءل.! نظرت إلى ساعتها مازال الوقت باكرًا.
Open the Radio..
(افتح المذياع) قالتها له، متجاهلة فضوله.. خسارة لو كان لدي (سي دي) لأغاني (فيروز) الآن، هذا هو وقتها.. قالتها (ففيروز) مرتبطة عندها بالصباح. حيث تعود والدها – يرحمه الله – على سماعها في أيام العُطل..
يا ليتني تمنيت مليون ريال معقول فيروز؟! وما لبثت أن سخرت من تعجبها.. معلقة طبيعي جدًا، الجميع يعرف أن أغاني فيروز صباحية هيه المهم أنها تغني لي الآن ارفع الصوت يا ويلي، قالتها آمرة السائق:
بعدك على بالي .. يا قمر الحلوين
يا زهرة تشرين.. يا دهب الغاليين
بعدك على بالي .. يا حلو يا مغرور
يا حبق ومنثور .. على سطح العالي
هاتفها يرن، كانت رباب هي المتصلة استشاري الأمراض النفسية والعصبية. ضحكت نورة من المسمى معلقة.
“خوفيني يا بنت – عصبية ونفسية يا ربي”([62]).
فإذا كانت الخاصية الفنية المهيمنة على (بيت الطاعة) تتمثل في التناسل اللاعضوي للحكايات والأحلام فهي كتابة ترفض بحدة كل الحدود والقيود وكل الأسس والتقسيمات فهي تعمل على إشكالية التراسل بين الأجناس المختلفة واللغة المختلفة. تتخلل ومضات النص المعرض الفني التشكيلي (النورة) ولوحاتها الجميلة. وشاشة التلفاز والصورة الصوت في الجوال. والأغاني المحببة وتتعدد اللقطات الشعرية والأغاني حسب الموقف فمن خلاله تجرى مزاحمة السرد وكسر رتابته في لغته من الروائية لمحور الزمن، أو كسرة كما يولد إيقاع حزين يسهم في خلق المناخ القائم ويأتي الاستدعاء للأغنية بديلاً للحركة الروائية (حتى أنا. وعمومًا لا يوجد بالمنزل سوى نحن والخدم وابنتي (لارا)، فزوجي مسافر، قالتها (نورة) وهي تزيح أشرعة الخيمة الأمامية لتتيح مزيدًا من الفسحة في المكان، ثم قامت بإشعال الشموع التي أعدتها وخفضت الأنوار).
أيش النية؟ سألتها ريم ضاحكة..
أبدًا هذا أجمل سئمت التكنولوجيا المفتقدة للروح؛ أجابت وهي تسقط الشموع في إناء زجاجي مُلئ نصفه بالماء؟ لتطفوا فوقه كأنها قوارب مضيئة كالتي شاهدتها من قبل في عروض (يونيفرسال ستوديوز) بفلوريدا.
إذن تحتاجين إلى إغلاق التليفزيون أيضًا قالتها ريم.
لا. عادي إلا الست فأغانيها هي حديث الروح. تأخذني إلى اللاحدود.. البيت بيتك ولكن لا تعب ولا شيء أحب صب القهوة ولا تستعجلي على رزقك.. فبعد قليل ستساعديني في الشيء. ردت ضاحكة.
(لا تُشغل البال بماضي الزمان … ولا يأتي العيش قبل الآوان
واغنم من الحاضر لذاته … فليس في طبع الليالي الأمان!
آه يقتلني ويحييني هذا المقطع. أحب أن أكون كذلك.
وأحاول ولكن (أبو طبيع ما يغير طبعه) فأعود ثانية إلى قلقي علقت نورة على المقطع([63]).
نحن أمام مقطع تَتعَّددُ فيه التقنيات وتتشابك وتمتزج فمن سرد إلى منولوج إلى تيار الوعي إلى تَذَكُّر إلى تسجيل هواجس الذهن في حالات متعارضة عديدة إلى لازمات إيقاعية، ورمزية وفكرية إلى عناصر غرائبية وسحرية إلى رموز شفافة وأخرى كثيفة ومن هذا كله تتولد بنية سردية رامزة ودالة عن قلق وحيرة واندهاش. فالواقع أن استدعاء التراث داخل السياقات السردية هي مسألة في غاية الأهمية ذلك بسبب ارتباطها بالمتلقي إذ أن مقدار تفاعل المتلقي مع الأغنية أو الصورة البصرية يكمن في مقدار الأغنية أو الصورة المستدعاة في السرد. (ففيروز) و(أم كلثوم) مثلاً يمثلان معنى الحب والعاطفة عند المتلقي. فالتعامل الحقيقي مع التراث يتمثل في استخدام معطياته وعناصره “استخدامًا فنيًا إيحائيًا وتوظيفًا رمزيًا لحمل الأبعاد المعاصرة للرؤية السردية بحيث يسقط على معطيات التراث ملامح معاناته الخاصة، فتصبح هذه المعطيات معطيات تراثية معاصرة”([64]).
1- استدعاء الزمن:
(أ) يمكن لنا الوقوف عند أبرز الأصوات إذ بعضها ظاهر وآخر خفي، في تَعَّدّد مستويات الاستدعاء الزمني للرواية النسائية السعودية على النحو الذي برزت فيه تقنيات تيار الوعي التي تستوجب طبيعة زمنية توافق الفرض السردي من تحولات حياتية بارزة عن طريق السرد السريع ومحاولة التذكر أو الاستباق أو الاستدعاء الذي يدل على الانتقال من زمن إلى زمن في لمحة واحدة محاولة الكشف عن ملامح الحياة؛ لذا تبدو ملامح الاستباق الزمني أو ما يسمى باللواحق الزمنية من التوقف الزمني والتوافق الزمني والقفز أشد ارتباطًا بالشخصية المعبرة عن زمانها، أو قلقها في المكان، في رواية (بيت الطاعة) لـ (منيرة السبيعي) الصادرة عام 2007 ورواية (الانتحار المأجور) د. لآلاء الهذلول عام 2004م ورواية (غير – وغير) لهاجر المكي عام 2005.
في (بيت الطاعة) صوت الزمن قاس وحاد وبشع ومؤلم يجعل من الأشخاص تعيش في زمن يهتز فيه الوجود واليقين وترتعد الذات من أعضائها فنورة المثال والجمال، والعفة والطهر وإبراهيم الرجس والخيانة مع (نوف) موظفة البنك ورباب صاحبة (نورة) العاقلة والتي تتزوج من دكتور أردني متجنس بعامل الزمن “قامت جواهر بالسلام على نورة وتهنئتها بسلامتها: يجب أن تنتبهي لصحتك يا نورة، فالإجازة قريبًا جدًا وأهلي كالعادة سيسافرون في بدايتها للخارج وبالتأكيد ستكونين أنت وإبراهيم معهم قالتها، وهي تضع دفاتر طالباتها على الطاولة. والله لا أعلم فأنا أفكر في قضاء الشهر الأول هنا في الرياض، هناك أشياء كثيرة أرغب في القيام بها وأؤجلها للعطلة، ثم تأتي العطلة وتنتهي وأنا لم أُنجز شيئًا” ردت نورة مرتجلة أي حجة لتبرر عدم رغبتها في السفر”([65]).
في مثل هذا الزمن ينتشر القلق وترصد نورة الأنفاس ونبضات القلب في مثل هذا الزمن ينتشر الذعر والرعب والاستكانة والإذعان ويتلاشى التفاعل مع الإجازة وينعدم النمو فتحول الشخصيات إلى مجرد أصوات أو أصداء أو أدوات ويتحول المكان (الرياض) إلى سجن كبير أو زنزانة بلا جدران، ويتحول الوجود إلى عبث ويسيطر الارتباك والفوضى وأوهام وقيود.
في رواية (الانتحار المأجور) – (لآلاء الهذلول)، نجد صوت الزمن عبر الشخصية في مناجاتها الداخلية. تقول:
“عندما دخلت القرية أحسست بأن الزمن قد توقف هنا..” ([66]).
في هذا المقطع (نلاحظ أن الشخصية) كانت تعيش أزمة كبيرة مع الزمن منذ البداية، بل وصراعًا داخليًا جعلها، تنظر إلى الزمن عبر مستويات عدة، من حيث التجاهل والرفض والضياع. كما نلاحظ، أن الزمن توقف فتوقف النمو الحدثي في المكان عبر توقف الشخصية عن الفعل نفسه وحددت من وضعيتها صوتًا آخر يرتبط بطبيعة الفشل النفسي الذي عانته الشخصية في الواقع.
“توقف قلبي عدة ثوان ثم واصل الدق بشدة كدت أصاب بنوبة قلبية من الخوف”([67]).
في استدعاء الصوت لدقات القلب بشدة من الخوف المسيطر على الشخصية التي تعيش زمن فيه الحقائق المتمثلة في التداخل والغموض والتبشير والاختزال والتعسف وهذه مجتمعة تعبر عن حقيقة أزمة الإنسان أو أزمة المصير الإنساني الحادة.
في رواية (غير.. وغير) لـ(هاجر المكي). نرى صوت الزمن في المكان، الذي تصوره الشخصية تقول:
“توقف الوقت في الشقة الخاوية إلا من مراد المحاط بأشرطة الفيديو”([68]).
لشخصية مراد في الرواية صراعها مع الأحداث التي تجعل من المكان (الحائط) تدور حوله الصراعات النفسية عبر استدعاء متصل بالتقنيات الحديثة كـ[رسائل الجوال والإيميلات] التي تحدد المكان وتختصر الزمن وتستدعي الحدث، فليس توقف الزمن في الشقة الخاوية إلا دالة على توقف المكان لأن مجيء المكان خاليًا جعله يبدو مصابًا بالانتهاء وهو تَعْبيرٌ عن الانكسار والشلل العام، نتيجة الهزيمة التي لحقت بالمجتمع والضياع والسقوط وتتصور عجلة الزمن قد توقفت بالكامل، ولهذا تبدو بنائية الزمن الجامد في الرواية النسوية السعودية معبرة عن قلق الشخصية وهزيمتها النفسية أمام قوانين الحياة.
استدعاء الزمن السريع:
يقصد به “الانتقال فجأة من حدث معين إلى حدث آخر بينهما مسافة زمنية معينة”([69]).
فالسرعة في الأحداث الزمنية للرواية النسوية تؤدي إلى تسرع المشهدية للأحداث وفقًا لهذه السرعة. وهذه السرعة تؤدي إلى الاستدعاء للحدث داخل المكان الروائي. في رواية بيت الطاعة لـ منيرة السبيعي نلاحظ أن الاستدعاء لصوت الزمن السريع.
“قلت لك أنا لم أعد (نورة) زمان، فغير أسلوب زمان هذا الذي تُحادثني به لم أعد أخشاك ولا أخشى تحذيراتك ولأثبت لك ذلك فها أنا مازلتُ أجادل فنفذ وعيدك وافعل ما تشاء… فوجئ (إبراهيم) بردودها تلك لم يكن مستعدًا لها فأنهى نقاشه معها بالتهديد “حيلة من لا حيلة له” ثم لبس شماعة وخرج متوجهًا إلى الاستراحة في وقت أبكر مما تعود عليه فالساعة مازالت السابعة مساءً لم يكن هناك أحد من أصدقائه عندما وصل وهذا ما كان بحاجة إليه القليل من الانفراد بنفسه، فتح التليفزيون وصب له كأسًا من الويسكي، وفي الوقت ذاته كان محموله الآخر يرن وهو لا يرد. فقد أخذه التفكير فيما يجري له”([70]).
يظهر الاستدعاء السريع للزمن في رواية (بيت الطاعة) حينما تتذكرة (نورة) حبها (لإبراهيم) وإخلاصها له وخيانة (إبراهيم) لها بعشقه (لنوف) إن قفز الشخصية (نورة) على الحدث والمواجهة (لإبراهيم) في زمنها الحاضر فمن خلال رؤية (نورة) للحدث والمكان سرعان ما تتذكر ذلك التاريخ القديم في (بيت الطاعة) المتصل بحياتها الماضية. وهذا يعود إلى مدى بحث الشخصيات في الغالب عن ذاتها الموجودة والمفقودة في بيت الطاعة وهذا الاستدعاء للزمن تقودها إلى مسائل اجتماعية ونفسية تحاول أن تسترجعها أمام حدث المواجهة بطريقة مقصودة أو غير مقصودة محدثة بذلك نوعًا من القلق والتشتت والقفز للخلف في الزمن.
كما يظهر الاستدعاء السريع للزمن في رواية (سعوديات) لـ (سارة العليوي) “فكرت فيِّ قليلاً وكأنها تحدث نفسها:
خالد الواصل (أمم) تعرف سمعت عنك مثل كل الناس – ما كانت تسمع تدري فرصة إنك هنا وشرايك أنت تتكلم وبصراحة، ودي أفهم وش اللي حصل معك لأن وقت سالفتك كان عمري (17) سنة وما كنت أسمع إلا (خالد الواصل) اللي سوى في النت في الجرايد وفضح صار اسمك على كل لسان الكل يتكلم عنك في النت في الجرائد الكل كان يبيك تنجلد وتتحاكم من جد حابه أعرف وافهم هذا لو ما كان يضايقك وتكون حاب تتكلم اعتدل خالد في جلسته أخرج سيجاره وأشعلها ونفث دخانها وهو ينظر (لمي) وعلق مبتسمًا..
أنا (خالد الواصل) سليل الحسب والنسب محطم قلوب العذارى كما كانوا يسمونني فترة من الزمن لم يكن هناك شيء تمنيته ولم أمتلكه في حياتي فكل شيء وقعت عيناي عليه أصبح ملكي أتذكر عندما انتهى مشروع الشاليهات الضخم في (العزيزية) في (الخبر) فوجئت بوالدي يبتاع لي شاليهًا خاصًا بي مسجلاً العقد باسمي كان لي كثير من الأصحاب ولا أخفيك أيضًا صديقات”([71]).
في المقطع السابق نرى صوت الزمن السريع المستدعي من (خالد الواصل) عبر منولوج داخلي من زمن الشباب حيث برزت هوية المكان الشاليه الذي دل على الوجود الذاكراتي لمرحلة الشباب واستدعاء الزمن الماضي جعل خالد في صدمة بين زمن الشباب الغائت وزمنه المعيش مع (ميِّ) في محاولة منه لإثبات الحقائق وتصريحها زمنيًا كنوع من الاعتراف من ناحية والإدانة من ناحية أخرى فقد جعل خالد الواصل المكان هو المسؤول الرئيسي عن أزمة الشخصية في قفزها الزمني. كما يظهر التحديد الزمني في الرواية بالأرقام (فميِّ) كان عمرها (17) سنة حين كانت قصة (خالد الواصل). مما يؤدي بنا إلى القول بتعددية الزمن والاستدعاء له عبر الشخصيات في محاولة من الروائية للتعبير عن القلق والحيرة الأمر الذي جعل الشخصية تتفاوت في دلالة الزمن في المكان حيث الحاضر والمستقبل والماضي.
(ب) استدعاء المكان:
سبق الحديث عن صوت الزمن ومحتواه الذي يدفعنا إلى استدعاء صوت المكان فإن المكان يظل قرين الزمن فالقارئ لرواية (غدًا سيكون الخميس) لـ. هدى الرشيد انفتح النص بطريقة بانورامية على مجتمع الناس وحفلاتهن ومجالسهن وما يدور من أحاديث لنسمع صوت المكان البديل وهو لبنان. ثم تركزت بؤرة النظر إلى زميلات (نوال) القريبات اللواتي يشاركنها الوعي والهم جميعهن يدركن أن شيئًا جديدًا طرأ. تعلمت المرأة – صارت تسافر وتختلط أصبح هناك مبتعثون ودكاترة حيث الوعي تطور ولكن القواعد التي تحكم الأنساق الاجتماعية في المكان الأصلي للكاتبة صارت جامدة وثابتة. “يجب أن يتقبلوا الوضع الجديد… يجب أن يضعوا في اعتبارهم الوضع الجديد الذي نقبل عليه”([72]).
فأحداث الرواية خارج وطن الكاتبة السعودية، فكل أحداث الرواية حدثت في لبنان غير أن إحالات المعالجة تتجه إلى وطن الكاتبة فلماذا لم يحضر المكان بصوته الاجتماعي؟ لقد حضر صوت المكان هنا بوصفه أداة وخلفية وحاضنًا للأحداث أكثر من الوطن البديل الواقع عليه الأحداث. توجد هناك مفارقة لابد من التوقف عندها، ففي الوقت الذي تقيم فيه الكاتبة (هدى الرشيد) حوادث روايتها خارج وطنها فإنها في الوقت نفسه تستجيب لرغبتها الجموح في تحقيق ذاتها عندما تضع اسمها الرباعي على كامل الرواية وهي تكسر بذلك التقاليد الأدبية التي توجز الاسم الأول والعائلة فقط. وكأنها بذلك تؤكد صلات نسبها ومنطلقات جذورها لتقول إن حوادث الرواية هي المكان نفسه الذي تنتمي إليه الكاتبة دون تصريح إذن هو المكان المستعار الملائم لتقديم خطابها في كيفية تقديم بيئة سردية تسمح بحرية العلاقات بين الرجل والمرأة التي تعتبر غير ممكنة في المكان المغلق وهنا يأتي دور استدعاء صوت المكان الأصلي ليثري السرد في (غدًا سيكون الخميس).
في رواية (ومات خوفي) (لظافرة المسلول) يأتي استدعاء صوت المكان حين تتذكر الشخصية الماضي في المكان.
“وصلت أخيرًا إلى منزل.. منزل صغير عرفته منذ ثماني سنوات، ثماني سنوات عادت إلى الآن. عادت وكأنها تحدث اللحظة عرفت هذا المنزل وأنا في الرابعة عشرة أهيم على وجهي، حزين وكئيب، وخائف”([73]).
إن استدعاء الصوت المكاني، في زمنها الحاضر إلى الوراء ما يقارب ثماني سنوات، جاء الصوت مرتبطًا بالمكان فمن خلال رؤية الشخصية لهذا المكان سرعان ما تذكرت ذلك التاريخ القديم المتصل بحياتها الماضية. صوت المكان ß استدعاء ß الأحداث ß الحالة الذاتية للأشياء ß (القلق – التشتت) ß الشخصية.
في رواية (توبة وسُلِّي) لـ (مها الفيصل) تنهج استدعاء صوت المكان خارج الواقع حدوده ذاكرة مثقلة، بالرغبة في الخلاص من ضيق المكان إلى رحابة الحياة فأحداث الرواية تدور في فضاء مطلق، لا يختزل أي إحالات اجتماعية مباشرة فهي تتخذ من فكرة التطهير، من اجتراح السيئات مدخلاً للبحث عن الخلاص من القهر، وفقدان الأمل، ولتأكيد كونية التطهير يغيب المكان الواقعي المعاصر، ليحضر المكان المفرغ من أي دلالة واقعية.
المكان ß استدعاء ß فراغ ß الخطاب السردي غير تصادمي مع المكان.
“مسكين يا توبة.
التفت إلى وقال:
أشفقت على؟ يا فارس. ما أنا إلا سائر أمشي هونًا فتطأ قدماي مسكني ومثواي تحسب هذا الثرى ترابًا؟
وقبض قبضة من تراب ثم قال:
أنت في حلم… هذه الحقيقة.. ورماني بها.. ضحك بعدها قائلاً:
وهاك قبضة أخرى.
رفع يده نحو السماء أمسك بنجمة جعلت تتلألأ في كفه ثم ألقاها في حجري وسأل:
من المسكين؟ ألا ما أحقر من كانت قبضة يده دون عالمه الذي خلق لأجله.
أكمل وهو قائم عني.
قد اشتقت يا أخي لنغض غبار الأيام عني…
تركني… لم أقدر أن أتحرك بعد مدة سرت إلى حيث سار فوجدته يصلي.. سَلِّمْ ثم استلقى على يمينه ولم يتحرك.
اقتربت منه فوجدته أنه قد مات.
حملته إلى حيث الغار الذي به أخوه عبد الله ودفنته بجواره([74]).
المكان فضاء مطلق ß (السماء. الأرض – الغار) ß استدعاء صوت المكان يؤدي إلى تطهير النفس من الأخطاء..
