رشيد غمري
(1)
طرق الباب بقوة عدة مرات. تقلب “نوربا” العجوز، بجسده النحيل بين الصحو والنوم. نهض متعبا حتى الإعياء. أزاح المغلاق الخشبى لبابه الواطئ، فاندفع رجل إلى الداخل يلهث، وعلى كتفه حمل ثقيل. انخفض متوجعا، وانحنى ليضعه على الأرض بحرص. استدار “نوربا” حاملا قنديله، ونظر إلى الرجل الجالس مكفهرا. دقق بعينيه مزيحا طرف الملحفة الكتانية، فرأى جثة فتاة ملفوفة بعناية. توسل له الرجل أن يساعده. كان “نوربا” مذهولا من جرأة الرجل الذى حمل الجثة عبر شوارع المدينة، ودخل بها إلى المقابر فى هذا الوقت المتأخر، ثم صعد إلى الربوة، حيث يقع كوخه. شعر بالقلق. نهض، ونظر خارج البيت، فلم ير إلا ظلاما حالكا. انتظر قليلا مصغيا بأذنه، فلم يسمع صوتا ولا حركة، بخلاف هزيم الريح المعتاد فى ذلك الوقت. أغلق الباب وسأله:
– هل تعقبك أحد؟
– الجميع نائمون، وجئت من طرق جانبية. تعبت كثيرا حتى وصلت إلى هنا.
– عزائى لك، ولكن لماذا لم تستدعئى، إلى البيت؟
– لأنهم فى كل مكان حولنا، وحتى داخل البيت، لدى ابن منهم، ولحسن الحظ أنه كان بالخارج عند موتها. وقد أمسكت أمها عن الصراخ بصعوبة، وأجلنا إعلان وفاتها، حتى نتدبر أمرنا.
بكى الرجل، ثم قال:
– إنها ملاك برىء، وليس أمامنا سواك ليساعدنا.
– سأفعل، ولكن كما تعلم، إذا عثروا علينا، سيحرقون الكوخ بنا، وبجثة الفتاة المسكينة.
– لا أريد أن أسبب أى أذى. إننى فقط أب حزين، وقد تقبلت موتها، فهذه إرادة التاسوع، ولكننى لا أستطيع دفنها مثل دجاجة. إنها تستحق أن تخلد روحها.
– لا تقلق، سأقوم بواجبى، ولكن دعنى أفكر فى طريقة.
فكر نوربا بسرعة فى مكان قريب وآمن، ثم طلب من الرجل أن يحمل ابنته، ويهبط بها نحو المقابر. تبعه “نوربا” حاملا صرة بها قصعة الشمع، وبعض أعواد من الجريد المعدة، وقطعا من ورق الذهب، وبيضة دجاجة، وعدة أحجار صغيرة ملونة، ولوحا رقيقا من خشب الليمون، اختاره بعد أن أغمض عينيه، وسحبه من بين أنواع أخرى.
كانت الريح متقطعه، تشتد وتهدأ، والظلام يخيم على الخلاء، إلا من بقايا قمر، يظهر من بين السحب، فيضع لمساته على مستعمرة الموتى، بشواهدها التى بدت كأيد تستغيث، وسرعان ما يختفى خلف غيمة داكنة، فتضيع معه معالم الأفق والطريق. هبط الرجلان، حتى مقبرة “أوديشو” التى لا تشبه غيرها. جلس “نوربا” بجسده العجوز النحيل، وطرق الباب الخشبى عدة مرات، بينما ظل الرجل الحزين حاملا ابنته كذنب.
داخل جبانته، وقف “أوديشو” العجوز بقامته الفارعة. كان يقرب رأسه، مدققا فى تفاصيل صغيرة بأحد الحوائط، على ضوء قنديل. ابتعد محاولا أن يرى الصورة كاملة، لكن بصره الضعيف للغاية، بالكاد رأى بقعا ملونة، لذلك لجأ إلى خياله، وأعاد جولاته بين الجدران الأربعة مرات، محاولا التأكد من تناسقها. ووصل أخيرا إلى قناعة، بأن ما قام به صديق طفولته “نوربا” الرسام هو معجزة حقيقية.
شعر “أوديشو” بامتنان، وفكر أنه رغم الآلام التى عاناها فى حياته، ربما سيهنأ لحظة موته، إذ لم يعد ينقصه سوى شىء واحد، وهو أن يملى على صديقه رسالته، وبعدها سيضع جسده فى التابوت، والثعبان على صدره، ويغلق الغطاء، ويغمض عينيه، وينام إلى الأبد. هكذا كان منهمكا فى التأمل والتفكير، عندما أخرجته تلك الطرقات المتتابعة من عالمه، وسمع صوتا من بعيد يناديه باسمه، ويطالبه بأن يفتح الباب. ميز “أوديشو” صوت صديقه “نوربا” الرسام متعجبا، فقد كان معه قبل ساعات، عندما أنهى رسم المقبرة الذى استغرق منه أسابيع، ومن المفترض أن يكون نائما الآن.
صعد “أوديشو” الدرج الحجرى عبر الممر الضيق، وفتح الباب الصغير لمقبرته. أطلعه “نوربا” على الأمر سريعا. لم يكن “أوديشو” يؤمن بتلك الطقوس، لكنه تعاطف مع الرجل، لأنه نظر إليه كأب فقد ابنته، ويريد أن يطمئن على خلود روحها. عاون الرجل، وأنزلا جثمان الفتاة إلى المقبرة. كان “نوربا” الرسام فى الخارج يراقب المكان، ليتأكد أن أحدا لم يرهم، ثم تبعهما إلى الداخل. ودعهم الرجل تاركا ابنته. وعاد ليمنع الأمور من الانفلات فى بيته، فلا يفتضح أمرهم.
