قبل سنوات طويلة قلت للأستاذ محمود عوض أننى لا أحب أم كلثوم ، استوعب الرجل غرور شاب منتشى بشهوة تكسير الأساطير و الثوابت ، ثم قالها لى صريحة بأبوة أكثر غرورا ( لما تكبر هتحبها(
أنا الآن كبير بما يكفى لان أقف أدخن سيجارة فى الصقيع خوفا على نقاء الهواء الذى يتنفسه أهل المنزل ، و صوت الست يقلب تربة الروح بمعول ألماظ ، و تسأل و أنا أفتش عن الإجابة ، هو صحيح الهوى غلاب؟ ، الآن أنا منتشٍبعدم العثور على إجابة ، و كذلك الست التى وقعت فى غرامها بعد أن كبرت .. (ماعرفش أنا) .
(2)
أغدا ألقاك ؟
قبل سنوات كان مشوار الصعيد بالقطار يبدو مزعجا من حيث فرحة الصعايدة باختراع بث الإنيات عبر أجهزة الموبايل الحديثة ، يزعجك الصوت العالى لكن الأكثر إزعاجا هو الذوق نفسه ، ما بين سذاجة الأغنيات الشائعة شعبيا أو الخشوع المفتعل فى صوت مقرىء الخليج، يندر فى مشوار الساعات السبعة أن تصادف ذوقا يعبر عنك ، من يعبرون عنك غالبا يستمعون إلى أغنياتهم المفضلة عبر سماعات شخصية .
لكن هذة المرة كانت السيدة العجوز المتشحة بالسواد و نظارة طبية عريضة شفافة اللون ، نحيلة ، يتدلى مصحفا ذهبيا من سلسلة فى عنقها ، تطلب الشاى بدون سكر من عامل البوفيه ، وحيدة بما يكفى لأن تظل شاردة عبر نافذة القطار التى لا تكشف عن شىء سوى ظلام دامس يقطعه كل فترة أنوار ضعيفة منبعثة من بيوت فقيرة على جانبى شريط السكة الحديد.
كان السؤال هذة المرة يأتى من الموبايل الذى وضعته فى حجر فستانها (أغدا القاك؟) ، السؤال الذى التقطته الست من روح الهادى آدم المتوثبة للقاء لن نعرف يوما من هو طرفه الثانى ، بالضبط مثل تلك السيدة النحيلة .
كانت خيالات شريكها الذى لم يرافقها فى رحلة القطار تونسنى مع صوت الست ، هل لبست السواد من أجله ؟ ، هل فارقها مبكرا أم أنه قطع معها من الطريق ما يكفى لطمأنتها ؟ ، هل تنتظر غد لقاءه حتى لو كان فى الأرض التى استقر فيها ؟ كانت الست تجاوب :
وغدا تئتلف الجنة أنهارا و ظلا
وغدا ننسى فلا نأسى على ماض تولى
وكانت السيدة النحيلة تهز رأسها تؤمن على الفكرة بينما كلى شوق لأن أقف فى منتصف المربع الذى رحل منه ثلاثة اضلاع و بقى ضلع واحد يميل برأسه على شباك قطار قديم ينتظر الوصول .
(3)
لسه فاكر؟
البيت المجاور لنا كان أهم ما يميزه شرفة صغيرة بسلالم تقود إلى مضيفة صغيرة ، كانوا أطفال البيت أصدقاء ، فى يوم وجدت والدهم يرسم على حائط هذة الشرفة صورة لام كلثوم بنظارتها السوداء الشهيرة و الشعر الملموم فى كحكة لا تخلو من وقار، بهجة ما حلت فى القلب كطفل يتابع مهارة ما على الطبيعة، سنوات طويلة و أنا أمر بهذة الشرفة فألقى نظرة على الست و ألقى السلام، أو أجلس مع الأطفال فى قلب الشرفة فى انتظار (الكيكة) التى تعدها الأم بينما رائحتها تخبرنا باقتراب نضجها، إلى أن رحلت الأسرة و بقى المنزل و رسم الست يبهت يوما بعد يوم و يتآكل ببطء إلى أن هبط سكان جدد محوا كل ما تبقى من صورتها.
عاد احد الأطفال كبيرا ذات يوم ليشارك فى واجب عزاء، ظللت طوال الجنازة أتحين لحظة مناسبة لفتح ذكريات الطفولة ، كلمته عن رسمة الست لكنها لم تكن حاضرة فى ذهنه، أحزننى الأمر والتمست له العذر قلت ربما لأنه كان أصغر الأطفال ساعة الرحيل لا يتذكرها.
بعد شهور أرسل لى طلب صداقة على الفيس بوك فرحت به ، بعدها أرسل لى صورة لعائلته قبل أن ترحل عن البلد ، صورة نصف مهترئة نقلها بكاميرا الموبايل من ألبوم العائلة، كانوا قد اصطفوا فى الشرفة و خلفهم صورة أم كلثوم على حالها القديم و فى رفقة الصورة رابط أغنية تحمل السؤال الذى كتبه عبد الفتاح مصطفى خصيصا لهذة اللحظة ( لسه فاكر؟) ، سهرت فى غرفتى طول الليل أمام الصورة بينما تنبعث من اللاب توب رائحة الفانيليا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب (إذاعة الأغاني ..سيرة شخصية للغناء) ـ الصادر مؤخرًا عن دار الكرمة