أَمَّا في رواية (الفردوس اليباب) ليلى الجهني، فقد قدمت الرواية باسم المكان الواقعي (جَدَّة) لكنها ربطت المكان بعمق أزمة المرأة في مقابل سلطة الرجل فالمرأة ضحية الخيانة من الرجل الذي تركها وفي أحشائها جنين فلم تجد بُدًا، من البحث عن إجهاضه خوفًا من ثقافة المكان الموسوم بالقداسة ليأتي استدعاء المكان (البديل سرديًا) ß في أي مكان تنتهك فيه حقوق المرأة وليست جَدَّة المقصودة.
“مدينة تنسى أحزانها سريعًا. كل شيء فيها يمر بسرعة، حتى البشر تعلموا أن يعبروا سريعًا..” ([75]).
تظهر سرعة الاستدعاء للمكان، في المقطع السابق، فهو دالاً على الحركة في المكان فالشخصية تعاني من القلق النفسي، فقد ذكرت الروائية ذلك في قطع سابق عبر المنولوج الداخلي مِنْ الاستدعاء.
“آه. كل شيء انتهى الآن. انتهى بسرعة كما تنتهي الأعياد وأيام الربيع في جَدَّة..” ([76]).
صوت المكان ß يؤدي إلى السرعة ß الشعور بالقلق.
الإحساس العميق بصوت المكان حين تستدعي الروائية (قماشة العليان) في روايتها (عيون على السماء) فالمكان (الكويت) صورته الشخصية الأنثوية بطريقة لا تدل إلا على وعيها بالحدث السياسي وهو الحرب بين العراق والكويت الذي جعلها وجعل أهلها وأبناء وطنها يغادرون المكان خوفًا من القتل والاضطهاد.
استدعاء المكان في الحال ß الحرب ß قلق والحيرة والخوف والوحدة والغربة ß = الشخصية.
“وفي ليلة 17 يناير.. في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.. كانت هدى ترقد إلى جوار أمها والطفل بينهما في حجرتهما أسفل البيت.. أمَّا والدها فهو يرقد مع عمها وأولاد عمها في الحجرة الخارجية من المنزل.
أمَّا زوجة عمها وأطفالها الصغار فإنهم ينامون في حجرة الأم في الطابق العلوي من المنزل.
في تلك الليلة.. الفتيات لم ينمن.. أمل ومنيرة وسارة.. كن ساهرات يثرثرن ويستمعن إلى المذياع.. ثم صرخن معًا في وقت واحد عندما سمعن بالخبر الصاعق، لقد شنت القوات المتحالفة الحرب على العراق لتحرير الكويت([77]).
فالرواية تناولت حرب الخليج، واستدعاء المكان لظروف سياسية هيمنت على الرواية، مما أدى إلى ظهور القلق والخوف والحيرة على الشخصيات. هذا السياق الذي حمل أصواتاً نسويّة عديدة، في ظاهرة ثقافية بامتياز، فضلاً عن تجلياتها الإبداعية المتباينة، أفرز أجيالاً من الروائيات السعوديات، منهن: زينب حفني، رجاء الصانع، صبا الحرز، طيف الحلاج، ليلى الجهني، بدرية البشر، نورة الغامدي، أميمة الخميس، قماشة العليان، بتباين مساحاتهن الروائية وخطوطهن التي سعت للتمايز عمّا يبدعه الرجل، وخطاباتهن الروائية على مستويات تذهب لقضايا حقوقية، بإيقاع “خيبات عاطفية” وأخرى ذهبت لتحقق المعادل الخلاق لفعل الحداثة الاجتماعية، وتجلياتها التقنيّة والأسلوبية، بل مناوشتها واقتحامها “للمسكوت عنه” ومقاربتها للجرأة باختلاف منسوبها ودلالاتها، وبهذا المعنى يمكن القول تأسيساً على ذلك: تنتمي الأديبة رجاء عالم إلى أحدث جيل من الروائيات السعوديات منذ ظهور الرواية السعودية في النصف الثاني من القرن العشرين، مجسّدة وعياً روائياً نسوياً لافتاً، (يمثل امتيازاً عما دوّنته نظيراتها الروائيات ومن أجيال متعاقبة، يتجاوز “إرهاصات الدعاوى الأنثوية” و”تدوير القيم الذكورية بأصوات أنثوية” وعي روائي سماته الخبرة والتجربة، وتكامل الفن والمضمون كرهان متصل لكتابة رواية مختلفة، بحساسيتها تجاه مجتمع ذكوري، بل الانتقال من استيهامات الواقعية الاجتماعية إلى مساحات تخييلية، تضاعف الرهان على اللغة بوصفها أفقاً تتغيّر في ظلاله المفاهيم الثقافية التقليدية، وتُجْتَرَحُ فيه ذاكرة جديدة تقارب جدلية الوجود الإنساني وتتجاوزه إلى ما ورائه)([78]).
مما شكل إرهاصات عميقة محمولة على مفهوم “الفكرة العظيمة” لولوجها عالم الإبداع بأجناسه المختلفة وتحدياته الخطيرة والمثيرة ومغامراته التي لا تتخفّف من طابعها المعرفي. فكتبت المسرحية والقصة، فضلاً عن المقالة، ودخلت عالم الرواية من بوابة الحلم، ولتبني بصمت وشغف عماراتها الروائية، بتنوع خالص، لكن هاجسها الرئيسي سينبني على ما تذهب إليه رؤيتها للوجود الإنساني وهوامشه، وحوامله الأسطورية، لتكتب جدليتها مع الكتابة كبصيرة إضافية، تستثمر من –اللغة- ما يغذي قصدية تخييلها، وما يمكن أن يكسر أفق توقع متلقيها، ويخاتله بلغة تتجاوز الحسّي والمدرك، ويُستدرج لثقافة يبثّها النص في تضاعيفه ومستوياته، وإحالاته، وسياقاته، ممثلة بالرموز والإيحاءات والتمظهر بما يشبه الواقع فعلاً، ولا يشبهه في آن، مما يشكل تحدياً للقارئ وحافزاً له، للغوص في منعطفاتها التأويلية.
فثمة أعمال، أثارت جدلاً بين النقاد والقرّاء على حدّ سواء، منذ الانطلاقة الروائية لرجاء عالم بشكل خاص والإبداعية بشكل عام، إذ توقفوا عند أعمال بعينها، اكتشافاً لدالتها الإبداعية وتحقيقاً لما تواضعوا عليه من مفهوم الفكرة العظيمة، التي لازمت رجاء عالم منذ فجر أعمالها الأولى، فـ”موقد الطير (ستتبدّى كمثال ساطع لجدلية “الموت والحياة” وأسئلتهما الفلسفية التي تقارب معنى الفاجعة في رواية مترعة بنثارات العشق المضيئة الذي “يساق عادة على هيئة ادّعاء مضلل ببلوغ غايات الأشواق” هل هو ولع الحكّاء في بوح يوائم معضلة البحث عن وقود تحرق به الأشواق لذلك الغريم المعاند، كما تذهب الأديبة للإيحاء به؟! في حكايتها أو رحلتها للبحث عن حياة في بقايا “حورية” تسردها “عائشة” رحلة تصل ماضي آدم بمستقبله، إذ تتعلّق “الأنثى” بأحلام البحث عن الذرية، لتصل مجدها الأسطوري)([79]).
خصوصية واختلاف..!
توغل رجاء عالم، في عوالمها الروائية، فيما يبدو أنها تسائل تجربتها، على مستوى الشكل الفني والموضوعات، لتبدع حبكة متماسكة تعنى بشخوصها ونماذجها وأحداثها، ففي روايتها “خاتم” التي تتبّع فيها سيرورة حيوات أبطالها منذ الولادة إلى النهاية الدراماتيكية، تضع لها إطاراً مكانياً هو “مكة المكرمة” وزمانياً فترة غامضة في تاريخ المدينة المقدسة، حيث يتاجر “نصيب” بالرقيق، ويقطن فوق أحد الجبال في منزل متعدد الطبقات، منزل “عجائبي” تقطن ابنته “خاتم” في الطبقة الأخيرة، إنها رواية بشر في صراعهم مع أقدارهم الواقعية، فلا ملامح أسطورية، بل انفتاح على المصير البشري، واختراق للمكان بحثاً عن صورته الأخرى، نبش لذاكرته المثخنة، وفحص لسرانيته، رغم الاستئثار باللغة، والإسراف بمنمنماتها. تقول رجاء عالم: “مكة هي بالنسبة إلى مركز لحركة سحرية إبداعية، أعمل على إحيائه كوداع لمكة القديمة التي اندثرت الآن، مكة أمي وجدتي”.
ثنائية الحب والشغف
ستظل “مكة” بما تثيره من مشاعر مركبة، عتبة رجاء عالم للدخول، إنها تقاسيم الليل والنهار، ومنطلق رحلتها إلى الذات لاستكشافها، واستكشاف عناصرها لحظة كمالها لتفصح عن خارطتها، في أعمالها اللاحقة مثل “طريق الحرير” وربما في مجموعتها القصصيّة “نهر الحيوان” المحملتين بأزمنة الحلم، والاستعارات “الشهرزادية” وتقنية الاستبطان، ولاسيما في التراث السردي العربي كمجال لتفاعلات نصيّة حوارية، أو يتخذ الاستبطان شكلاً أكثر إثارة عندما تدخل –قارئها- في لعبة الإيهام، كما في “نهر الحيوان” حينما تعلن في إحدى قصص المجموعة “الأصلة” على لسان بطلتها أن اسمها “فاطمة المكية”، وأن الحقيقة التي أحسنت إخفاءها، هي أنها لم تولد في مكة، وإنما سنة 500 هجرية الموافق 1106 ميلادية، في وادي آش قرب غرناطة، فاستدعاء – التاريخ- من شأنه أن يقوّض المرجع الواقعي، ليضعنا فيما وراء الواقع نفسه.
سِترْ
تجلو رجاء عالم ثنائية الحب والشغف، على نحو أعمق لتتطيّر لشغف إضافي هو الشغف بالكتابة وسحرها، شغف باللغة ومجازاتها كتمارين حدسيّة على نحو ما كتبته في روايتها “ستر” والتي وجد النقاد صعوبة في مقارنتها برواية السعودية رجاء الصانع “بنات الرياض” إلى الحدّ الذي جعلهم يتساءلون: لماذا لم تنلْ رواية رجاء عالم، ما نالته رواية رجاء الصانع، والطريف هنا، خلط –القراء- بين الاسمين! لكن رجاء عالم وهي تضع القارئ في “قلب التحولات التي يشهدها المجتمع الخليجي” أكثر انتباهاً لتحولات التاريخ السياسي والاجتماعي لمكة، بل تحولات الثقافة وافتراضية العوالم الالكترونية، تدلف لفضاءات المدن، تبتكر لها معادلاً جسدياً (جدة التواءات أنثوية مازالوا يكسرون ليونتها وينجحون)([80]) والرياض “أنثى تتخفى” لتضفي دلالة داخلية للعنوان، وتعاين إشكالية تاريخية مزدوجة.. إشكالية المبدع والإبداع، من خلال نماذج نسوية وذكورية لها مكابداتها وأحلامها، تصوغها ذات أنثوية ساردة، تذهب في تشكيل ثقافي بين “حواف امرأة وتضاريس مدينة” فهل تتطابق الرؤيا مع الحقيقة، لينفتح متخيّل اللغة الثري على واقع بعينه؟!.
يرى النقاد أن عملية التخييل من شأنها أن تولّد استيهامات تشي بانفكاك الواقع عن الرؤية، فالناقد السعودي محمد العباس يرى أن “ما تنقله اللغة من المحسوس إلى نص لا مركزيّة له، كما صمّمته رجاء، ولكن ليس لدرجة انفلات المادة المحكية من خيطية السرد، بحيث يبدو محكياً من منظور ذات ارستقراطية… مشوبة بالاجتماعي، ومزوّدة بلغة تختزن تجارب ومعارف ذاتية وجمعية متنوعة وهو ما يفسّر طاقاتها التعبيرية التي توحي بقيمة فلسفية لكل ما يطاله السرد”.
رجاء عالم مابين جسد النص ونص الجسد، في رواية يعلو نموذجها النسوي في مقابل إزاحتها كقيمة جنسيّة فحسب، فالمرأة فاكهة وللجسد ثماره، تمثيل رأى فيه النقاد محاكاة “لأفروديتات” إيزابيل الليندي، لتماثل بين (زغب الخوخ، وترقرق الزغب في مؤخر عنق مريم برذاذ المسك) في رواية تسعى لإمتاع القارئ، ولتحمله على ثقافة “الأنثى” في نسيج لغة ونص، يتطيّر إلى العشق وتمائمه، وترانيمه: “نحتاج إلى حكاية تنقذنا، تختطفنا وتدورنا حولها لنشعر بالحياة.. الحكاية ستجرجرنا لحبكة وللحركة خارج هذا الملل والوحدة بلا رجل” تقول مريم لمحاورها: “لا تخرجني منك ولا تخرج، واصل قيامك فيّ، لا أعرف كيف أصوغ هذا الذي يعتريني فيك ومنك”([81]). وتبدو مريم “البطلة” فيلسوفة عيش، ليست مثقلة بهموم الإصلاح، بقدر ما تذهب لإصلاحها ذاتها هي.
في رواية طوق الحمام
ترى هل كانت رجاء عالم في رواياتها وأعمالها التي أثارت جدلاً لا يستنفد –بين النقاد- تدور في فلك “مكة” ولا تدخلها، مكتفية بنصوص الشغف بما يحيط “بمكة” لا تذهب للمكان بل لفضائه، لتفكك هوامشه وتسرف في إضاءاتها، بنزوع عجائبي أو أسطوري، تدور.. تدور في مخاتلة المفاتيح والأبواب، مكتفية كذلك بتلك الغلالات الشفيفة من لغة سرديّة تفيض بحمولتها الثقافية، وشيفراتها السرديّة وتفاعلاتها الحوارية مع ثقافات وأنساق وآثار إبداعية كالشعر أو الرواية، أو منجزات الفن الحديث، أو المختارات الموسيقية العالمية وسوى ذلك؟!.
ربما كانت هواجس –عالم- تتخلّق، وتختزن “نارها” في ذلك الحجر الكريم، لتدخل تجربة روائية، جديدة واستثنائية بحساسيتها، تدخل “مكة” لتستقرئ وجود الإنسان، نص روائي كثيف يعلن اسمه “طوق الحمام” وبإشارة من الروائية التي تقول: (أقرأ هذا الكتاب لجدي الأول يوسف العالم المكي، الذي كان يجسّد الخبز تحت سجادة صلاته بالحرم… العالم الذي آمن بأن العلم المنقول هو علم ميت عن ميت، والموت مكتسب بينما الحياة الباطنية، تفيض في روح العارف من بحر الحي)([82]).
طوق الحكاية
تستثمر رجاء عالم، غير تقنية منها “الرسائل والمذكرات” كطبقات موازية في نصها الروائي الطويل، فضلاً عمّا تستدخله من “كولاج” روائي لتركيز فعالية السرد، وتلوين المحكي الروائي، كنصوص “تاريخية” ومقتطفات من أشعار عالمية بنصها الحي وترجمته، وشذرات من روايات اتصلت بالذاكرة الإنسانية مثل: دون كيشوت، المريض الإنكليزي… لتذهب بروايتها إلى ما يعني مناخات تجريبية تدفع روايتها لتتجاوز-منجزها- في الأعمّ الأغلب، سعياً لإعادة فهم الدوافع الاجتماعية والثقافية والإنسانية “المتحكمة في تشخيص واقع تاريخي محدد”، وإعادة طرح الأسئلة المتعلّقة بخاصيّة الكتابة الروائية الفانتستيكية.
لكن ذلك لن يكون بديلاً عن حكاية “أبو الرووس” الزقاق المكي الذي يتولّى سرد أحداث ومواقف، كشاهد على جثة مجهولة، مصائر بشر تتراوح ما بين الحتميّة الاجتماعية، والجهر بالعشق ومحاولة اكتشافه، ليست حفاوة بالحسيّ، بقدر ما يتم الهجس بطريقة كتابته، ثمة دفاع ذكي يخالجه شيء من الخوف على إقصاء رمزية المكان “مكة” وروحيته تحت ضغط حركة التطور الاقتصادي والعمراني، ومتطلبات الأسواق وبضائعها، مقاومة لزمن استهلاكي يزاحم بثقافته تاريخ المكان وآثاره، ثمة ما يروى عن تاريخ إنساني وتحوّلات أمكنة ونفوس وصراعات على نفوذ سلطان ومال، فهل ذهبت رجاء عالم لتكتب رواية معاصرة برؤى حداثية، لتحفز في “المسكوت عنه” في التاريخ الاجتماعي والسياسي لمكة، ودون أن تفقد تيماتها الروائية في العودة “لإشكالية الذكورة والأنوثة” ومزج الواقع بالخيال، أو الواقعية بالمجاز؟!.
أبو الرووس هو أنا الذات الساردة، لحكاية رؤوس الرجال الأربعة، ولحبكات العشق “عزة أو عائشة” وغرامياتهما، حكايات يوسف الموسوّس بالتاريخ، والذي يحمل “البكالوريوس” في التاريخ والقائمة على بحث مختصر عن المنائر التاريخية على جبال مكة، وقد كان هو منار العشق بأبي الرووس، (يؤذن لعشقين:عزة ومكة. ومعاذ الذي تدرب ليخلف أبيه في إمامة المسجد، خليل بشهادة طيرانه الموقوفة، وتيس الأغوات ربيب العشي الطباخ، رواية تكتب تاريخ العشق الذي لا ينبت في الخوف، ولا تتبادله البشر والمانيكانات، في مقابل حكايات بنات أبو الرووس “عزة، عائشة وحليمة ونورة وهاجر)([83]).
أنثى اللغة..
وبرمزية استعارة طوق الحمام، أي إرادة الحرية في الطبيعة، تذهب الروائية إلى بث نص الحرية حينما تشي بها “حفنات مجنحة”، ويمكن لها أن تلجأ لتطريف سردها، لتستدعي الواقع كجزء من لعبة سرديّة، فنراها تُدخل “قناة الجزيرة” في نسيج الحكاية، من خلال جدل حول تسجيل فيديو لا يتجاوز العشر دقائق، لصور فوتوغرافية موظّفة، ضمن حبكة فيلم كارتون ملتقطة لحي بزقاق يدعى “أبو الرووس” من أحياء مكة الفقير، فالصور تنقل وتسخر من واقع المرأة هناك والمستويات الكوميدية للفقر، لتخلق مسارات إيهامه بواقعية الأحداث “بث خبر الجزيرة”.
رجاء عالم في متسع رهانها على التجربة اللغوية للرواية، وثقافة نصها الروائي، واستيحاء أزمنة لشخصيات ذات أحلام ورغائب تقاوم المحو والنسيان، تتخفّف من سطوة لغة تمارس وعياً مسبقاً على ذاتها الروائية، إذ تستمر نزوعاً معرفياً نحو الحرية، بفعل حضورها الروائي الفاعل، الذي يترجم الأدب بوصفه حلماً، فهي أنثى اللغة في مدوّناتها المتواترة بجماليات لافتة، ترسخ تجربة فريدة حقاً في عالم الرواية السعودية، تغذّ الحلم لمجد الأنثى، الباحثة عن الذات والسعادة، واكتشاف لحظة تنويرها الفارقة
3- استدعاء الشخصية (البطلة)
خاضت المرأة كمبدعة تجربة الكتابة للتعبير عن حالة القلق والحيرة والشك وإثبات الهوية إن (حادثة المرأة والكتابة لا تقف عند ظاهرها الإبداعي وكأنما هي مجرد إنجاز ثقافي، ولكنها تتعدى ذلك لتكون ضرورة نفسية، أكثر مما هي ضرورة ثقافية، ولذا فإنها ترتبط بالقلق، وتتشابك الكتابة مع الاكتئاب”([84]).
فلم يكن يخفى على المرأة/ الكاتبة حين خَطَتْ أولى خطاتها في عالم الكتابة أنها تخطو نحو فضاء مضطرب إذ عليها تواجه نسقًا ثقافيًا كاملاً، وليس مجتمعًا فحسب، فهي ضحية الثقافة أكثر من كونها “ضحية ظروف البيئة أو الظروف الاجتماعية فالوعي والمفاهيم والتصورات أي اللغة التي تصف وتسمى، هي العمق الكامن في بنية الوقائع الاجتماعية”([85]).
فالشخصية الروائية، وصورتها الكامن في الحدث الروائي تعد أهم عنصر مفرد من عناصر الرواية كما تعتبر “أحد العناصر الرئيسية التي تتجسد بها فحوى القصة”([86]).
فأهمية الشخصية وسماع صوتها تأتي من تمثلها للعالم وكأنه أمر حاضر وليس قول (توماشيفسكي) إنَّ الشخصية خيط هادٍ يمكن من فك مزيج المكررات ويسمح بتصنيفها وترتيبها.
كما أن علاقة صوت الشخصية بالمكان قائمة على التبادل والاندماج فالمكان الذي يسكنه الشخص هو مرآة لطباعه “لأنه يعكس حقيقة الشخصية ومن جانب آخر إن حياة الشخصية تفسرها طبيعة المكان الذي يرتبط به”([87]).
فإذا كان المكان مغلقًا شعرت الشخصية بالضيق والقلق والحيرة وإذا كان المكان مفتوحًا شعرت الشخصية بالحرية والانطلاق والاطمئنان وليست الرواية النسوية السعودية ببعيدة عن ذلك. وذلك من خلال استدعاء صوت الشخصية الأنثوية بالذات وهذا ما تستطيع أن ننظر إليه من خلال سمة جاءت بارزة في بعض الروايات النسوية وهي أن الشخصية (الأنثى) حينما تغلق
باب غرفتها تستدعي صوت القلق وتصاب بانغلاق ذاتي وهو شعور عاطفي يدل على علاقة الشخصية بالمكان.
(أ) الصوت والحركة للشخصية:
نقصد بالحركة هنا الأفعال الدالة على صوت حركية المكان وتحرك الأشخاص فيه لأن الراوي يصف المكان وصفًا حركيًا ليس ساكنًا والإنسان من خلال حركته في المكان هو الذي يقوم برسم جمالياته لأن الإنسان بمشاعره وعواطفه ومزاجه يأخذ من الطبيعة حقولها وفصولها ما يساعد مشاعره، وعواطفه على رسم المكان([88]).
ويمكن لنا رصد صوت الشخصية في الروايات الآتية:
1- رواية اللعنة ß سلوى دمنهوري 1994م.
2- رواية الفردوس اليباب ß ليلى الجهني 1999م.
3- رواية واجهة البوصلة ß نورة الغامدي 2002م.
4- رواية مزامير من ورق ß نداء أبو على 2003م.
5- رواية البحريات ß أميمة الخميس 2006م.
6- رواية بيت الطاعة ß منيرة السبيعي 2007م.
يقابلنا صوت الشخصية في رواية اللعنة – لسلوى دمنهوري معلنًا عن الحيرة والقلق النفسي والتوتر الذي سرعان ما انتقل إلى المكان الصامت.
“الصمت يغلف المكان.. طارق قلق مرتبك.. ينهض من مكان إلى آخر.. يجول في الصالة من مقعده إلى الشرفة إلى النافذة، يعود إلى مكانه.. يرشف الشاي بنهم.. كأنه في عجلة من أمره.. نفسه تتحدث خائف من الحقيقة التي تتردد في ذهنه”([89]).
فصوت (طارق) هو القلق والتجول من مكان إلى آخر وصوت رشف الشاي بنهم والنهوض من صالة البيت إلى الشرفة يستدعي في النفس الحيرة والقلق، ولو نظرنا إلى مقطع آخر من الرواية مثلاً:
“عادت شروق إلى وحدتها.. قلقة حائرة ثمة شيء ينقص من حياتها.. تجوب البيت مرات ومرات من الشرفة إلى البهو ومنه إلى حجرتها وباقي الغرف.. تقلب صفحات الجرائم سريعة.. ترجع بالذاكرة.. قلوب مهجورة”([90]).
ومن خلال استدعاء شخصية (شروق) و(طارق) يمكن لنا ملاحظة ما يلي:
في رواية (الفردوس اليباب)، ليلى الجهني، يأتي استدعاء الصوت وحركة الأشخاص في المكان، والوقوف على عتبته، جعلت من الباب مكانًا له صوت، تهب منه الذكريات حينما تفتحه وكأنها بذلك تفتح ما بداخلها من شعور وفيضان نفسي.
“أقف على العتبة الصغيرة، تترنح الأشياء من حولي وتجيء حتى أصغر التفاصيل الحزن وثَمَّ بعوضة تطن حول أذني والباب الخشبي الأبيض المزين بحليات ذهبية تومض تحت ضوء الشمعة المتمايل يقف أمامي مثل سر طوى الكون جناحيه عليه أفتحه فتهب رائحة الذكريات وتصطخب الكلمات التي قلناها في كل مرة.. أوصد الباب وتنسكب أصوات الكون”([91]).
فاستدعاء صوت الباب والبعوضة التي تطن حول أذنها ما هي إلاَّ أصوات المكان للولوج إلى ذات الشخصية والتي اعتبرت وقوف الباب وصوته سَرَّ من أسرار الكون الحزين لدواخل الشخصية وأحاسيس هي في الأصل أسرار مكبوتة ستفتح يومًا كهذا الباب الأبيض المقابل للقلب الأبيض لدى الأنثى.
في مقطع آخر من هذه (الرواية) يقابلنا استدعاء الصوت الحركي للأشياء من خلال تصويرها لأزمة المرأة النفسية، والاجتماعية في صراع داخلي يحكيه، هذا المقطع: “في الممر يبدو صوت حذائي أشد وقعًا: طك طك طك، ولا أدري أهو غيظي أم غيظ الأرواح الصغيرة المرصوصة على طول الممر وهي ترسل للموات لعناتها”([92]).
فصوت الحذاء عند الاستدعاء على الأرض هو مستوى تدل عليه دلالة الصوت الذي في الممر من حقارة ودونية، فبعد الدخول للإجهاض كان الصوت (طك طك طك). وفي صفحة سابقة تختلف الصوت “تك تك، تك يتردد صوت ارتطام كعب حذائي بالبلاط العاري وينقبض قلبي حين أخال أن هذا البلاط الأبيض المرقش بألوان متباينة ليس أكثر من أرواح صغيرة مكسرة مجرحة مهشمة”([93]).
ولنا أن نتصور استدعاء صوت الحذاء.
الحالة: في الدخول استدعاء ضعيف للصوت. تك تك تك في الخروج استدعاء قوي للصوت طك طك طك. فدلالة التكرار للصوت يدل عن “اضطراب النظام العادي للكلمات وتدل على عدم الاتصال”([94]).
فالتكرار كلمة وتغير حالتها من (طك طك طك) إلى (تلك تلك تلك) دليلاً واضحًا على ما يحدثه الصوت من اضطراب فالطاء أقوى أثرًا من التاء، وهذا يعكس لنا المستوى النفسي للشخصية من إحساس لها بالجرم بعد قيامها بعملية الإجهاض وقتلها للطفل فهو الصوت دليل على القلق والتحسر والخوف.
3- في رواية واجهة البوصلة لنوري الغامدي، 2000م:
يظهر الاستدعاء البصري، لهذا العنوان، وظهور صورة البوصلة، واضحة على الخطوط التجريدية مبهمة في صفحة الغلاف يحيل إلى المجالات الدلالية المتصلة بمدارات البوصلة بوصفها آلة إرشادية، وحين نضع البوصلة ضمن المستوى الوظيفي في بنية النص نجدها تقدم منطلقات هامة في نظام المتن الحكائي للرواية فالعنوان يوحي بأن تسمية الرواية استراتيجية ترمي إلى ترابط النص، فالعنوان يأتي بلفظه أو بصيغ بديلة في مناطق دالة داخل النص فيتضح أن الآليات التي اتبعها العنوان في إنتاج الدلالة جعلته عنصرًا ثابتًا يضمن تلاحم البنية السردية.
ولتوثيق الإشارة إلى دور البوصلة في التعبير عن الرواية نستحضر صورة الآلة فنجدها تتكون من قرص وإبرة مغناطيسية وخطوط اتجاه.
ليظهر استدعاء الصوت لشخصية (فضة) البطلة حين تقول:
“هذه واحدة من النساء لا تعرفينها لكنني أعرفها، وأعرف أنها تستحق كل جميل في هذه الحياة فتعالي.. سأجعل لك منزلاً صغيرًا. لا… أريد غرفة صغيرة أختارها وسط مدينة ما.. أسجل على حائطها اسمي واسمك.. صورك وصوري. غنائي وغناءك.. املأ أركانها بك بعصافير الدنيا وحمام الله… أريد أن أضع في كل ركن من أركانها سريرًا صغيرًا. وأريكة وقارورة عطر، ونهرًا، وشلالاً وحصانًا أحمر، وإبريق ماء، وقنديلاً ومنديلاً ومرآة وأغنية.
نحن في عيشة الوصال الهنية
نجتلي الرَّاحل في الكؤوس السنية
قد لبسنا هياكل النور لما
فارقتنا الهياكل البشرية
صوتك يربكني ويزيدني الحلم الذي تضعه بين يدي ضياعًا وأنت تقول… أوجعتني الأمنيات وصادرتني من مكان الحلم وشوشة “فضة” في أذني
أنت تشتهينه فوق الاحتمال
أشك يا (فضة) اشتهي الحلم الذي يرسمه”([95]).
إن صوت فضة لا يكاد ينفصل عن المكان وصوته والحدث الكلي في كونها ميتة في أذهان الشخصيات التي عاشت مع فضة في مستويين.
1- فضة العجوز ß لها صوتها المضاد للرجل.
2- فضة الفتاة ß لها صوتها المضاد للرجل.
في المقطع السابق صوت فضة الفتاة العاشقة الصغيرة فروح فضة الهائمة تسكن الساردة وتتلبسها تدخل بصوتها في جلدها كأنما هي:
“فضة” تعيش حكاياتي برمتها… حتى بعد موتها تسمُعني ما كان يجب أن يكون.. وأنا ليس بمقدوري أن آخذ الوضع ذاته.. لكني أسير خلفها كأنما أنا ظل يلاحق صاحبه بل هو ذاته بينما الشخص المعني هو ظل لحياة لا يدري كيف دخلها”([96]).
فصوت فضة وصورتها المنعكسة في المرآة تقول “أرى وجهك وجهي” ويصل صوت الاستدعاء إلى التوحد “ولم تذكرت تلك الأخرى التي هي أنا”([97]).
لنرى صوت القلق في استدعاء الذات الشاردة وهو ينهش روح فضة فهي ضحية واقع مطبوع بالحيف لكن الضحايا صعاف وفضة جريئة صارخة في وجه الحور والغضب “مَنْ الذي يستطيع منعي وأنا التي نويت”([98]).
صوت فضة البطلة ß الجرأة.
صوت الساردة ß الخنوع.
صورة البوصلة للجنوب ß النساء المهمشات المحاصرات في مكان مغلق
صورة البوصلة للشمال ß تشير إلى نساء يحاولن التحرر من القيود
لذا فإن البوصلة تقيس إيقاع الحياة النسوية في البيت ويحاولون فهم حدوده لكن المرأة في السعودية بيئة السادرة ترضخ دائمًا لنسق ثقافة المجتمع والمسلمات والوصايا القائمة على الفوقية الذكورية.
“المرأة هنا غلبانة… أول اِلأمور كون المرأة المرتبطة يُحظر عليها أي فعل سوى فعل الزوجة المعلوم.. فلابد من التوقف عند إشارة حمراء أزلية”([99]).
فالرواية توحي بوجود امرأة تختفي، بين ثنايا امرأة يصعب الكشف عنها، فلها صوت يتوارى وترتدي الأقنعة، وهنا يصبح دور صورة عقارب البوصلة في الكشف، والاهتداء. فهذه المرأة تمارس هيمنتها داخل النص، وتحدد مساراته وتتقمص شخصية السادرة، فتتحد معها وتحل محلها في هيئة اللاموجود.
“أنا مخلوقة هلامية هلامية تهزأ بها سعادة وهمية حين أعض على شفتي قلقًا وأنا أغلق سماعة الهاتف التي تصلني بصوت ثامر.
آلو.. آلو.. آلو.. ضعت بين أفراد العائلة الكبيرة”([100]).
فاستدعاء صوت (ثامر) عبر الهاتف كي تمارس هذه المرأة، وعيها المسبق على الذات الروائية فتبث من خلالها تفاصيل حديثة في أزمان سابقة لذاكرتها وفي أوضاع قاطعة بغيابها. فتوجيه البوصلة بين علاقة الرجل والمرأة نحو الأفق الصحيح فاختفاء فضة بعد موتها عودة للحياة الحرة. وثنائية الجسد والروح هي وجه لثنائية الرجل والمرأة، مشاعر المرأة بين التوتر والقلق فالمرأة في الرواية لا تعرف الاستقرار، بدليل يقينها بأنها رقم في طابور طويل من حياة (ثامر) مشكلة ثامر أنه لا يستطيع أن يحسم الموضوع ويكون له استقلالية تامة.
ونسمع لاستدعاء صوت فضة..
“السلام عليكم دار قوم مؤمنين
اقربت من قبر القش وناديتك “فضة”.
قومي.. أما آن لك أن تعودي
لا مجيب لي غير صوتي.
للمكان سره ووحشته وسكونه”([101]).
فقد تحول استدعاء صوت الساردة إلى القبر الذي تهرب إليه فضة قبل مراسم الغسل فيخرجها إلى التلفع في حشمة الكفن فتصبح فضة امرأة مجهضة امرأة لا تموت والنص هو الرحم الحاضن الذي يضم (فضة) الثالثة ويؤرخ لتكوينها، لنسمع صوت المرأة في نهاية تفاؤلية.
حين تتحرك إبرة البوصلة إلى [امرأة جنوبية مزدانة بعقود الريحان والشيح فعاد السؤال.. والشك المريب..
أيعقل أن تكون البنت الحضرية غافلة عن انسيابية أعمدة الفضة”([102]).
في هذا البركان المتدفق على مستوى النص إعلان عن وعي أنثوي كان يترعرع خلف الحدود حتى أصبحت المرأة أكثر قدرة على الكلام المنظم”([103]).
فصار بعض من كلامها “يغني عن ثرثرة عشرات الرجال”([104]).
في استدعاء لصوت المرأة لرواية واجهة البوصلة فبذور التغيير التي بذرتها الجدة (فضة) وتعهدتها العمة (بركة) ومارستها فضة عنوة قد أتت أكلها والأنثى المخبوءة قد خرجت بفعل الكتابة عن دائرة القمع والتهميش مؤكدة نفسها في سؤال كاشف “فضة… هل ترين أول الثمر”([105]).
4- استدعاء صوت الشخصية في رواية (مزامير من ورق):
تتجه أغلب الروايات النسوية في السعودية إلى استدعاء أصوات أشخاصها من المشاكل الاجتماعية بصورة تجعلها خطابًا سرديًا لا تقوم الرواية إلا عليه في أحداثها وتحرك شخصياتها باعتبار أن الحالة الاجتماعية في الرواية السعودية لها طرقها المختلفة في الغرض وبخاصة حين نتذكر “أن نشأة الرواية السعودية ارتبطت بالجانب الوعظي التوجيهي”([106]).
المتصل بالحياة العامة للمجتمع السعودي إلا أَنَّ الرواية النسوية الآن أخذت تتجاوز ذلك إلى مستويات فنية، أعلى، أعطتها نوعًا من الخصوصية، والتميز ففي رواية (مزامير من ورق) (نداء أبو على) يبدو استدعاء صوت الشخصية نابع من عمق النفس الإنسانية حين يكون الإحساس بالسجن والخيبة ومشاعر اليتم التي تجرى بلا رادع أصحبت نشيد ونسيج “مشاري” الذي لا ينتهي فقد بدا الحوار الخارجي بصوتيه الطويل والقصير تبعًا لنوع وعلاقة الشخصية بالمجتمع. لقد تركت طبقة استدعاء الأصوات للشخصيات نوعًا من الإضراب النفسي والفكري والقلق الوجودي معبرًا عن موقف الشخصية المثقفة بآرائها في غياب الحرية والديمقراطية عن الوسط الثقافي داخل الرواية وخارجها:
“يتمتم عبد الرزاق بضيق – لقد تأخرت.
لكنها الساعة التاسعة والربع، ما المانع من التأخر لبعض الوقت؟ أمامنا الليل بأسره.
لا يا عزيزي.. والدي يقفل أبواب البيت عند الساعة الثانية عشرة بالضبط إن تأخرت عن ذلك طلبت من أحد الرفاق أن أبيت عنده.
ينظر إليه مشاري باستغراب، يسأله:
ولماذا تسكت على مثل هذا الاستبداد؟
أنت رجل لابد أن تكون لك حياتك الخاصة وحريتك.
لكنا في البيت نخشى غضبه، وليس بإمكاننا أن نتخذ أبسط قرار إلا بمشورته وموافقته.. كلها سنوات معدودة وأتخرج ثم أحصل على وظيفة تؤهلني لأن أتزوج.
يضحك مشاري يسأله.
وهل هذا هو طموحك؟
وماذا يتمنى الشاب السعودي في نظرك؟
أن نخترع الذرة؟ أم الوصول للقمر؟
هذا سالفنا.. ولكي نؤرخ اسم عائلتنا لابد أن نتزوج وننجب فتيانا أشداء..
وإن أنجبت لك زوجة ابنة؟ تتزوج غيرها لتحظى بالابن تغاضى عبد الرزاق من سخرية قريبة وأردف قائلاً:
ستكبر كزوج فنضم زوجها إلى عائلتنا كرجل مسؤول جديد ويزاد عدد أرحمنا.
هَزَّ مشاري رأسه قال بتأسف.
تقليدي.. طول عمرك ستبقى تقليديًا تحطم الحديد لتحصل على وظيفة فتتوقف أحلامك([107]).
فاستدعاء الشخصية لصوت الحوار السابق سرعان ما يعطي لنا صوت المكان الساكن أمام العادات والتقاليد فأبواب البيت بميعاد والتأخر عن هذا الميعاد يؤدي إلى سلوك للشخصية في الحيز المكان. كما يذهب (ميشيل بوتور) إلى القول “إن الأشياء تشكل علامة أكيدة للالتقاء في الفوضى الاجتماعية وفي اضطرابات الأشخاص النفسية”([108]).
وهذا الاستدعاء الصوتي، لمشاري وعبد الرزاق في المقطع السابق، دلالة على الاضطراب النفسي والفوضى، والهروب فمشاري المثقف لا ينجح في التصالح مع تقاليد المجتمع السعودي كما أنه لم ينجح حتى، في إقامة علاقة اجتماعية ذات قيمة فهو ينسحب من بين أصدقائه ويجد نفسه غريبًا أمام البحر. وغريبًا أمام صوت (ميس) حبيبته عكس صوت أخته (العنود) التي ذابت أمام المجتمع فنراها تأثرت بصديقتها ذوات المسلك الساذج السطحي وأصبحت واحدة منهن متميزة، فنحن أمام مزامير من الغرب ومزامير من الشرق.
مشاري القادم بصوت مزامير الغرب وعبد الرزاق معه صوت مزامير الشرق، في نقلة نوعية نقلت لنا الصراع التراثي بين الشرق والغرب فالشخصيات بأصواتها عندما جاءت من الغرب استنكرت على الشرق إهدار الوقت وعدم الالتزام بالمواعيد فنحن أمام فريقين الأول يقدم وقائع وأحداث أبطالها([109]).
دلالة استدعاء صوت الشخصية في رواية البحريات لأميمة الخميس، 2006م:
لا يمكن أن نتعامل مع الأسماء، في الرواية وأصواتها، على أنها علامات لغوية اعتباطية، فالروائي كما يرى (فيليب هامون) يسعى “وهو يضع الأسماء لشخصياته أن تكون متناسبة ومنسجمة بحيث تحقق للنص مقروئيته وللشخصية احتماليتها ووجودها”([110]).
وهو الأمر الذي لا يغفل عنه قارئ رواية (البحريات) فلعبة الأسماء واستدعاء أصواتها هي عتبات للتغلغل داخل أعماق الشخصية وفك شفراتها وتحليل سلوكها وخاصة تلك الأسماء والنعوت التي حفلت بها الرواية.
استدعاء صوت بهيجة البطلة “حين تكون في صدر المكان تكلف النسوة الهامسات الصامتات عن التمتمة بأحاديث نسوية هادئة حافتة تفصلها تنهدات وبعض الأدية والتمتمات بحوقلة وتسبيح وطقطقة بالشفاه…” ([111]).
رحاب: المعلمة القادمة من فلسطين “لم تنشأ (رحاب) أن تقطع وقتهن الطقوسي المقدس أمام التلفاز اضمحل حضورها فالجميع لم يعد يبالي بها أو يتفرج عليها، الجميع غرس رأسه في تلك الشاشة وأسلمه إلى الهدير الذي تبث التمثيلية اللبنانية حتى بهيجة التي كانت أكثرهن لطفًا أصبحت ترد على أسئلتها بصورة مقتضبة وعيناها مستمرتان على الشاشة”([112]).
جاءت (البحريات) بأصوات السرد حيث السمة البشرية المشتركة للقص والحكي، والإنصات. واستمرار السرد على، وتيرة واحدة بصوت واحد ولكنه صوت ساخن يشبه سخونة سرد تفاصيل المخاض، ولحظات الولادة حيث تدور الحكايات حول الأطعمة الحلوة والدفيئة نحن أمام امرأة مثقلة بتعب السرد، والحياة جلست تحكي، فصوت الراوي موجود، وغائب في آن واحد.
لا نكاد نشعر به، إلا من خلال رصده الدائم لما يحدث في (نخل آل معبل) أو من خلال جنيات أبو دحيم اللاتي يدهمن المكان ليساعدن بهيجة في وحدة الليل.
استدعاء الصحراء للغة الجسد: وفق الرغبة، والشروط على وتر العلاقة بين المرأة والرجل.
رحاب ß عمر الحضرمي.
سعاد ß سعد أخو صالح.
بهيجة ß صالح.
الطبيب السوري ß البدوية… هذه صوت رغبات مؤججة بعشق الجسد حيث الأرواح لم تتلاق متعب وسعاد، كان بإمكانهما أن يمثلا علاقة مختلفة لو أن متعب اكتشف أمام جسد سعاد أنه رجل مثل بقية الرجال.
سعاد ( تتأمله حينما يحادثها وكانت تتخيل مقصًا صغيرًا يشذب أنفه الطويل الأقني، كان بالتأكيد سيبدو أشد وسامة إن هي فعلت.. لم تفطن (سعاد) إلى تلصصه لعلها لم تكن تتوقف طويلاً عند حركاته، وكلامه فهو إما تحت تأثير الخمر، أو في مزاج أسود مظلم يعقب شربه للخمر. هذه المساحة الغامضة، والمضطربة بينهما وبين (سعد) أفسحت مجالاً أخضر لبهيجة ورحاب وأولادها، وأحلامها والأصوات التي تهمس بها خلسة ليأخذوا الحيز الذي يودَّون من حياتها..” ([113]).
نلاحظ أن البحريات (بهيجة – ورحاب، وسعاد) يعاركن النسق النجدي ليس كرهًا فيه بل سعيًا لفرض نسقهن البحري فصوت البحر أعلى من صوت الصحراء. فكلهن تمردن على النسق الاجتماعي في نجد، بهيجة تخرج من نسق أم صالح في المطعم والملبس والزراعة، أما رحاب جاءت تدفن جراحها مع (على) في رمل الصحراء الذي غدر بها وبعد فترة يأتي إلى قلبها عمر الحضرمي ليداوي الجرح كاملاً.
أما سعاد فكان صوتها خارج من سياق الروح إلى الجسد المحبوس في منزل المخمور سعد آل معبل لتخرج إلى متعب المغارة السحرية التي خلصتها من سجن آل معبل.
صوت الصحراء في [أم صالح – موضي – شيخة، البندري، منيرة، نوال].
- أم صالح: غادرتها الأ،وثة ß = مميزات الذكورة.
- موضي ß حظها عاثر في الحياة. استيقظ قليلاً من خلال جسد ابنتها البض ووجهها الجميل.
- شيخة: نهمة للحياة.. الشبقة جسدها مؤشر حياتها.
- البندري ومنيرة: صوتهما يمثل الصحراء.
- نوال: صوتها البوصلة التي تريدها الكاتبة تدل على ثمة ارتقاء وبلوغ إلى مرحلة النضج السوي للمرأة السعودية في التفكير والنظرة للحياة، حيث الزوج (متعب) الذي تثق فيه وتتركه لا تفتش في جيوبه بحثًا عن رائحة امرأة أخرى مختبئة في عطفات ثوبته([114]).
- استدعاء صوت الشخصية في رواية (بيت الطائفة)
ظهرت لنا أصوات الشخصيات في الرواية على مستويين هما:
- الصوت النامي تصاعديا في شخصية (نورة، إبراهيم) (الزوجان).
- الصوت العابر الثانوي في (نوف، ومعتز، وعزيزة).
فالرواية خطاب أنثوي معلن ومصرح به للآخر، فإن الكاتبة كانت راويًا عليمًا وضعت كل الأصوات بيد بطلتها نورة التي استطاعت في نهاية الرواية أن تصنع لها عالمًا خاصًا ليس لصوت الرجل عليه سلطان “بيت الطاعة”؟! ماذا تعنين؟ سأله بتوجس: “أعني حياتي مع إبراهيم ربما لم أحدثك عن هذا الموضوع تفصيلاً من قبل، ولكنني أعيش معه منذ بداية زواجنا تقريبًا يشبه بيت الطاعة، لا أدري ما مفهوم هذا البيت من الناحية الشرعية، سمعت عنه فقط في الأفلام العربية والمسلسلات، وأشعر كأنني عشت حياتي معه بالمفهوم العام فيما يشبه هذا البيت، فلم يسمح لي أبدًا بمناقشة أي أمر يصدر عنه، فقط يجب أن أوافق دون أي حوار أو تفاهم”([115]).
نلاحظ تشكل الذات الأنثوية الواعية رُكنا هامًا من خطاب الوعي للكتابة، لأن وضع المرأة المزري ركن هام في خطاب التخلف، يأتي وعي الذات الأنثوية وصوتها أقرب إلى مناقشة المفاهيم السائدة، والتركيز على كيفية الخروج من عبودية النسق الثقافي في المجتمع السعودي – فوعي الرجل غالبًا – سلطويًا بكل الأعراف السائدة. في حين “أن الذات الأنثوية وفق محددات هويتها الخاصة تتمَّيز بأن لها فضاءً محددًا داخل هذا الفضاء الواسع”([116]).
ولعل كلمة (بيت) المنكرة والمضاف إليها (الطاعة) تدل على رفض الشخصية (نورة) البطلة للمكان، وهو مكان الزوجية، بيت معدوم الحوار الأنس النفسي مع الزوج، فصوت الشخصية هنا يمثل نوعًا من الهروب الاجتماعي الذي تفرضه عليها الأسرة والحياة العامة ليس مجيء نورة إلى البيت سوى للطاعة العمياء. والقلق النفسي والإحساس بصوت الهزيمة أمام سلطة إبراهيم الزوج. “يا أخي لا أرغب في السفر هذه السنة أنا حرة هذا السفر استجمام يجب أن يكون اختيارًا وليس إجبارًا قالتها نورة لإبراهيم ا لذي كان يناقش رفضها.
“الأمر ليس قرارًا تتخذينه فردياً، وحدك فالجميع اتفق على السفر ولذا لا مجال لنقض الاتفاق أو الخروج عنه” رد محاولاً التحلِّي بالهدوء.
أنا المعنية بالاستمتاع بالسفر وأعلم بأنني لست في حال تسمح لي بالفسحة والتمتع، أنا أَمُّر بوضع استثنائي.. ألا تفهم؟ قالت متوسلة”([117]).
نلحظ الأنثى الاجتماعية (نورة) التي تعاني من التقاليد الظالمة، فنجدها محاصرة بقيودها البيئية والمجتمعية، وقد استمدت هذه القيود شرعيتها من الموروث الاجتماعي الذي يُعْلِّي الذكورة على الأنوثة في كثير من جوانبه، بدءًا من ظروف التنشئة ومرورًا بالمراحل العمرية المختلفة. حيث يضع النص السابق مجموعة وفيرة من الأحداث، التي تلقي الضوء على القهر الاجتماعي المسلط على الأنثى.
صوت نورة ß مقابل صوت إبراهيم.
إبراهيم ß طالب السفر.
نورة ß رافضة.
إبراهيم ß رافض عدم السفر.
نورة تتوسل ß إبراهيم.
صوت إبراهيم ß يرفض التوسل.
(فنورة) تمثل الأنثى بصوتها على مستويين: مستوى الأنثى المثقفة المتعلمة – (المدرسة) والأنثى النمطية الخاضعة للذكر خضوعًا مطلقًا، تخاف منه في حضوره وغيابه لذلك فإنها تحاصر تصرفاتها بالكتمان في بيت الطاعة. لم تكن عملية فرز الشخصيات وأصواتها الروائية بالعملية السهلة بل هي نتيجة قاهرة ومجاهدة شديدة. فعلى الرغم من محاولة محاكاة الشخصية للواقع فإنها بدت معجونة بفكر المؤلف الضمني وثقافته، ولم تكن “مجرد تصوير فوتوغرافي أو انعكاس مرآة لواقع الحياة، ولكن هناك دائمًا شيء مضافُ وراء عملية الاختيار: اختيار الكاتب للشخصيات من منطلق أن أي كاتب لا يمكنه وصف أي شيء مهما كانت قدرته على الملاحظة، ومهما اتسع أمامه الوقت”.
سوى بإضافة بعض الاستدعاءات الصوتية والأفعال الحركية لتنمية دور الشخصية أثناء الحوار([118]) في رواية بيت الطاعة استعانت الكاتبة بالغناء والموسيقى والرياضة البدنية.
“فوجئت نورة باتصاله وبما قاله أكثر، فلم ترد عليه.. لذلك التزمت الصمت ولم تسأله، كما توقع هو، ما الذي كان ينقصه صمتت، وصمتت ساد الهدوء بينهما، فترامى إلى سمعها صوت محمد عبده ينبعث من جهاز ما عنده مُغنيًا:
كل جرح فات له منك هدية…
ويش بلاك تخاف من رد الهدايا…
لم تجبه – بل بقيت صامتة. فترامت إلى سمعها كلمات الأغنية
ما بقي لي قلب يشفع لك حظية ذويت الجراح صدك والخطايا
كل جرح فات لي منك هدية
وش بلاك تخاف من رد الهدايا
وإن بقي للحب في قلبك شظية وش يقول اللي عند قلبه شظايا؟
عندها قالت له: لقد أجابتك الأغنية”([119]).
تجمع الرواية السعودية النسوية وشائج كثيرة بالفنون الأخرى، فإلى جانب الفنون الأدبية المعروفة من شعر – ومقامه ورحلة. ومذكرات يومية، مما استدعى أصوات الغناء في نسيجها السردي فغازلت فن الرسم وفن الغناء وفن الموسيقى، تلك الفنون لوَّنت نصوص الرواية بمناخات جديدة ودفعتها نحو عوالم إبداعية أخرى لتدخل معها في حوارية فنية من شأنها أن تنتج نصًا حداثيًا يقطع مع تلك الأجواء ومناخاتها التقليدية التي كانت سائدة في الرواية الكلاسيكية وإنصافاً للرواية (بيت الطاعة) لا ترتكب بهذه الممارسات خطيئة أو انحرافًا إنما فن التنوع بامتياز وفن الاحتواء بلا منازع فهي (أي الرواية التي تميل إلى ابتلاع جميع الأنواع الأدبية الأخرى تقريبًا بل، ابتلاع فنون أخرى)([120]).
فتمثل الرواية للغناء والرسم الذي يعددان من أكمل الفنون كما لهما من علاقة قديمة وأصلية في فن الرواية كما أثبت ذلك الناقد الفرنسي ميشال بوتور في مؤلفه بحوث في الرواية الجديدة “إذ أثبت وجود علاقة جدلية بين الفن الروائي وفن الموسيقى بقوله “إن الموسيقى والرواية فنان يوضح أحدهما الآخر ولابد لنا من نقد الواحد منهما من الاستعانة بألفاظ تختص بالثاني”([121]).
(فنورة) زوجة رومانسية تعشق الحياة والمُثل القائمة على الاقتناع والحوارية، وقعت في بيت الطاعة مع إبراهيم الذي لا يسمع إلا نفسه في علاقة بينه وبين (نوف) موظفة البنك.
في عتاب غنائي لإبراهيم ومناجاة النفس لـ(نورة) مع غناء محمد عبده الذي يناسب الجرح القائم على أعتاب بيت الطاعة. (وإن بقي للحب في قلبك شظية وش يقول اللي غدا فليه شظايا… سوى الصمت أمام عنفوان الخيانة).
وإذا تركنا مضامين تلك الأغاني جانبًا ونظرنا في ما يمكن أن تحدثه هذه الاستدعاءات.
[مقطع سردي ß مقطع غنائي ß م. سردي]
فالرواية لا تتعامل مع المقاطع الغنائية بشكل عفوي بل عن قصد فني، فهذا التنوع في الغناء يحدث حالة من الحوارية داخل الرواية، تحول النص لوحة من الأصوات ولكن ذلك يحدث من غير فوضى لأن المقاطع الغنائية موظفة بشكل دقيق وممهد لها بطبقة من السرد فيأتي المقطع الغنائي ليعضد السرد ويسنده لا ليربكه ويشوشه. فالمقطع الطربي الرومانسي يشي بخفوت حركة السرد والأحداث الخارجية لتتحول الحركة إلى حركة داخلية للرواية تصور الإحساس الداخلي لمشاعر الحب، وتفتح مخازن الأنوثة عند (نورة) لتحلِّق في فضاءات العشق والتأمل في الجرح الغائر في قلب نورة.
- استدعاء اللون.
الرواية لا تقَّدم فكرتها مجردة أو في صورة تقريرية، وإنما تخضعها لتنظيم خاص منبثق من منظورها الذي تنطلق منه. أو بمعنى آخر إن اتجاهات الكاتبة هي التي تحدد طبيعة تعاملها مع تقنيات السرد لأن عالم السرد يمثل نسقًا متكاملاً لمفهوم الرواية. “ووفقًا لهذا التصور لا ينبغي النظر إلى العناصر السردية المكونة للعمل الفني على أنها منفصلة عن بعضها البعض بل ينظر إليها في علاقتها المتشابكة، لأن كل عنصر يتداخل مع غيره في علاقات تكون الوحدة المتكاملة للنص”([122]).
فاللون يمكن اعتباره عنصر من عناصر مصادر الرؤية في السرد الروائي لما له من أهمية في توضيح الشكل المكاني للأحداث في جميع الأوقات من تغيير نسبة الضوء وانعكاساته على المكان الذي يعتبر مصدر إلهام الكاتبة الروائية “فالمكان وما يمثله في الرواية هو الذي يشكل مجموعة الأشياء التي تشغله كالأثاث والبشر ولون الملابس”([123]). هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن الرواية تشبه الفنون التشكيلية من حيث تشكيلها للمكان أو لأن المكان أهم المظاهر الجمالية الظاهرة التي تبرز دور اللون وغيره من الرموز التي توظف توظيفًا جماليًا لإضفاء الدلالات على مسار النص([124]).
– دلالة استدعاء اللون في الفضاء المكاني:
يشير مفهوم المكان إلى [الحيز والموضع والمحل والفضاء] ([125]). وبتعدد هذه الدَّلالات للمكان نستنتج أن المكان يُستمد من الأشياء المادية والملموسة بقدر ما يستمد من الأشياء المجردة والذهنية، [فالمكان في السرد يعبر عن أبعاد مصنوعة بواسطة الألفاظ لا من الموجودات أو الصور] ([126]).
ومن هنا يظهر تعالق آليات السرد مع لغة الحكي لتظهر القيمة الوظيفية للمكان فهو “يشير إلى مضمون ومعطيات طوبوغرافية حول الحدث المتخيل والمروي”([127]).
اللون إحدى مدركات الحسية للمكان الذي يمنحه الوصف والخصوصية، فاللون الفاتح مثلاً يعطي المكان انطباعًا خاصًا لا يعطيه اللون القاتم. ولكنِّ المكان في الرواية مكان خيالي قائم على الدلالة اللغوية، فهو مختلف عن المكان الحقيقي تمامًا، حيث له مقوماته الخاصة وأبعاده الخيالية [ومن هنا يمكن لنا القول إنَّ المكان في الرواية مسرحًا للأحداث على اعتبار أنه يقوم بالدور نفسه الذي يقوم به الديكور في المسرح] ([128]). فالروائية تتفاعل مع الطبيعة كما يتفاعل الفنان التشكيلي مع اللوحة ومن خلال ذلك يبث في البنية السردية تعبيرات لونية ذات تأثير من حيث الميل إلى الاطمئنان والهدوء أو الإيحاء بالرعب والخوف على نحو يناسب حالة الانفعال المصاحبة للون الروائي حين يفعل ذلك يحيل اللون إلى قوة فاعلة مؤثرة في المكان) ([129]).
وبناءً على ذلك فاللون الأسود المظلم يبدو مناسبًا للشخصية الكئيبة أو المتشائمة، وهذا يتوقف على إدراك المبدع لطبيعة تشكيل الفعل السردي الذي يمنح المكان هويته المادية والمعنوية وما يوازيهما من قيم اعتبارية ثقافية ودينية وسياسية واجتماعية ونفسية بحيث يصيغ الروائي على المكان ألوانًا تَنُّم عن وعي فني، في رواية (عيون قذرة) لقماشة العليان 2005م، تقول الروائية: “تعثرت الكلمات على شفاهي، فلم أنطق بحرف.. بدا ناصر مرتبكاً وهو يقول تقابلت مع (كاتيا) بالمصادفة وطلبت منها مرافقتي للتسوق.. تعرف وافد جديد إلى لندن، ولا أعرف كيف ابتاع حاجاتي. نقلت نظراتي بينهما بريبة، فلا تبدو على أي منهما أنهما قد تواجها على حين غرة.. فكاتيا في أتم زينة وبهاء، وناصر يرتدي بذلته الجديدة التي ابتعتها معه منذ أيام.. علامات الاستفهام والتعجب والاستنكار تنهمر على مع حبات المطر فتغرقني بنحيب الصمت.. غادرتهما لا ألوي على شيء ولندن تذوي أمام ناظري وتتلون بالسواد..” ([130]).
فالمكان – لندن في الرواية يراها المتلقي بعيون (فيصل) الشاب المهزوم والمصدوم بحضارة الغرب في عيونه القلق والحيرة والشك والانهزامية في المقطع السابق.
فلون السواد يقابله النفسي في شخصية (فيصل) القلق والخوف والحيرة، فالألوان المكانية ترتبط بشعور الشخصية “لأننا نستوعب الانفعالات والمشاعر التي تنتابنا جراء طيف الألوان المتعددة عندما نستطيع أن نتحكم بإحساسنا بالمكان وفق رغباتنا، فالألوان تجذب الانتباه وهي أساس للتفسير الثقافي للانفعالات”([131]).
فلون الأثاث والستائر والسجاد جعل صوت المكان متحدثًا شعوريًا وواصفًا الإحساس الإنسان وحركته داخل هذا المكان.
في رواية البحريات لأميمة الخميس 2006م “حضر السائق الذي سينقل (رحاب) إلى نخل آل معبل، رن الجرس ووقف بجانب الباب حييًا دمثًا خجولاً، أطلت رحاب فرأته واقفًا هناك أسمر مزرقًا كسمار الهنود، منكسًا وعلى استعداد لتلقي الأوامر، وعندما ركبا سويًا في المصعد وكان المصعد ضيقًا ومن خلال رأسه المنكس وحقيبتها الضخمة أحسته قريبًا منها للغاية ووجدت أنه من الخطأ أن تستقل المصعد الضيق وإياه كان من الواجب أن يهرول على الدرج حاملاً حقيبتها المحشوة بالكتب التي ستزلزل الجهل في أدمغة (بنات آل معبل) كما ترى منظر السائقين في الأفلام المصرية”([132]).
فلون عمر الحضرمي الأسود والحالة النفسية التي تعاني منها رحاب هي حالة الغربة والضياع من خطيبها (على) وخاصة إذا نظرنا لضيق المكان في المصعد الذي جعلته رحاب هروبًا يجب أن يكون من عمر الحضرمي، السائق يكشف لنا المدى النفسي لشخصية رحاب وما تعانيها من ضيق وضجر وخوف.
وفي رواية اللعنة/ لسلوى دمنهوري 1994، نلاحظ اللون الأحمر ولون عباد الشمس وزهرة البنفسج: حين نقول “بيتنا.. أتذكره جيدًا.. كان مميزًا.. مؤلفًا من طابقين سقفه من الحجر الأحمر في شكله يشبه الكوخ به حديقة صغيرة مليئة بالرياحين وعباد الشمس وزهرة البنفسج”([133]).
المكان يشمل على هذه الألوان: الأحمر، الأصفر، البنفسج، نحن أمام حواس الراوي العليم من اللون والرائحة، البصر والشم، أنه التذكر بالحواس وأزلية المكان في الألوان. وتذكر الطفولة والإحساس بالقلق والحيرة.
وفي سياق آخر يوضح طبيعة الإحساس بالمكان واللون معًا في عملية الوصف السردي وتفاصيله بصورة يقتضيه المضمون السردي بحيث يتحول الوصف اللوني للمكان إلى مادة روائية مهيمنة تقوم بدور إيجابي يؤسس لعلاقة تعارض يُحَمِّل الرمز اللوني فيها جميع الدلالات اللازمة وفي هذه الحالة يصبح اللون هو القائم والقائد للمعنى في سياقه.
في رواية (خاتم) لرجاء عالم.
القبو ß مكان مظلم أسود، غير واضح المعالم لذا يناسب العبيد.
في بيت (نصيب) المكان الذي تجرى فيه الأحداث يتكون من ثمانية طوابق لكل طابق مفتاح له سر فكل مفتاح يسلَّم، لكل بنت من البنات والطابق السابع محجوزًا للابن الذي لم يُولد، أَمَّا الطابق الثامن بلا مفاتيح، تسكنه الأم (سكينة) مع عائلة آل نصيب، وبعد ولادة (خاتم) يخصص له الدور السابع، إلا أنها تظل مرتبطة بالدور السفلي.
يدل على السجن المعنوي لـ(سكينة) حيث تظل إلى الموت محبوسة في (جسد أنثى) حين تقول الرواية:
“حكاية البيت انطلقت، ربما من الباب، قام من زمن متأخر بآخر الدهليز/ لم يكن الباب موجودًا في جسد البيت الأصلي، لكنه ظل موصدًا بلا مفتاح لزمن حتى شمله النسيان، فانفتح دون أن يعتني بانفتاحه أحد، فإذا هو بدرجات هابطة بأرض الجبل – تقود لمقاعد سفلية وأقبية بإسطبل”([134]).
الحكاية = الباب بدون مفتاح
النسيان = دهليز = قبو = إسطبل
هذا الباب لم يكن موجودًا قبل ولادة خاتم، ثم “مضت أيام صار عمر الباب شهر، شهران، باب يتعلم المشي في الدهليز الذي أخذ يتمدد ويشهق سقفه في الضوء الشحيح، ضوء يخنق كل شوق”([135]).
الوصف اللوني ß أبيض = ولادة خاتم انتماءه إلى عالم السيادة.
وفي رواية (مزامير من ورق) (لنداء أبو على) نلاحظ اللون الأحمر ولون الشمعة ولون حرق السجائر هو حرق الشخصية داخليًا في المقطع التالي: “الشموع منتشرة في أرجاء الشقة تنتظر منه إشعالها.. يذكر تلك الأيام الحمراء التي كان وقتها يشعل الشموع، يذوب ويناجي آسرة قلبه الذهبية.. يرتمي على أكبر أريكة.. يتمدَّد بتكاسل ويشعل سيجارة.. يحرقها وهو يتخيل روحه تحترق معها..” ([136]).
فالشموع المنتشرة في المكان في انتظار مَنْ يشعلها.
ذوبان الشموع = ذوبان الشخصية.
لون الرماد في السجائر ß لون الحالة النفسية للشخصية.
في هذه الأفعال المضارعة “يشعل – يذكر – يذوب – يتمدَّد – يناجي – يحرق – يتخيَّل – يشعل سيجارته – تحترق” استدعاء الأفعال المضارعة التي تدُّل على الحركة والتفاعل ما بين الشخصية صاحبة المكان والأشياء الموجودة في هذا المكان، ومن الأشياء الموجودة في المكان
الشموع
الأيام الحمراء |
يذوب
يناجي |
الشخصيـة | حالة الشخصية قلق وتوتر تتلاشى |
1
– علامة اللون الأسود والأبيض بالشخصية في السرد:
إذا سلَّمنا جدلاً أن الشخصيات في الرواية هي حاملة الأفكار والسّمات العامة التي تريدها الكاتبة “وتتحدد مجمل السمات في الملامح التي تشكل طبيعة الشخصيات من خلال الصفات الخلقية والمعايير والمبادئ الأخلاقية”([137]).
ومما سبق يتضح أن اختبار الشخصية في الرواية لا يكون عبثًا (مجرد اسم وصفة) بل لابد من ضوابط فنية يرسمها المبدع ليبَّرر وجود هذه الشخصية تبريرًا موضوعيًا بحيث لا يفرض رأيه عليهم، فسلوكهم معلل ونوازعهم مفسرة. وفي علاقة اللون بالشخصية فسيتم استقصاء السمات اللونية التي يسردها الكاتب ليسعى من خلالها لوصف المظهر المجسم للشخصية داخل النص ويكون ذلك عن طريق ربط اللون الدال على الشخصية مع أبعادها [وذلك عن طريق تتبع سلوك الشخصية من الداخل والخارج في أساليب السرد كالمنولوج الداخلي والاسترجاع المباشر والتداعي من الشخصية ذاتها أو عن طريق ما يخبر به الراوي عنها] ([138]).
والروائية تخبر عن الشخصية بطريقتين:
1- طريقة الوصف المباشرة أو الخارجية: “وهي طريقة تعتمد على الوصف الخارجي للشخصية وهذه الطريقة لا تحتاج إلى جهد القارئ في الكشف عنها (لأنها تكون جاهزة عن طريق الوصف للعمر أو الزي أو الحركات أو هيئة الجسم) ([139]).
في رواية البحريات لأميمة الخميس (بهيجة):
“كانت فاقعة – مفرق شعرها الكستنائي المشقَّر يلتمع تحت غطاء رأسها (التل) الأسود الشفاف الذي يغطي رأسها، ومن ثم يستدير حول وجهها وعندما يلامس وجنتها البيضاء المرتفعة اللامعة كان يزيدها غرابة”([140]).
لوحة بهيجة = الشعر مشقر لامع، غطاء الرأس أسود شفاف، الوجه أبيض بحمرِّة، اللوحة كاملة أنثى مكتملة.
الأنوثة: هذا الوصف للشخصية (بهيجة) يَدَّل على كيفية اختبار الاسم لصفة دالة عليه. من أول فصل إلى آخر الرواية.
2- الطريقة غير المباشرة أو الداخلية: حين يترك الروائي الشخصيات تُعِّبر عن نفسها وأفكارها وعواطفها واتجاهاتها وميولها مستخدمًا التركيز على (الفلاش باك) والتأملات والأحلام التي تكشف الشخصية كشفًا نفسيًا عميقًا، وبعد ذلك يُترك للقارئ استنتاج صفات الشخصية من خلال الأقوال وردود الأفعال، واللون يساعدنا في كثير من الأحيان على فهم عالم الشخصية الداخلي. فالشخصية الحكائية [كما يقرر (رولان بارت) كائنات من ورق؛ لذا فإن تواجدها مقصور على عالم السرد وإن كانت تستقي محدداتها من الوجود الإنساني] ([141]).
فإن الصفة اللونية هي دال على سلوك الشخصية والشخصية هي مدلول عن طريق الصفات والأسماء والملبس التي تحيل إلى علامات لونية نعرف من خلالها البناء السلوكي من خلال اللغة الوصفية المحاورة للشخصية تبعًا للدور الذي تؤديه [وذلك لأن الكلمة تأخذ دلالتها من خلال الدور الذي تؤديه داخل السياق، والاعتماد على الفعل الدال على لون في تحليل الشخصية يعني ربطهما معًا مثل حصان وعربة، بحيث يظهر تفاعلهما في المتن] ([142]).
ومما سبق يمكن لنا أن نلاحظ التلاحم بين الذات والوصف اللوني الدال عليهما في رواية (خاتم) لرجاء عالم، التي تعمدت اللعب باللون والوصف له لإثبات حقيقة المساواة الإنسانية بين الجنسين لجأت الكاتبة إلى فكرة التلاعب اللوني لتجنب الطرح التقليدي للموضوع من خلال شخصية (البنت/ الولد) (خاتم) المختلط بين لوني الأبيض والأسود. فالكاتبة سعت عن [ طريق المزج إلى توليد شخصية أخرى وهمية بالاعتماد على الطبيعة البيولوجية كرهان موضوعي يحاكي الواقع وإنجازًا منها عمدت إلى لون جديد من الاستعارة، وهي استعارة بيولوجية نقلت النص إلى مرحلة قصوى من التعقيد والتشابك ليصبح النص من نسيج مختلف مبني على استعارة لونية تبنت مضمون البياض والسواد] ([143]).
كان الهدف من ذلك إيجاد حدود مشتركة بين اللونين يتمخض عن هذه الحدود صفات الطرفين.
تقول الروائية خاتم عند الولادة “كتلة حمراء مقطعة في خرقة رمَّانية،… أغلق على السرة بريال فضة وختم على النزف بالعنبر الأسود”([144]).
اللون الأحمر: أصل الخلقة وهو صفة الدم المكون للجنين، يستمد منه الدلالة على أصل الإنسان (خاتم).
الغلق مرتبط ببياض الفضة.
والختم ارتبط بسواد العنبر، يستخلص من ذلك أن اللون الأبيض واللون الأحمر كلاهما مدار لعبة السرد (فخاتم) عاش في قطيعة مع جسده، فهو يبحث عن هويته هل هو ذكر أم أنثى: “كان شعور خاتم ملتبسًا تجاه ما يحدث، لها لا تعرف أتحتاج متخذة موقفًا، نحو الذكورة أم الأنوثة، أو تستسلم لنعمة الوجود بين العالمين”([145]).
لذا عاش (خاتم) كائن خطِفَ من جسده ونقل لجسد آخر لا هو أنثى ولا هو ذكر ففي الأفراح والولائم أنثى. وفي الصلوات والأعياد ذكر فشخصية (خاتم) تدخل مع من حولها في علاقات مختلفة (تشابه – تضاد – تقابل).
خاتم مع (سند) الذكر الذي تبنته أسرة خاتم فـ[كلاهما في ثوب أبيض أشبه بقفطان، لا يميز جسدهما غير نحول خاتم وانفتال عضلات سند) ([146]).
(خاتم) مع (هلال) علاقة ضدية مع توافق دلالة البياض، لأن هلال منحرف وقاتل وفي الكشف عن حقيقة الإنسان. “فالإنسان بمضمونه وليس بمظهره الخارجي والظاهر والباطن هو المعنى الخفي لرحلة خاتم بين جسدين، إنّها محطة وسط الفراغ الذي نغلفه دومًا عند تقييمنا للإنسان”([147]).
خاتم ß أخواتها ß علاقة تضاد يمكن العثور على هذه الدلالة من خلال هذا المقطع “إن خاتم بين شقيقاتها السمروات تضيء مثل حباحب البركة”([148]).
الحُباحب: حشرة صغيرة مثل الجندب تطير في الظلام وتضيء بلون أحمر وأصفر”([149]).
هذا الوصف اللوني يظهر تميز خاتم فدلالة اللونين الأحمر والأصفر هنا تشير إلى البياض/ لهذا بدا بياض خاتم غير متوحد مع بياض هلال “البياض في اللباس وليس الجسد”، ومرجع ذلك إلى ما يلي:
خاتم ينفر من ذكورة هلال/ هلال يتوهم أنوثة خاتم، ويتضَّح لنا أن التعامل مع اللفظ اللوني كعلامة سيميائية محددة لهوية الشخصية أسهم في تكوين تركيب جديد يعتمد على المظهر اللوني (أبيض/ أسود) في التضاد.
3- استدعاء اللون الأخضر في الرواية النسوية:
اللون الأخضر يرمز إلى مسألة القداسة في الكوميديا الإلهية لدانتي استخدم اللون الأخضر للرمز إلى قوى الأمل. وبصفة عامة يظهر اللون الأخضر في السرد النسوي السعودي بصفته اللون المريح، وبمعنى الحياة وبغيابه يكون الموت [ووجد الباحثون أن اللون الأخضر هو لون الطاقة والحيوية إذ يتمتع الأشخاص الذين يفضلونه بالنشاط والحيوية والديناميكية والشجاعة والحساسية الشديدة وأنهم يهتمون بالجانب الحسي أكثر من اهتمامهم بالجانب المعنوي] ([150]).
فاللون الأخضر عند رجاء عالم يعني القداسة الإسلامية في الحرم المدني حين تقول: “تحت القبة الخضراء وقفت خاتم بكامل ثياب الذكر تغتسل بالماء المقدس”([151]).
وفي موضع آخر “الفجر حين يحل في المسجد النبوي يترقش بخضرة طالعة من الحضرة المخفية بالأستار”([152]).
وفي رواية (سفينة وأميرة الظلام) لمها الفيصل حيث ذكر السَّارد “أنه صلى في مسجد أخضر بديع البناء”([153]).
فاللون الأخضر هنا لم يأتِ بالمصادفة، فهو رمز لأهل الجنة، فملابسهم من سندس أخضر، وهذا ما يدعم قداسة اللون وتفاؤل الشخصية، وحبها للحياة والأمل. كما أن اللون الأخضر يحيلنا إلى لون رائحة العفونة كما في رواية (خاتم) أيضًا “ذباب أزرق يحول حول محجرية بينما أسنانه مهترئة وما بقي منها تغطيه خضرة كما لو غرفت من طحلب”([154]).
فاللون الأخضر حياة وأمل وتفاؤل
موت ورائحة العفونة والاستياء
في رواية (عيون قذرة)، يقول السارد “في الحادية عشرة بدأت معدتي تصرخ من الجوع قررت أن أصبر قليلاً حتى موعد الغداء.. قادتني قدماي لأحد الفنادق بحثًا عن عمل.. رمقني المدير بعينين خضراوين حادتين من أعلى إلى أسفل بدءً من شعري المتطاير وحتى ثيابي الرثة وحذائي القديم المتهالك إلى أعمق أعماقي حيث الجوع والغضب والاستياء…” ([155]).
في عيون المدير الخضراء تعتمد على ثنائية الحياة من التفاؤل والأمل أو الغضب والجوع والاستياء. فنحن أمام شخصية المدير ببساطتها وتفاهمها ووضوحها، محب للحركة والنشاط والدقة في العمل.
وفي تناقض تام بين سلوك الإنسان وما يرتديه من ألوان، وثياب حسب احترامه لثقافة البيئة التي يعيش فيها تظهر لنا ازدواجية وتناقض هذا السلوك في قول السارد/ سارة بطلة رواية عيون قذرة “تلفتُ حولي بذهول فعلاً، فبعد أقل من ساعة على صعودنا الطائرة تحولت أغلب النساء من أجسام مجللة بالسواد إلى ممثلات ومذيعات وعارضات أزياء من الدرجة الأولى.. قبضت على نقابي بشدة وكأنني أخشى أن ينتزع مني قسرًا.. هتفت نافية – كلا – لا.. لن أخلع نقابي أو عباءتي”([156]).
فاللون الأسود هنا رمزية الوقار والاحترام فحين تجللت المرأة بالسواد داخل المملكة أكسبها اللون نسق ثقافي خاص بالزي واللون معًا. وحين خرجت المرأة من بيئة الحياة داخل المملكة إلى خارجها وخاصة (لندن) بلد الحرية والتحرر. ظهرت بملابس عارضات أزياء. فازدواجية المكان = ازدواجية اللون واللباس، إن أهم ما يجب معرفته عن حياة الشخصيات في هذه الرواية يتمثل في الحياة البائسة والكئيبة التي تعيشها لذلك فمهمة اللون فيها تعتمد على المحيطين الداخلي والخارجي، فالظلام والسوداوية شملت العمق الداخلي أي أن اللون الداخلي يأتي لخدمة المضمون. أما السواد الخارجي فيمثل خصوصية بالنسبة للمرأة في الرواية مجتمع الكاتبة نفسها لكن هذه الخصوصية تمتد إلى أماكن خارج مجتمع الشخصية الروائية فقد رصدت الكاتبة فكرة التعارض بين الشرق والغرب في معاناة الشخصية من لحظة صعودها الطائرة وحتى عودتها إلى الوطن “التفتت سارة إلى جارتها حتى أن من يراها قبل لحظات قد لا يعرفها أو يصدق أنها هي”([157])
نلاحظ تخلص المرأة من اللون الأسود حين تكون خارج الوطن (السعودية) وترغب في اللون الأسود حين تكون في داخل الوطن في سؤال (روبين) لسارة “لماذا كسرتِ زجاجة الحبر الأخضر؟ التي كنت أرسمك بها.. وصرت امرأة بالأبيض والأسود”([158]).
مكونات الشخصية بطلة الرواية (سارة) السيكولوجية وفلسفتها في الحياة فتحكم فتتحكم تصرفها إزاء الحضارة الغربية وتقاليد الحياة فيها بالإضافة إلى الفهم الخاطئ للدين الإسلامي الذي تعتنقه فقد كان فهم (سارة) تقليدياً لا مرونة فيه فكانت التقاليد والعادات هي الأكثر تأثيرًا في تصرف هذه الشخصية فقط رفضت اللون الأخضر في رسمها وهو رمز الحياة والأمل والتفاؤل.
1-استدعاء اللون الأحمـر:
الأحاسيس التي يثيرها اللون الأحمر هي أحاسيس مركبة من الخيالي والواقعي والتضحية والهزيمة [فهو يمثل ثنائيات مضادة بين طرفين أحدهما موجب مثل التضحية والفداء، والخصوبة والتجديد والحياة وطرف سالب منها الموت والهزيمة والدمار والثأر] ([159]).
فاللون الأحمر في رواية (خاتم) جاء محملاً بانفعال سالب وهو الحسد [انظري لقلب هلال تجدينه مثل قطعة من جهنم انظري لعينيه لكأنهما جمر حين ينظر إلينا أنا وأنت] ([160]). فالحسد في قلب هلال بلون الجمر الأحمر في النظر إليَّ أنا الساردة وخاتم [وقد أشارت التحليلات التي أجراها علماء النفس أن اللون الأحمر يثير النشاط الجنسي ويبعث على البهجة والانشراح لكونه من الألوان الساخنة] ([161]). ففي رواية (سفينة وأميرة الظلام) فقد رأت الجنية هلباجة في حرارة اللون الأحمر مجالاً للإيقاع بسهل (فتشكلت على هيئة امرأة تتشح برداء أحمر) ([162]).
وفي رواية (سعوديات) لـ (سارة العليوي) كان اللون الأحمر معبرًا عن الحب والشوق والحنان كاشفًا أبعاد ارتباط الشخصية بين اللون الأحمر وشخصية – جود – مع بدر “وانصرفت جود إلى غرفتها وهناك تفاجأت مما رأت حيث شاهدت علبة موضوعة على سريرها مغلفة بغلاف أحمر اللون ويزينها شريط ذهبي اللون ودبدوب أبيض صغير يتربع على طرف العلبة وكرت في يد الدب قرأته بصوت خافت وكأنها تخشى أن يسمع ما فيه من كلمات ويكتشف ما فيه من المعاني؛ لذا فضلت أن تقرأه بصوت خافت حتى مع علمها أنه لا يوجد أحد غيرها في الغرفة “أكيد أحبك”([163]).
فعلبة الحب مغلفة بغلاف أحمر فدلالة اللون الأحمر، بما فيه رمز الجمال، وتعبيرًا عن عالم الحب كما نجد اللون الأحمر، له عدد كبير من التعبيرات التي ترصد دقة استخدام تدرجات هذا اللون ما بين تلوين الخد بحمرة الورد والتفاح في الخجل، وحمرة الدم في حالة الغضب أو حمرة الشفق لحظة الغروب، وهي درجة تختلف عن حمرة الأفق في الصباح، كما في رواية (سعوديات) حين تقول الساردة “سرحت (جود) بهذه الكلمات وأحمَّر وجهها خجلاً فهذه المشاعر جديدة عليها وتمتمت وكأن بدر يقف أمامها: “وأنا أحبك”([164]).
فمثَّل اللون الأحمر حالة نفسية عاطفية انفعالية، فاللون الأحمر غالبًا يمثل النار والغضب وإذا كان الأحمر ملتهبًا فإنه يعني الحرب.. أما الوردي فهو رمز الحياة والعواطف الحلوة الجميلة أي أنه تعبر على الانسجام وتفاهم عام مع الآخرين.
احمرار الوجه (لوجود) = حالة جود (الخجل)
الخجل يقابله ß حب من جود (لبدر)
حب جود لبدر يقابله ß حب بدر لـ(جود)
فدلالة اللون تؤدي إلى دلالة المشاعر، فجاذبية اللون الأحمر من الساردة لـ جود جعلتنا في حالة رؤية بصرية لحالة المشاعر الداخلية لـ(جود) تجاه بدر.
في رواية (بيت الطاعة) لـ (منيرة السبيعي): نلاحظ اللون الأحمر واصفا خيمة (نورة) – في بيت إبراهيم: “بدت الخيمة من الداخل كأنها مجلس بدوي عريق – كسيت جُدرانها بقماش شالكي داكن الحمرة، تتخلله زخارف زاهية الألوان أضفت على المكان دفئًا وحميمية. وفرشت أرضيتها بسجاد صوفي ملون يتماشى مع ذلك الطابع، أما الجلسات فكانت عبارة عن مخدات محشوة بالقطن ومغطاة بالقماش نفسه، بألوان أخرى ورَّصت على جوانب الخيمة مخدات مخملية ذات ألوان متعددة تتدلى منها خيوط ذهبية”([165]).
لجوء الساردة إلى الوصف اللوني للخيمة يعطينا إحساساً بالعمق الفراغي فالزوج سافر إلى لندن، وهي تعيش خاوية الفراش والنفس معًا فزوجها مُحِّب عليها (نوف الناهب) – فاللون الجانب الأول للرؤية في الخيمة والرامز إلى عواطف ثائرة وحب ملتهب والقوة والنشاط، فاللون الأحمر الداكن يعتبر أكثر الألوان ديناميكية في حيويته ودفئه وعاطفته فهو يرمز إلى العواطف المتأججة والغضب ويرمز أيضًا للحب كما يرمز إلى القسوة والغضب والخطر المحاط (بنوره) بطلة الرواية فهي محاطة بخطر عشق (إبراهيم) زوجها (لنوف الناهب) فمن خلال دلالة اللون يمكن لنا تفسير الحالة النفسية والشعورية، [فمادامت اللغة بصفتها مخزن للعلامات في العقل الجمعي يمكن أن تحيل إلى الإشارات اللونية بصفتها العرفية، لأن العلامة اللغة عبارة عن نظام من العلامات السيميوطيقية الاصطلاحية تشتمل على نسق ثقافي من دال ومدلول أو عبارة ومحتوى”([166]).
وبناءً على ذلك [فإنه عند الحديث عن اللون لا يمكن أن نغفل ارتباطه بالعادات والتقاليد الشائعة فقد ورد في التراث العربي أي لبس السواد] ([167]).
وفي ذلك يتفق الروائي المعاصر مع السياق الثقافي “في كون اللون الأسود يمثل الحزن ومسبباته من فقر وخوف وجوع، فالأحمر مثلاً يعني الهياج، والأصفر المرض، والأسود الغموض والخوف”([168]).
“قُلت (وش تبي هذي.. جايه تقهرنا؟” نعم؛ فقد لفتِّ نظري، بل أنظار الجميع، على ما أتوقع، بجمالك وحسن قوامك، فلو كنت أملك نصفه لساومت عليه كي أحصل على الراحة” احمر وجه نورة خجلاً وهي تبتسم في غبطة وزهوٍ”([169]).
فحمرة وجه نورة هو الخجل في مثل هذا الوصف فالبسمة والغبطة والزهو حالة (نور) النفسية والتي نشأت تلقائيًا حين وصفتها (ريم) في النادي الرياضي. كما أن اللون الأحمر عالميًا كرمز للخطر كذلك فإن غرفة مدهونة بالأحمر يمكن أن ترفع مستوى الأدرينالين بالدم، وهناك اعتقاد بأن وجود الإنسان في مكان محاط باللون الأحمر يزيد من نشاطه بنسبة 10% ويستعمل أحيانًا للدلالة على الغضب والقسوة والخطر. مما يجعل الفضاء السردي يموج بالحركة والحياة وتولد في حس المتلقي شعورًا جماليًا يدفعه إلى التوغل في عالم السرد وهذه الرموز اللونية يمكن أن نستضيء بها في تحليل مكونات البنية السردية.
استدعاء المكان
مثّلت الأعمال النّسويّة نسبة لا بأس بها من مجموع الأعمال، إذ بلغت ما يزيد على سبعة وعشرين عملاً روائياً، اعتمدت في مجموعها على المكان كبنية لها خصوصيتها المتفردة في النّصّ الروائي، إلا أن بعض هذه الأعمال قد تميّز في توظيفه لتلك الخصوصية واستثمارها كمادة لها أبعادها المتشابكة.
من هنا كان اختيارنا لنص الجسد الروائي التالي :
1) رباط الولايا لهند باغفار.
2) اللعنة لسلوى دمنهوري.
3) آدم يا سيدي لأمل شطا.
4) مسرى يا رقيب لرجاء عالم.
ولا يعني اختيار هذه الأعمال تفوّقها النّوعي بقدر ما يشي بتناسبها التام للموضوع الذي وصفه بأنه حيوي وفعّال في السرد، إذ تبدو الحاجة ماسّة أحياناً إلى التعرف على خصائص المكان وعلاقاته المتشكّلة نصّياً في الرواية الحديثة. كما لا يعني ذلك الاقتصار على هذه الأعمال فحسب، بل قد يمتد هذا التناول أحياناً إلى أعمال لم تسبق الإشارة إليها. ومن البديهي أن تطفو التساؤلات التالية التي تنبثق من محاولة مساءلة هذه الأعمال والحوار معها:
لماذا كان اختيار مكوّن سردي كالمكان في هذه الأعمال النّسويّة ؟ ولماذا تمّ إهمال المكوّنات السردية الأخرى التي يحفل بها النّصّ الروائي كالزمن والشخصية وزاوية الرؤية؟.
سيكون تلمّسنا للإجابة عن هذه الأسئلة نابعاً من السعي وراء محاولة استقصاء لذلك المكوّن السّردي المهمّ في النّص. فاستهداف المكان كمنطلق أولي للدراسة النقديّة في الأعمال الروائية النّسويّة سيكون بلا شك مدخلاً مناسباً للسعي وراء فتح آفاق هذه الأعمال الروائية واستنطاقها. ولعلّ ذلك يتم باستحضار العلاقات المهمّة التي تصل المكان ببقية العناصر السردية الأخرى، بل قد يتسلّط المكان وتصل سطوته حدّ التهميش لبقية المكونات السردية ولاسيما في نصوص سردية نسويّة كتلك؛ إذ تؤسس على المكان جوانب كثيرة لعل أبرزها: علاقة الذات الفاعلة بالمكان كمكون يسهم في تشكيل هذه الذات قدر إسهامها في تشكيله.
وسنهدف هنا إلى البعد عن تلك الثنائيات المكانية التي طالما اهتم بها الباحثون في إطار تناول الثنائيات كجدليات متناقضة داخل النّصّ الروائي، ساعين إلى تركيب شكل تكاملي لذلك المكون ربّما يطرح تصوراً عاماً عن أبجديته وأزمته في الرواية النّسويّة السعودية بوصفها نصّاً واحداً يسعى إلى استقلاليته وتميزه؛ ويطرح تصوراته الشعرية الجديدة إلى حدّ ما حول المكان وجمالياته.
ولذا ستكون مساءلتنا لهذه الأعمال منطلقة من المكان السردي في الجسد الروائي المقترح بوصفه لوحة متضمنة ثلاثة أبعاد مكانية توشك أن تشمل الرواية النّسويّة الحديثة لدينا. وهذه الأبعاد هي: المكان المنفي، والمكان المغلق، والمكان الأسطوريّ، مع مراعاة اختلاف الاتجاهات الفنية التي تتشكل بها الأبعاد الثلاثة، حينئذ يمكن أن تندرج بقية الأعمال النّسويّة ضمن هذه الأمكنة الثلاثة.
المكان المنفي
تحرص هند باغفار في روايتها التي بعنوان ( رباط الولايا ) على أن يكون عملها استنطاقاً لشخصيات منفية في مكان منفي وهي محاولة جادّة لتأصيل التراث الشعبي الحجازي عبر العناصر المتنوعة التي وظّفت في الرواية. ومن أبرز العناصر المجسدة لأبجدية المكان المنفي في هذا العمل:
العنوان
( الرّباط ) هذه المفردة التي تتشظى دلالاتها وتتنوع في اللغة العربية، فالرّباط في الأصل: الإقامة على جهاد العدو بالحرب، ما تشد به القربة والدابة وغيرهما..والرّباط الفؤاد كأن الجسم ربط به.. المواظبة على الأمر ، ويفضي ذلك كله إلى دلالات الرتابة والملازمة و الإغلاق، والرّباط كعنوان للرواية يقصد به ـ كما تحدده الكاتبة في القوائم الملحقة بعملها السردي ـ ” السكن الذي يُقدّم مجّاناً لمجموعة من السيدات المحتاجات، وقديماً كان يُقدّم من قبل المقتدرين من الناس، وكثيراً ما كانت تخصص هذه الأربطة كأوقاف لصالح الولايا”([170]).
والرّباط في النّصّ فضاء رمزي ُيعدُّ الأنسب لاحتضان الأشياء قبل الذوات ويؤطر تلك الموروثات مجتمعة حين تحاصر مظاهر العصر الحديث هذه العناصر مجتمعة، وتقوم بتهميشها وإغفالها، و قد تم تعالق هذه الأشياء غير المركزية بالإنسان الذي أقصاه المجتمع، ولهذا ارتضى الرّباط موقعاً له.
ولاشك أنّ تناول المكان المهمش والمنفي الذي تستنبت فيه الشخصيات النّسويّة المهمّشة وذات السلطة المتلاشية في المجتمع يفضي بنا إلى تناول كثير من العلاقات المتنامية بين الرّباط وأولئك النسوة بتحولهن إلى شخوص روائية، إلى جانب علاقات المكان بالأمكنة الأخرى التي تعد مرتعاً مثالياً يمكن المجتمع من إقصاء بعض أفراده المهمّشين كالمستشفيات المختصة بالبرص والجنون.
علاقة الذوات بالمكان السردي
تبدو علاقات الذوات وهي في الإطار السردي في وضع أقرب إلى الاختناق ومن ثم التلاشي، وإن حاولت التطفّل على أحلام الماضي والتمركز حوله، عبر استرجاع الذكريات ـ ولا سيما ما يتصل بالعمل والإنتاج ـ أما الذكريات المتصلة بالعلاقات الإنسانية فهي تشكل خيطاً واهناً في الرواية، فالمكان هنا لا يدعم إشعالها ولا يزيد لهيبها لعدم ارتباطه المباشر بفترة سابقة لدى هذه الذوات، فهو مكان طارئ على الشخوص يقمع حريتها التخييلية كلما أرادت البوح بأسرارها، كما يمنع حرية الحركة، إنه أشبه بالسجن أو المصحة مع الفارق الكبير الذي يعطي فرصة الانطلاق ومنح الحرية المفقودة لنزلاء السجن أو المشفى، ولنا أن نستعيد مقولة لغاستون بشلار “الذكريات ساكنة وكلما كان ارتباطها بالمكان أكثر تأكيداً أصبحت أوضح”([171]).
الذكريات هنا لا تتصل بالمكان / الرّباط بل تجد تحليقها خارج الرّباط بوصفه مكاناً عازلاً ومعزولاً في آن: إنه عازل للذوات حين لا يمنحها لذة ملامسة الذكريات، وهو معزول عن كل ما هو جديد وحضاري وحديث، بل يكاد يقيم الخصومة مع هذه المظاهر.
ومن حيث التقنية السردية ظل الرّباط ذلك المكون السردي الذي يلقي بظلاله السوداء على كافة المكونات الأخرى، لتبدو الذوات عاجزة هنا عن الحركة ومجاراة تلك التغيرات الطارئة على المجتمع حينما يطغى المكان على فعلها وتبدأ في محاولة التعايش والانسجام فيما بينها فحسب ” لأنّ المكان هو كل شيء، فالزمن يتضاءل لتتوقف استمراريته وحركته فالذوات هنا تعجز عن معايشة الزمن وتبدأ علاقتها بالمكان”([172]).
تبدو علاقة الرّباط مع النساء كـ ( بشرى ) و( زينب ) و(نور ) و(أسما ) و (حفصة ) و (زين ) علاقة احتضان أمومي، إنها علاقة تشبه صورة احتضان الرحم للجنين، ليكون الرّباط ذلك المكان الذي يمثل الملجأ والحماية التي يأوي إليها الإنسان بعيداً عن متاعب الحياة وضجيجها المستمر بعد أن أفقد المجتمع هؤلاء النسوة أعمالهن القديمة نتيجة العجز والهرم والمرض. فبشرى التي كانت تعمل طبّاخة ” يا ما أكلت نص أهل البلد من صيادية ومشرمل …” ، وزينب ” أحسن قهوجية في البلد “([173]). أما نور فتعمل ” زفافة تنص العرائس “، في حين كانت اسما “تقف في الجوازات والعزايم وتشيل العبي وتكتب أسماء الحريم عليها”([174]).
وبانعدام فعل الإنتاج والعمل لدى أولئك النسوة يصبح الرّباط المكان الأنسب لنزلهن، ليتحوّلن إلى كائنات غير فعّالة تنتظر الفعل من زاوية خارجية، كما يعشن حياتهن في أحلام (خارج الرّباط ). وقد يكون ذلك الفعل مد يد العون من (الجمعيّة الخيريّة ) ـ كما أرادت الكاتبة ـ إذ تعقد بعض عضواتها حواراً معهنّ، و يفضي الحوار بلا شك إلى تفوّق للجيل الجديد، بما يحمله من إمكانيّات حديثة، وتبدأ النسوة في الانجراف نحو التيار الذي يحمل لواءه عضوات الجمعية. أما التيار المخالف فكثيراً ما يصاب بنكسة أو هزيمة كما في محاولة علاج مريضة بالماء والسكر ينتج عنها ازدياد المرض واللّوم والتّقريع لتلك المحاولة البدائية.
علاقة الرّباط بالمدينة
وتأتي علاقة الرّباط بالمدينة كعلاقة هامش بالمركز لا جدوى منها، فإقامة مكان في النّصّ لابد أن تحوي ولو ضمنياً الإشارة إلى مكان آخر، وهو ما يمكن وصفه بالمكان الغائب الذي أشار إليه أحد الباحثين بقوله ” في البعد الآخر للمكان ونعني به البعد المخفيّ أو البعد الجدليّ نعثر على قيمة جديدة لفاعليته. فبالضرورة يحذف النّصّ المعلن نصاً آخر، وعندما يعتمد الكاتب مكاناً ما يلغي مكاناً آخر بالقصدية نفسها”([175]).
الرّباط وإن توسط المدينة وتمركز في داخلها فإنه يظل مركزاً عديم الفعاليّة ليحيل إلى هامشية المكان، إذ يبدو من الممكن الاستغناء عنه، وربما تميّز الرّباط بهذه الميزة عن مصحات البرص والجنون التي كانت تتمركز ـ كما أشار إلى ذلك ميشيل فوكو ـ في مداخل المدن، والهدف من ذلك العزل مع بقائهم تحت نظر المجتمع وسلطته، ومع أن العزل مفروض على نزلاء المصحة إلا أنه هنا في الرّباط عزل اختياري / إجباري يرمز إلى رغبة في الهروب من قسوة المجتمع الحديث واستلابه الإنسان، كما أنّه المكان الوحيد الذي لا يوصد أبوابه أمام هذه الفئات في المجتمع، إنه الحياة الجديدة في ظل (رباط) يقيد الإنسان ويشدّ وثاقه ويفقده كثيراً من القيم التي قضى زهرة عمره في تتبعها.
ولذا نجد التعاون والألفة تصل بين شخصيات الرواية التي تعيش في مجتمع مخالف تماماً لأجواء المجتمع الخارجي الذي تسود فيه روح التفكك والانقسام بين أفراده، ولذا فلا مندوحة من ” النظر إلى المكان هنا بوصفه نظاماً اجتماعياً اقتصادياً عاطفياً تنتظم فيه العلاقات البشرية في هذه المجالات”([176]).
يبدو الرّباط هو المكان الوحيد الذي يسمح بإقامة العلاقات بين شخوصه، ولو افترضنا مكاناً آخر لما وجدنا تلك العلاقات القائمة على الألفة والمودة، بل ستتحول العلاقات الإنسانية الحميمة المنفية في الرّباط مع غيرها من (أشلاء الماضي ) إلى علاقات تقوم على المنفعة والفائدة، ولذا قال بودلير: في القصر لا مكان للألفة.
فالرواية تستبعد هذه العلاقات العاطفية المرتكزة على الثنائية المعتادة: رجل/ امرأة لتؤسس لعلاقات من نوع آخر امرأة / امرأة. غير أن العلاقات لا تعني التأسيس لمكان أنثوي قائم بذاته ولا لمفهوم أنثوي يرفض أشكال العلاقات القائمة بين الرجل والمرأة المبنية على العاطفة والجنس، على الرغم من محاولة التأنيث اللغوية كما في حالة الأسماء اللافتة التي تصر شخصيات الرواية على إلحاق تاء التأنيث بها “كلكم حرف الهاء في أسمائكم…كل الحريم اللي في البلد يزودوا حرف الهاء في أسماء عيلتهم”([177])، فأولئك النساء طالما عشن حالة من استنفار الماضي من خلال ذكرياته المختلفة، كما أنهن لم يخترن بأنفسهن الإقامة في هذه الجزيرة كجزيرة نساء مفترضة إلا بعد أن أوصد المجتمع أبوابه في وجوههن عبر استغنائه عن خدماتهن المتنوعة والاستعاضة عنهن بالفنادق والمقاهي الحديثة بوصفها المكان المناهض للرباط الذي أطّر الذوات بعد أن لفظتها الفنادق والمقاهي، وهو ما يرد في إحدى مقولاتهن ” وجاءت الفنادق والخدم وأغنوا النّاس عنا …” ([178]).
ويتوازى مع ذلك وصفات الطب الشعبي ( البلدي ) القديمة السائدة في المجتمع و انبثاقات نصية تضع ذلك القديم مقابل الجديد، وتسعى إلى تبرير الوصفات عبر خطوات متعدّدة.
الفضاء النّصّيّ للرواية
إذا كان الرّباط قد انعكس بشتى علاقاته القائمة على الإنسان فقد أسهمت أجواؤه السوداوية والمغلقة في التأثير شكلياً على الفضاء النّصّي للرواية. ويبدو ذلك جلياً في هذه اللغة المستخدمة في حوارات النّصّ التي احتاجت الكاتبة فيها إلى فك الإغلاق عنها بتخصيص معجم للغة الشعبية تزيد صفحاته على الستين ( يعادل ثلث حجم الرواية تقريباً ) فاللهجة الحجازية سادت لغة الحوار التي أسست عليها الرواية، وبدت هي اللغة المقابلة لعالم المحسوسات في الرواية أوّلاً، إلى جانب كونها الموازي المباشر للغة الفصحى. وهي لغة ممزوجة بالأهازيج الشعبية المتنوعة التي تخللت الرواية والحكايات الشفاهية المستندة على الموروث الشعبي.
إن تأطير صفحات الرواية بإطار مزخرف تحشد فيه الحوارات المكتوبة بلهجة حجازية يتوازى موقع فضائها النّصّي مع موقع أولئك النسوة من المجتمع حين تتمكن منهن لغة الإقصاء والتهميش فلا عجب أن يطالبن عضوة الجمعية الخيرية بالحديث معهن بنفس اللغة بعيداً عن اللغة الفصحى: لغة المركز لغة المجتمع الخارجي “… يا أمي لا تهرجي بالنّحوي احنا يالله نفهم بالعربي حقنا…….” ([179]).
الصّور بوصفها نصوصاً موازية
إلى جانب ذلك تتناثر الصور (الفوتوغرافية ) العديدة كشكل تعبيري يضاف إلى النّصّ، وتضمها جميعاً مسألة القدم والبلى، وهي تشكل حيّزاً كبيراً في النّصّ إذ تتعالق مع المظهرين السابقين لا للتضافر فحسب بل لإثراء الدلالات النّصّية.
ومن الغريب أن تتخذ أغلب الصور المرفقة بالعمل طابع الإغلاق، ابتداءً من تلك الصور التي ترصد مبنيين اثنين: أحدهما رباط الصوماليين، والآخر رباط الولايا (المقاطيع ).
وتنساق منظومة من الصور تتوازى دلالياً مع المكان المغلق، حيث نجد أغلب الصور، إذا استثنينا عدداً لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، يخالف هذه الدلالة، وتتواتر هذه الصور المسايرة لنظام الرواية القائم على النفي والتهميش كما يلي:
خزانة حديد، علبة ترصّ بها السجائر، لعبة الصناديق الخشبية، لعبة الشّبريّة (وهي ذات شكل معلّب )، مسجّل ( لكنه من النوع القديم وله غطاء)، ملابس داخلية قديمة، حقيبة يد تستخدم لحفظ الأوراق، صندوق يعود صنعه إلى أكثر من سبعين عاماً.
ولاشك أن تساوق مسار الرواية مع مسار الصور المرفقة قد ولد استثماراً جيداً لعنصر المكان المغلق والمنعزل في العمل برمّته، لكن هذا الاستثمار الذي يبدو جيداً وواعياً للعبة المكان في العمل؛ لا يتوازى إطلاقاً مع بقية المكونات السردية الأخرى.
المكان المغلق
تتجذّر آلية الإغلاق التي شملها البعد الأول في الأعمال الروائية النّسويّة في عمل روائي لسلوى دمنهوري بعنوان (اللعنة ) لكن هذا التجذّر يتبلور في شكل آخر قد يكون مختلفاً عن الإغلاق الذي يتبدّى على مستوى البنية المكانية في رواية ( رباط الولايا). ففي (اللعنة) فيتخذ الإغلاق مساراً آخر مع أن المكان يوشك أن ينفتح في العمل، إلا أن اللغة توشك أن تسهم في إغلاقه بتفعيل ذلك الدور الذي تلعبه اللغة في ملء الفضاءات الروائية ليصبح المكان في العمل مقروناً غالباً بمكوّنين يبدو عليهما التضاد إلا أنهما مكملان لبعضهما: الصمت والفوضى، وقد وظفا في ظل تقنية الضوء التي استخدمت في العمل بشكل متواتر.
يأتي دور هذين العنصرين في ملء المكان، ومن ثمّ اختناقه وإغلاقه، لتتحول المدينة إلى ( رباط ) من نوع جديد؛ يمارس قمعه للذوات الكائنة فيه، وتتكرر مسألة الصمت المتصلة بالمكان بصورة تكاد تستعيد لنا ذلك المشهد الصامت والساكن حين الدخول إلى مدينة مهجورة فيعمّ الصمت ليسود المكان، فالعبارات المكررة توحي لنا بنوع من التعالق مع سلطة الصمت والسكون على فضاءات الرواية، وهذه العبارات الواردة في العمل تضع في أفق المتلقي ذلك المشهد نحو:
” الصمت يغلف المكان ـ الصمت يغلّف المكان ـ السكون يطغى لوهلة ـ السكون يعم المكان “([180]).
لا يكتفي العمل الروائي هنا بتلك التعبيرات المكررة التي تهيمن على الرواية، ولكنه يسارع إلى استخدام آلية أخرى تدعم هذه الرؤية. وهذه الآلية تنبثق من أهمية الضوء كعامل مساند لا يمكن أن يستغني عنه في الوصف الروائي، إذ يتبدى الأثر الكبير للعبارات في إظهار الجوانب المناسبة من المكان، فتدعم تقنية الضوء المستخدمة في العمل ذلك الإغلاق إذ يتحقق بتعميم الظلمة جانب من ذلك التشكيل المتمم للمكان فتتبلور العلاقة مع سارد العمل ” الحوانيت مغلقة، لا توجد مارة، ممر فرعي شديد الحلكة، أرضه مبللة ـ الشوارع تكاد تكون خالية، الطرقات مظلمة ـ المصابيح تزداد ذبولاً كلما توغل في ذلك المكان، فتجعله أكثر سكوناً ووحشة “([181]). وقد تكون الرؤية من منظور واحد يتماهى فيها السارد مع البطل حين تكون الرؤيتان خاضعتين للكثافة الضوئية نفسها، وذلك نحو ” شبح امرأة تركن في زاوية، السكون يحيطها “([182]).
وتتفاوت درجات كثافة الضوء في المكان عبر هذه المجازات التي تترى في العمل “خطوط الليل تقترب..، تتمدد…تبتلع كل الأشياء ـ يفرش الليل ملاءته السوداء، يغطي كل الأضواء ـ الدنيا ترتدي وشاحها الأسود “([183]).
وقد تتجدد في العمل هذه الآلية في استخدام الضوء، وذلك عبر توظيف التحوّلات الفصلية كما يرد في الرواية “الشتاء يقرع أبواب المدينة، ترعد السماء، البرق يرسم خطوطه غير الثابتة من مكان إلى مكان ـ فجأة تسود الغيوم…. الهواء بارد.. الرعد نذير بهطول الأمطار “.
” الأمطار مازالت غزيرة وكثيفة ” ” سحابة كبيرة تظلل المنطقة، الغيوم تملأ السماء “([184]).
تدل تلك المقتطفات من العمل على إصرار السارد على إغلاق المكان. وربما تجّلى هذا الإغلاق عبر تصور ينطلق من عده فراغاً، يغلّب عليه السارد الصمت والسواد، وذلك لإضفاء النزعة التي حاول العمل أن يؤصلها من خلال رحلة العودة إلى شامل، وهي ما يمكن وصفها بأنها انطلاق مرحلة (اللعنة ) ومنتهاها، لذا كان اللون الأسود لوناً يطغى على العمل، عبر فضاءات الشؤم والمواقف الحزينة، فالظلام واللون الأسود متلازمان في رحلة الخوف و محاولة السبر التي قام بها شامل لاستكشاف ماضيه (مرحلة الطفولة ) بعد عودته إلى مدينته.
وبينما يستثمر العمل عنصر الصمت لملء المكان، يمارس ذلك العنصر الآلية نفسها مع عنصر الفوضى التي تخترق جدران الصمت، والتي سرعان ما تتحول إلى صمت كثيف أشبه بتلك الظلمات السوداء في زوايا الأمكنة المختلفة في العمل.
ومثلما تتعدد العبارات التي تشير إلى سلطة الصمت والسكون في إغلاق المكان تتعدد أيضاً في العمل تلك العبارات المكررة التي تشير إلى الفوضى بوصفها عنصراً متعالقاً بالمكان، وكأنها البديل الأمثل لانطلاقة اختراقات لسكون المكان، أو لنقل إنها من جانب آخر تشير إلى تحريك فعل السرد بتنامي عبارات مثل ” الضجة تملأ المكان”، ” الضجيج يملأ المكان”، ” ضجيج يملأ المكان”، “صراخ وبكاء يملأ المكان “، “صوت عراك يملأ المكان “([185]).
وحين تتكرر هذه العبارات لكسر حاجز الصمت المطبق على جوانب الأمكنة في العمل الروائي، فإنها تبدو وكأنها فترة استرواح لا تلبث أن تصل إلى الذروة، فالخروج عن الصمت لا يتحقق إلا بتلك الفوضى والضجيج المتكرر في العمل. وقد أدى ذلك بدوره إلى انعكاسات طاغية على شخوص الرواية، حيث يتحول المكان إلى شكل آخر من أشكال الإغلاق، بل هو أشد تأثيراً على شخوصه من (الرّباط)، فالشخوص في رواية (اللعنة) تعيش سجناً يتدرج من الطائرة ذات الحيز المغلق والمظلم كما تشير الرواية، إلى مكان مغلق لغوياً يتبدى دور الراوي في إحكام تفاصيله، ومن ثمّ إلى مكان مشوّه يصعب تحديد ملامحه.
إنها شخصيات تعيش ظلمة حالكة فـ ( شامل ) الشخصية المحورية في الرواية كثيراً ما يشعر بالاختناق؛ ولذا فهو يجوب الشوارع شارداً لا يعلم إلى أين يتجه، وكثيراً ما كانت لمحات الحزن تعلو وجهه، و تتجلى انعكاسات المكان في أبرز صورها معه حين ” يكون ذهنه شارداً، وتفكيره محصوراً في دائرة مغلقة”([186])، و هو يعايش آلامه حين ( يغمض عينيه، يغوص مع الألم مع لغز ذلك البيت المبتور والمبهم في ذاكرته) ليعيش شامل في مرحلتين متصلتين من الإبهام: إبهام المكان وما يستتبع ذلك من إغلاقه بالليل البهيم، وإبهام الذاكرة التي تعجز عن تحديد المكان.
إن المكان هنا موضوع البحث لـ ” شامل ” يتراوح بين البيت الصغير أو الكوخ ( يقف شامل أمام الكوخ الصغير متأملا )ولعل تحويل البيت إلى كوخ هنا يحيلنا إلى تلك النزعة الأسطورية التي تتدثر بها مفردة ( الكوخ ) كما أن قيمة توظيفها هنا تنبعث من ملاءمتها الدلالية المناسبة للمكان المغلق والمنعزل ” الكوخ يتحول إلى عزلة مركزة، لأنه في أرض الأساطير لا يوجد كوخ مجاور”([187]).
أما بقية شخوص القص فيسيطر عليهم ذلك الملمح المتعالق بشخصية شامل من جانب، والمتصل بأزمة المكان في العمل من جانب آخر، فـ “شروق ” كثيراً ما تحس بالاختناق يزهق روحها، وبآلام حادة في الصدر، كما أن عبارة تتكرر كـ (الحزن يملؤها ) تهمّش دور الذوات لتنقلها إلى أوعية تظل موازية للمكان في العمل إن لم تكن متأثرة به. ولعل أبرز لوحة رسمت ذلك في الرواية، هذه العبارة التي ينقلها الراوي عن (شروق) ويصفها بهذه الصفات التي يمكن عدّها مجموعاً لوصف تفصيلات المكان كما تجلت في العمل، حيث اعتماد عناصر السواد والجفاف والشتاء، وهي الآليات التي عرضنا لها آنفاً. فالتحولات المكانية السابقة تنعكس على شخصية الأنثى التي تعد من أهم شخوص السرد عبر تحويلها من لوازم مكانية حقيقية إلى تعبيرات مجازية تتصل بالأرض وكأنها الموازي المباشر للأنثى ” حولت أخضرها جفافاً، وماءها يابساً، وسماءها سواداً حالكاً، حياتها كلها أصبحت شتاء دائماً، وعواصف رعدية من الأحزان لا تشفع ولا ترحم “([188]).
ويتكرر مثل هذا المظهر في تغليب الراوي اللون الأسود فيصف به أحد الشخوص الهامشية في الرواية، و ذلك بصبغه للذوات بصبغة المكان الروائي (رجل يقف أمامه أسمر اللون، قاتم، يرتدي ثوباً أسود).
أما طارق فهو شكل مقارب لبقية الشخوص الأخرى، فطارق قلق مرتبك، ينهض من مكان إلى آخر.
تصل ذروة العمل الروائي ( اللعنة ) إلى بؤرتين للمكان يتحرك السرد في إطارهما، وتكون شخصية ” شامل ” الشخصية التي تنهض بذلك العبء، و تلك البؤرتان هما: البيت والصندوق. ويتفق كلاهما في دلالاته المتصلة بالعزلة والسرية التامة، إلى جانب كونهما مقفلين: البيت مقفل يحمل أسرار وذكريات شامل ويكون محور بحثه، أما الصندوق الأسود الذي يحتفظ به زوج ” شروق ” فمع أنه لا يشكل محوراً للبحث لدى شروق التي يظل همها أن تصل إلى شامل، وتتخلص من الزوج، إلا أنه يبدو حاملاً لأسرار كثيرة تنكشف مع فتح الصندوق الأسود، وما كانت دلالة اللون الأسود هنا إلا لأنه اللون الملائم لإخفاء الأسرار.
إن اللون الأسود الذي وصف به الصندوق يظل متوازياً بصورة أوضح مع لون الأمكنة التي أسدل الراوي عليها صبغة السواد نتيجة الوصف المتّصل بالظّلام البهيم، والأمطار الرعديّة.
ولعل من الأنسب لنا هنا أن نعود إلى ذلك التشكيل المكاني في العمل الروائي السابق (رباط الولايا) حيث نجد الصندوق أيضاً بؤرة مكانية ترمي بظلالها على السرد، وما يثيره الصندوق ـ نفسياً ـ من السرية المصطنعة، والتوق الشديد إلى كشف وفضح ما فيه.
وتنجلى تلك المتوازيات عن تناغم تام مع عنوان الرواية (اللعنة) الذي تبدو مناسبته بالإغراق في هذه الإشارات التي تتصل بالمكان أوّلاً وبالشخوص ثانيّاً.
ويبدو ذلك التّرابط بين شؤم المكان وسوداويّته وما يلحق بشخوصه من أضرار عنصراً مهماً في فلسفة المكان المتصلة بالتراث العربي.
في روايتها الحديثة التي بعنوان ( آدم…. يا سيدي ) تأبى الكاتبة “أمل شـطا ” إلا أن تستثمر المكان كنص مواز، يطل علينا من الغلاف الخارجي للرواية فحسب، ويتمثل ذلك النّصّ الموازي في هذه اللوحة التي يتعانق فيها البر والبحر والجو في ساعة غروب الشمس، ويبدو أن الكاتبة قد اكتفت بهذه اللوحة المفتوحة لتغلق عملها من الداخل.
يمكن عدّ المكان في رواية ( آدم … ياسيدي ) عنصراً منفياً من بنية الشكل التي قام عليها العمل، حينما تنتشر فيه تلك النبرة الوعظية المتواترة التي ترد أحياناً كثيرة بصوت الراوي، أو صوت أحد شخوص القص.
ذلك الهاجس الذي قامت عليه رواية ( آدم…ياسيدي ) قد أسهم بصورة أو بأخرى في تقليص فاعلية المكان الروائي، ومن ثمّ نفيه ـ إن صح التعبيرـ خارج العمل الروائي ليتقلّص في نص مواز تمثله هذه اللوحة متعددة الأبعاد، التي يجد متلقي النّصّ متعته في تأملها ومحاولة ربطها بالنّصّ الأساسي، كما أن العنوان مفعم بهذه الدلالات الحيوية الجاذبة، وهي التي يبدو فيها غلبة الشخصية و تعالقها مع الراوي، وربما أوحى ذلك بمسار القص بشكل عام الذي يغلّب ذلك الجانب على المكان.
يظل القص مقتصداً في تناول الأمكنة الروائية، فضلاً عن تناولها بالتفصيلات الداخلية. وتدور حلقة الأمكنة الواردة في عمل روائي كهذا في إطار الأمكنة الرتيبة إذ يبدو أثرها بالغ الضعف في التحكم بمسار الحدث، ذلك الحدث الذي يعطي عنانه للمصادفات الواحدة تلي الأخرى، إلى جانب انصراف السرد ـ في كثير من الأحيان ـ إلى قص أحداث تبدو علائقها بالمسار الأساسي في العمل واهية تماماً.
من الأمكنة ذات الأثر الضعيف في العمل البيت والمدرسة اللذان تشير إليهما الرّواية بصورة مقتضبة ” ضج البيت بالنّساء، وماج الطريق بالرجال، وغصت القلوب بالأحزان “([189])، كما أن التعبيرات المجازية الكثيرة التي عبرت عن المكان توشك أن تعطي دلالة كبيرة على أزمة المكان في العمل بصورة خاصّة، أو على مستوى النتاج الروائي لدينا المكتوب بأقلام نسويّة، ومن هنا آثرنا هذا العمل لتمثيل البعد الثاني من أبعاد المكان في الرواية النّسويّة، وذلك لأهمية هذا البعد في الاتجاه الروائي السائد حالياً.
المكان الأسطوريّ
البعد الثالث الذي تضمنته لوحة المكان المقترحة في الرواية النّسويّة هو البعد الأسطوري الذي حرصت عليه “رجاء عالم ” في عمليها الأخيرين ( طريق الحرير ) و( مسرى يا رقيب)، وإن كان العمل الثاني قد تجلى مبالغاً في أسطرة الفضاءات المتصلة بالقص.
يبرز الفضاء الأسطوري ( وادي عبقر ) في ذلك العمل عبر بناء الراوي فيه لذلك الأنموذج الخيالي الصرف، والبعيد عن الفضاءات المحسوسة، هذه الفضاءات التي لا يمكن للفرد إدراكها حسياً. ويتميز ذلك الفضاء الأسطوري في القص بانسجامه وتماسكه بتفعيل آليتين يبدو دورهما الفعال في تشكيل العمل بصورته النهائية، وهما العتاقة المرتكزة على الموروث الثقافي، وصلة الفضاء بالإبداع.
لقد فرضت المرجعية التراثية أبعاداً فيزيائية لوادي عبقر من خلال تلك التناولات العديدة لهذا المكان في كتب المعاجم العربية المتصلة باللغة والبلدان وغيرها. لكن الراوي في (مسرى يا رقيب ) انطلق من هذه الآلية وانزاح عن هذه الأبعاد الفيزيائية المحددة مرتكزاً على تغليب الجانب الأسطوري، ومفضلا أن يكون ( عبقر ) مركزاً للإبداع الذي لا يتحقق بالاتّباع قدر تحققه بالابتداع، ولذا بنى عالمه الخاص به الذي يخرج من القوانين الفيزيائية للفضاءات المتعددة ( ليل، نهار، أرض، سماء، شرق، غرب….) محققاً بذلك تجاوز تلك الثنائيات التي تعتمدها الفضاءات المحسوسة في تجربة تأخذ طابعاً جديداً ومتميزاً بتفعيل علاقاتها المتمايزة: الكونية والبصرية.
لقد احتلت مساحة نصية تزايدت في النّصّف الأول من النّصّ، وذلك قبل انتظار اللحظة المحمومة للانطلاق إذ ” هتفت الأميرة بقبائل المخلوقات: آن الأوان فمن شاء منكم فليلحق بخروجي لطلب عبقر”([190]). وكل تلك الوصايا تلزم الأميرة جانب الحذر والحيطة والتوقع والرغبة في الانطلاق من المعلوم إلى المجهول الذي حرصت الوفود على فك طلاسمه فقد ” شرحت الطير ما في أممها من آثار عبقر”([191])، والبحر يعلن اعتذاره بقوله ” سيدتي أنا رسول العناصر إليك، أرفع اعتذارها عن مدك بالخرائط والدروب لمقامنا في وزارة عبقر “([192]).
أما الجهات الثمان فتتعاون مع الأميرة بقولها ” نحن جهات الكون الثمان، وحيثما ضربت يا مولاتي حملناك، فاضربي لسريرتك أو لجهرك أو اصعدي في السماء نحن في كل مكان، فلا تترددي في التيه فما أنت بضالة “([193]).
وبذلك يكون النّصّ قد استكمل أدواته جميعها للدخول إلى الفصل الأخير منه الذي بعنوان ( ق لب ق ) وهو يمثل قاعدة النّصّ وذروته، فالدخول إلى أرض عبقر لا يتم إلا بقدرة إبداعية متقنة تمكن الداخل من القدرة على السرد، وعلى ذلك يكون السرد عن أرض عبقر بالكتابة أو الرسم متداخلاً مع الوشي المتقن الصنع المنسوب إلى عبقر فهو الأقرب إليه والمشابه له.
إن ( وادي عبقر ) كما تراه معاجم اللغة والأمكنة هو الموضع الذي ينسب إليه العرب كل عبقري، ويقال عنها ” أرض كان يسكنها الجن…وهي موضع بأرض اليمن، وقيل موضع بنواحي اليمامة “([194])، أما أصله فهو “صفة لكل ما بولغ في وصفه، وأصله أن “عبقر” بلد يوشى فيه البسط وغيرها فنسب كل شيء جيد إلى عبقر “([195]).
وقد وردت عبقر في ( طريق الحرير ) غير مرة مقرونة بالخرافة والشعر ليصبح هدفاً لإحدى شخصيات النّصّ، وهو ذلك الأمير الذي يطمح في جمع الشعراء حوله؛ فحين يقول “أنا غايتي وادي عبقر… …..تحلق عجب الرجال حول غايته وخرافتها”([196]). وهاهو ذا الأمـير ( الميت ) يفصل رحلته في البحث عن عبقر ” لأشهر غبت ورجال إمارتي صوب قلوب الجزيرة، حيث جاءت الآثار بتواري عبقر فيها …..أردت صيده والعودة به، أنصّبه في صحن إمارتي فلا يدخلها إلا رجل مسّه وحيها وقال شعراً، أردت للناس أن تخاطبني شعراً، أردت أن أعبر كل صباح وعشية بين أيدي روائع الجن وخلقهم فتسكنني …ولم أرد لمطبب تطبيبي “([197]).
لقد أصبح هذا الفضاء محركاً للشخصيات للبحث عنه واقتناصه واستثماره. وتسهم التحولات النّصّية في حضور جنيات عبقر إلى تلك الشخصية الباحثة (الأمير).
يستحضر ( عبقر ) ذلك الفضاء الأسطوري في النّصّ لإضفاء تلك الصبغة الأسطورية عليه؛ والشخصية الباحثة عنه هي الأنسب في النّصّ بوصفها بين الحياة والموت، إن نعش الأمير الميت مناسب لخوض تجربة التفتيش عن عبقر وهي الشخصية التي تكون في النهاية شجرة الشعراء المتصلة بعبقـر، الشجرة التي تنادي المارة ” ومنها خرافة شجرة الجزيرة و التي تنادي المارة، وكل من لحق بها فأوى لجذعها ونام، يصبح شاعراً أو مجنوناً ….لذا غصت الجزيرة بالشعراء المجانين “([198]).
بعد أن عرضنا بإيجاز لأوضاع المكان في الرواية السعودية النّسويّة ممثلة في ثلاثة أبعاد أساسية، وهي إغلاق المكان وذلك هو الغالب على الأعمال النّسويّة، أو تهميشه ونفيه، وأخيراً تتبدى أسطرته؛ وهو توظيف نادر وقليل في السرد حيث نجد اتفاق تلك الأمكنة الثلاثة في ملامح منها:
أولاً : تتفق هذه الأعمال الروائية النسوية جميعها في كونها لا تجعل هاجس المكان المحسوس ( الفيزيقي ) في صدارة اهتماماتها عبر انتقاء المواقع المناسبة التي تمكّن من رؤية الزاوية المناسبة التي تسمح بتناول التفصيلات الجزئية والدقيقة، والتدرج في الرؤى، الأمر الذي لا يتوفر حالياً فيما بين أيدينا من نصوص روائية.
ثانياً : يبدو السرد النسوي حاملاً لبذور تلك الجوانب الأمومية في الأدب، خاصة إذا تأملنا اتفاق تلك الأعمال على اختيار هذه الأمكنة المنفصلة عن واقع الحياة المعاصرة ومعطياتها، إذ تتفق صورة الأمكنة الثلاثة في كونها موازية لصورة (القبر ) الذي يتصل اتصالاً مباشراً بتفاصيل الأمكنة، فالعودة إلى البعد الأولي والبدئي في المكان يتوازى هنا مع الذوات الفاعلة في تلك الأعمال السردية النّسويّة فالمكان هنا ـ بشتى أبعاده الثلاثة يتخذ بعداً أولياً متلازماً مع الذوات إذ يتجلى القبر كصورة ملائمة ونهائية لتلك الأمكنة بأبعادها الثلاثة السابقة.
ثالثاً : تشكل فكرة الطلل القديم مرتكزاً مهماً في توظيف المكان العربي كمكون له انبثاقاته السردية في الأمكنة الثلاثة السابقة. فالمكان هنا تبدأ وظيفته النّصّية في العمل بذلك التعدد في توظيفه واستثماره “الطلل أشبه الأشياء بفكرة الأم الولود التي ينبثق عنها أبناء كثيرون، فالأبقار والظباء و الظعائن أسرة واحدة…. ويبدو الطلل كأنه منبت ثقافة؛ منبت الوعي وإدراك الماضي في مضيّه واستمراره معاً، منبت الحاجة إلى تثبيت مركز الإنسان عن طريق الكتابة”([199]). ولا تعارض بين القبر كمنتهى للمكان والطلل كمنطلق للفكرة نفسها. إن فكرة الطلل القديمة هي إعلان عن موت طرف من اثنين، ويصبح الطلل هو القبر الذي وأد الحبيبة، وأحلام الشاعر وهو ما يتحقق بجلاء ولكن في صورة عكسية في أعمال تجعل من المكان نفياً أو إغلاقاً أو أسطرة.
…………………………....
([1]) برناردي فوتو عالم القصة ترجمة محمد مصطفى هدارة مشروع الترجمة المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1997م ص 102.
([2]) راجع موقف الكتاب الروائيين من قضية التكنيك الفني، مجلة فصول، المجلد الثاني، العدد الثاني ص 15 وما بعده.
([3]) آلا نروب جربيه، نحو رواية جديدة، ترجمة مصطفى إبراهيم مصطفى، دار المعارف، القاهرة 1988م ص 103.
([4]) بناء الرواية، دراسة في الرواية المصرية المعاصرة، دكتور عبد الفتاح عثمان، مكتبة الشباب، القاهرة 1988م ص 270.
([5]) معجم اللغة العربية المعاصر، ص360.
([6]) معجم اللغة العربية المعاصر، س379.
([7]) معجم المصطلحات البلاغية وتطويرها، د. أحمد مطلوب، الجزء الأول، الدار العربية للموسوعات، بيروت، لبنان، ط2006م.
([8]) الإيضاح، الخطيب القزويني، تحقيق: محمد خفاجي (بيروت، دار الكتاب اللبناني، ط4)، 1395هـ، ص575.
([9]) معجم المصطلحات البلاغية وتطورها، د. أحمد مطلوب، لبنان، مكتبة لبنان، ناشرون، ط2، 2000، ص159.
([10]) الاقتباس من القرآن الكريم، أبو منصور الثعالبي، تحقيق: د/ ابتسام الصفار، دار الوفاء، المنصورة للطباعة والنشر، ط1، 1412هـ، ص57/2.
([11]) ابن بسام، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق: إحسان عباس، المجلد الأول، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1970م، ص97.
([12]) ابن جني، سر صناعة الإعراب، دراسة وتحقيق: حسن هندي، دار الثقافة، بيروت، 1970م، ص175.
([13]) ابن خلكان، وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1968م، ص235.
([14]) تداخل النصوص في الرواية العربية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة دراسات أدبية، حسن محمد حماد، 1997م، ص53.
([15]) توبة وسُلِّي – مها محمد الفيصل، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2003، بيروت، لبنان، ص5.
([18]) سورة الإنسان: (آية 20) القرآن الكريم.
([19]) توظيف التراث في الروايات العربية المعاصرة، محمد رياض وتار، اتحاد الكتاب العرب، 2002م، دمشق، سوريا، ص141.
([20]) البحريات، أميمة الخميس، دار المدى للثقافة والنشر، ط1، 2006، سوريا، ص7.
([25]) مجلة المجلة (ع1021، 11/9/1999م) بعنوان: لمن تكتب رجاء عالم؟ لطيفة الشعلان، ص78.
([26]) طريق الحرير، رجاء عالم، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1995م، ص 90.
([27]) طريق الحرير، جاء عالم، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط1، 1995م، ص90.
([29]) معجم البلاغة العربية، بدر طبانة، دار المنارة، جدة، 1988م، ص314.
([31]) ومات خوفي، ظافرة المسلول، الرياض، إصدارات النخيل، ط1، 1411هـ، ص78.
([32]) اللعنة، سلوى عبد العزيز، مكة، مطابع الصفا، 1994، ص92.
([36]) آدم يا سيدي، أمل شطا، جدة، شركة المدينة المنورة للطباعة والنشر، 1995م.
([37]) الأربعين النووية للإمام النووي، ص40.
([38]) آدم يا سيدي، أمل شطا (م. س)، ص195.
([39]) آدم يا سيدي، أمل شطا (م. س)، ص223.
([40]) التضمين والاقتباس وعلاقتها بمفهوم التناص، مجلة الجماهير، مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر، حلب، سوريا، الأربعاء 4/3/2009م، عامر الشون، ص10.
([42]) آدم يا سيدي (م. س)، ص9.
([43]) رواه البخاري في (النكاح) باب “لا ينكح الأب وغيره البكر والثيب إلا برضاها”، 5136 (ومسلم في النكاح) باب “استئذان الثيب في النكاح بالنطق”، رقم 1419.
رواه مسلم في النكاح باب استئذان الثيب في النكاح بالنطق رقم 1421.
([44])آدم يا سيدي ( م.س )، ص13.
([45]) خاتم، رجاء العالم، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط 2002، ص25-26.
([46]) ذاكرة الدقائق الأخيرة، حسن الحازمي، الرياض، دار الطائر للنشر والتوزيع، ط1، 1413هـ، ص59.
([47]) صورة الرجل في القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية، منال عيسى، رسالة ماجستير مقدمة إلى قسم اللغة العربية بكلية الدراسات العليا في جامعة الملك سعود، عام 1422هـ، ص183.
([48]) الفردوس المفقود، جون ملتون، ترجمة: د/ محمد عناني، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 2001م.
([49]) الفردوس المفقود، الملحمة التي نشرت في 1967م ثم غدت فيما بعد رمزًا لكل حلم ينهار الفردوس المفقود، آدم وحواء والشيطان، ص32 الرواية (م. س).
([50]) الفردوس اليباب (م. س)، ص32.
([51]) الفردوس المفقود، جون ملتون، ترجمة: د/ محمد عنان، (م. س)، ص192.
([52])الفردوس اليباب (م. س)، ص32.
([53]) الفردوس اليباب (م. س)، ص34.
([54]) بيت الطاعة، منيرة السبيعي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان،2007، ص35-36.
([56]) فالأبيات من بحر الطويل (مفعولن مفاعيلين فعولن مفاعيلن في كل شطر)، (طويل له دون البحر فضائل مفعولن مفاعيلن مفعولن مفاعيلن) فقائل الأبيات هو الصحة بن عبد الله بن الطفيل بن مرة بن هبيرة القشيري، من هوزان شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية وجده ابن هبيرة له صحبة بالنبي r مات الصُّمَة عندما كان مع المسلمين في غزوة الديلم بطبرستان، والبيت الشاهد من شواهد التصريح 1/77 وابن عقيل 7/1/65 والأشموني 26/1/37 وأمالي ابن الشجري 2/53 وشرح المفصل 5/11 وشرح العيني 1/169 واللسان مادة (سنه).
المفردة الغربية دعاني: أمر للاثنين من ودع يدع دعا، أي ترك. سنين: جمع سنة ولعل المراد بها هنا الجدب وانقطاع المطر – الشيب. جمع أشيب مردًا. جمع أمرد. وهو ما لا ينبت الشعر بوجهه، المعنى: يتحدث الشاعر عن أعوام الجدب والقحط التي مرت عليه وعلى قومه في نجد وما لقوة من الجهد والإرهاق ويطلب إلى صاحبيه أن يتركا ذكرى نجد قائلاً دعاني من نجد وذكراها فإن سني القحط فيه قد لعبت بشيبنا وشيبت شبابنا الذين لم ينبت شعر ذقونهم بعد.
([57]) انظر حاشية الصبان على الأشموني، 1/87.
([59]) مقال: سليمان الفريح/ هذر لوجيا حديث الأساليب، جريدة الجزيرة الثقافية، الأحد 8 جمادى الأولى، 1430هـ، العدد 13366.
([60]) Gerard gained and others: the theory of narrative from the point of to look Altbir، Casablanca، publications and university academic dialogue، 1989، p 98.
([61]) نجيب محفوظ، الرؤية والأداة، د. عبد المحسن بدر، القاهرة، دار الثقافة للطباعة، ج1، 1978م، ص22.
([62]) بيت الطاعة، منيرة السبيعي، الدار العربية للعلوم، ناشرون، بيروت، لبنان، ط2007م، ص93-94.
([63]) بيت الطاعة (م. س)، ص160-161.
([64]) مختارات ابن الشجري، تحقيق: محمود حسن زناتي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1980، ص275.
([65]) بيت الطاعة (م. س)، ص115.
([66]) الانتحار المأجور، آلاء الهذلول، دار الساقي، 2004، بيروت، لبنان، ص58.
([68]) (غير.. وغير) هاجر المكي، المركز الثقافي العربي، 2005م، بيروت، لبنان، ص102.
([69]) بناء الزمن في الرواية المعاصرة، مراد عبد الرحمن مبروك، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998م، القاهرة، ص91.
([70]) بيت الطاعة (م. س)، ص120-121.
([71]) سعوديات، سارة العليوي، فراديس للنشر والتوزيع، البحرين، ط1، 2007م، ص104-105.
([72]) غدا سيكون الخميس، هدى الرشيد، دار اليوسف، 1979م، القاهرة، ص20.
([73]) ومات خوفي، ظافرة المسلول، دار النخيل، 1990، الرياض، ص39.
([74]) توبة وسلّي، مها محمد الفيصل، ط2003، ص203-204.
([75]) الفردوس اليباب، ليلى الجهني، ص41.
([77]) عيون على السماء قماشة العليان، ص60.
([78]) المرأة واللغة، عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، ط3، 2006م ص136.
([79]) موقد الطير، رجاء عالم المركز الثقافي العربي، بيروت، 2002م، ص105.
([80]) ستر، رجاء عالم، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط2، 2007م، ص78.
([82]) طوق الحمامة رجاء عالم، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2010م، ص5.
([84]) جريدة الحياة 12/11/2006م، صالح زياد الغامدي (شريفة الشملان، القرية… الذكر الاجتماعي)، ص20.
([85]) Brief study stories، Lin Olternd the،، Baghdad، the Department of Cultural Affairs، 1983، p 128.
([86]) نظريات السرد الحديثة، دالاس مارتن، ترجمة: حياة جاسم محمد، المجلس الأعلى للثقافة، 1998م، القاهرة، ص152.
([87]) بناء الرواية، دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ، سيزا قاسم، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1984، القاهرة، ص84.
([88]) جماليات المكان في روايات جبر إبراهيم جبر، أسماء شاهين، المؤسسة العربية للدراسات، 2001م، بيروت، لبنان، ص17.
([89]) اللعنة، سلوى دمنهوري، ص122-123.
([91]) الفردوس اليباب، (ليلى الجهني)، ص34.
([94]) تيار الوعي في الرواية الحديثة، روبرت همفري، ترجمة: محمود الربيعي، دار غريب، 2000، القاهرة، ص124.
([95]) واجهة البوصلة، نورة الغامدة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط2002، بيروت، لبنان، ص109.
([96]) واجهة البوصلة نورة الغامدي، ص25.
([101]) واجهة البوصلة (م. س)، ص251.
([106]) الرواية المحلية “رؤية في مرحلة النشأة”، عبد العزيز السبيل، أبحاث الندوة الأدبية الرواية الأكثر حضورًا بنادي القصيم الأدبي بريدة، 2003م، ص83.
([108]) بحوث في الرواية الجديدة، ميشال بوتور، ترجمة: فريد أنطونيوس، منشورات عويدات، بيروت، لبنان، ط2، 1982، ص55.
([109]) مشاري، العنود، مها وصالح فيصل ومعهم عروس البحر الأحمر والآخر معه الأحلام والخيال، ميس وعشق والملكة الغجرية مع رمال الصحراء وأعشاب الصحراء.
([110]) بنية الشكل الروائي، حسن بحراوي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ص247.
([111]) البحريات، أميمة الخميس، ص7.
([114]) بيت الطاعة لـ. منيرة السبيعي، (م س )2007.
([116]) سطوة النهار وسحر الليل، الفحولة وما يوازيها في التصور العربي، عبد الحميد جحفة، دار توبقال، الدار البيضاء، المغرب، 1999، ص13.
([118]) الاتجاه الواقعي في الرواية العربية الحديثة في مصر، حلمي بدير، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية، 2002م، ص24.
([119]) بيت الطاعة (م. س)، ص121-122-123.
([120]) Roland Bournef، Réd Ouellet، L’univers du Roman Ed. Cérés، Tunis، 1998، P.25.
([121]) بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة: فريد أنطونيوس، ميشال بوتور، منشورات عويدات، لبنان، ط2، 1982م.
([122]) بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ، سيزا قاسم، مكتبة الأسرة، القاهرة، 2004، ص231.
([124]) جماليات المكان في الرواية العربية، شاكر النابلسي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1994م، بيروت، ص10.
([125]) لسان العرب، ابن منظور، المادتان [مكن، فضا].
([126]) عالم النص، دراسة بنيوية في الأساليب السردية، سلمان كاصد، دار الكندي، الأردن، 2003م، ص127.
([127]) بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، حميد لحمداني، بيروت والدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط3، 2000م، ص70.
([129]) عالم النص (م. س)، ص127.
([130]) عيون قذرة، قماشة العليان، ج3، دار الكفاح للنشر والتوزيع، الدمام، 1428هـ، ص236-237.
([131]) طاقة المكان، وايدرا نانسيلي، ترجمة: رفيقة العبدالله، دمشق، دار الطليعة، 2005، ص72.
([132]) عيون قذرة (م. س)، ص129-130.
([134]) خاتم، رجاء عالم (م. س)، ص6.
([137]) النقد الأدبي الحديث، محمد غنيمي هلال، دار العودة، بيروت، لبنان، 1987م، ص526.
([138]) بنية النص السردي، الحمداني، (م. س)، ص51.
([139]) السرد الروائي في أعمال إبراهيم نصر الله، هيام شعبان، دار الكندي، أربد، سوريا،، 2004م، ص122.
([140]) البحريات أميمة الخميس، ص5.
([141]) السرد في مقامات الهمذاني، أيمن بكر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998مك، ص51.
([142]) نظريات السرد الحديث، دالاس مارتن، ترجمة: حياة جاسم، المجلس الأعلى للثقافة، 1998م، القاهرة، ص155.
([143]) مفاهيم معالم نحو تأويل واقعي، محمد مفتاح، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1999، ص13.
([144]) خاتم (رجاء عالم)، ص26.
([146]) خاتم (رجاء عالم)، ص52.
([147]) رجع البصر، قراءات في الرواية السعودية، نادي أدبي جدة الثقافي، 2004، حسن النعمي، ص147.
([149]) ابن منظور، لسان العرب، مادة (حبب)، دار صادر.
([150]) اللغة واللون، أحمد مختار عمر، عالم الكتب، القاهرة، 1997م، ط2، ص57.
([151]) خاتم (رجاء عالم)، ص45.
([153]) السفينة وأميرة الظلام، مها محمد الفيصل، المؤسسة العربية للنشر، بيروت، 2003م، ص90.
([154]) خاتم (رجاء عالم)، ص86.
([155]) عيون قذرة، قماشة العليان، دار الكفاح للنشر، ج3، الدمام، 1428هـ/2005م، ص43.
([156]) السابق، عيون قذرة، ص8.
([159]) الدم وثنائية الدلالة، مراد عبد الرحمن مبروك، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997م، ص13.
([161]) اللغة واللون، أحمد مختار عمر، (م. س)، ص154.
([162]) سفينة وأميرة الظلام، مها الفيصل، (م. س)، ص22.
([163]) سعوديات، سارة العليوي، فراديس للنشر والتوزيع، البحرين، 2006م، ص205.
([166]) التلقي والنص الشعري: قراءة في نصوص شعرية معاصرة من العراق والأردن وفلسطين والإمارات، ذياب شاهين، دار الكندي، الأردن، 2004م، ص111.
([167]) اللغة واللون، (م. س)، ص201.
([168]) اللغة واللون (م. س)، ص184.
([169]) بيت الطاعة (م. س)، ص162.
([170]) هند باغفار: رباط الولايا. ص 161.
([171]) جماليات المكان. غاستون باشلار، ترجمة غالب هلسا، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات، 1983م،ص 39.
([175]) ياسين النصير: تصورات نظرية في شعرية المكان. مجلة شؤون أدبية. ربيع 1993 م.
([176]) سيزا قاسم: المكان ودلالاته. مجلة ألف. عدد 6. 1986م.
([181]) سلوى دمنهوري: اللعنة، ص 12، 122، 136، 148.
([185]) نفسه،. ص 47، 115، 117، 103.
([186]) نفسه، ص8، 10، 38، 44، 61، 77.
([187]) نفسه، ص 115، 119، 120.
([188]) غاستون بشلار: جماليات المكان. ص56.
([190]) رجاء عالم: مسرى يا رقيب. المركز الثقافي. بيروت. 1997م. ص51.
([194]) ياقوت الحموي: معجم البلدان. دار صادر. بيروت. ط2. 1995 م. ج4. ص 131.
([195]) ابن منظور: لسان العرب. مادة ( عبقر ).
([196]) رجاء عالم: طريق الحرير. المركز الثقافي. بيروت. 1995م، ص154.
([199]) مصطفى ناصف: قراءة ثانية لشعرنا القديم. دار الأندلس. بيروت. د.ت. ص 64