كان “نوربا” مرهقا، بعد أيام قضاها، يرسم مقبرة صديقه، ودون أن يأخذ كفايته من النوم. أراد أن ينهى عمله قبل الفجر، ليعود إلى بيته، ويستريح، وأيضا ليتمكن الأب من أخذ جثمان ابنته قبل الضوء. أسرع بوضع قصعة الشمع فوق القنديل. سحق قطعا صغيرة من الأحجار الملونة. كان يلزمه من أجل الوجه خليط من الأبيض والأصفر، وبعض الأحمر، وقليل من الأسود، أما الجزء اليسير الذى سيظهر من ردائها فقد اختار له اللون الأرجوانى. قرر أن يجعل الخلفية مذهبة، وفصل بياض البيضة لأجل لصق الورق، كما فكر فى تذهيب قرطها وعقدها. هيأ فرشاة عريضة من بين أعواد الجريد، وأخرى دقيقة. وأمسك بقطعة من الفحم، وبدأ العمل.
تخصص “نوربا” منذ صباه فى رسم وجوه الموتى. ذلك العمل الذى اكتسب أصوله من معلمه “ريموند” الهارب من “كميت” وقتها، والذى كان اسمه غريبا عن الأسماء السيريانية التى صارت سائدة فى “أورنارا” وما حولها، فسمى نفسه “حوبو”. لكنه لم يعش طويلا، فاعتمد “نوربا” على نفسه، وأتقن فنه وطوره، وبرع حد الإعجاز فى تصوير ملامح الأموات على الرقائق الخشبية، لتوضع مع الجثامين داخل التوابيت. هذا الطقس الوافد، اعتمده الكهنة، فاكتسب طابعا دينيا شعبيا لأتباع المعبد الشرقى. وصار الناس يعتقدون بضرورة هذه الصور، لتساعد الروح على معرفة جسدها، واصطحابه، ليقف أمام تاسوع الآلهة، طالبا الخلاص والخلود. ولكن بعد الأحداث الأخيرة، صاروا يلاحقون الناس، ويقتلون من يقيم تلك الشعائر، باعتبارها هرطقة.
بدأ “نوربا” عمله بوضع خطوط وجه الفتاة بقطعة الفحم. كانت خبرته كفيلة بأن يرسم ملامحها مطابقة، وبسرعة مدهشة. لكنه اعتاد على طريقة خاصة فى العمل، جعلته الأفضل على الإطلاق، وجعلت صوره تتجاوز الملامح، فتلتقط روح المتوفى، وتلخص شخصه وحياته. هذه الطريقة ظلت سرية، لأنها انطوت على مخالفة صريحة للطقوس والأعراف. كان يختلى بالجثة فى حجرة الرسم الجنائزية، ويضع البخور على المجمرة، ليعبق المكان بالدخان المعطر، ويعرى الجسد كاملا، بخلاف المسموح، ويتأمله مركزا بصره على كل جزء فيه، ثم يقف عند قدمى الميت، محملقا فى وجهه حتى تتلاشى صورته، فيمسك روحه مروضا إياها، لتنطبع على لوح، تختاره هى من بين أخشاب الجميز أو الثرو أو الليمون.
فكر نوربا بأنه يمكن أن ينجز الصورة بسرعة، دون كل ذلك، فالظروف لا تتيح له كثيرا من الوقت، والمكان ليس مجهزا. لكنه بوازع من ضميره، قرر أن يتقن عمله كالمعتاد. نظر إلى وجه الفتاة، فرآها تستحق أجمل صورة على الإطلاق. تكاد ألا تكون بشرا، من فرط وداعتها، وسحر ملامحها. كشف عن جسدها، مزيحا القماش الكتانى الذى لفت فيه. خلع ثوبها، وأرقدها فى تناسق واسترخاء. تأملها بإمعان، مستشعرا جلال الموت، والذى عظمه جمالها. أخرج من جيبه قشرة “عنفر” وأشعلها، ففاح منها دخان عطر. نظر لها مجددا، واستحضر ورعه، فوجده يتصاغر أمام فتنتها.
راقب “أوديشو” ما يحدث بانبهار. إنها المرة الأولى التى يشاهد فيها “نوربا”، يرسم وجه جثة. نظر لهما كمشهد خلاب وفريد من الحياة. كان واضحا أن صديقه قد دخل فى حالة وجد، لذلك حرص أن يظل ساكنا. بدأ “نوربا” يخلط مسحوق أحجاره الملونة، بالشمع المنصهر. وضع اللون الأساسى لملامح الفتاة. لون بالفرشاة شعرها البنى. رسم ضفيرتها الغليظة التى تتوج ناصيتها، وتطوق وجهها المستدير. وضع لمسات صفراء، تبين التماع الأجزاء البارزة من الضفيرة، فبدت كإكليل ذهبى يتوج طلتها الملائكية. رسم جبهة مضيئة كنصف شمس، وأنفا مستطيلا فى غير تزيد، وشفتين ممتلئتين. بدت كأنما تطل من سديم نورانى، أو كأن وجهها ضوء تشكل لتوه إنسانا، أو نصف إله.
كان وجه الفتاة فادح البراءة، ومن يراه يظنه لطفلة فى التاسعة، فى حين بدا جسدها أنثويا مكتملا. رأى “نوربا” عنقها، وكأنه لنبيلة من بلاد الغابات العالية، وصدرها لعذراء من الغابات الصفراء، وحلمتيها شفافتين كشفة مولود “سلتى”. تأمل بطنها المشدود كنساء “أوركينا” المتأنقات، وفخذيها الممتلئين، كفاتنات بلاد الغابات الحمراء. وجدهما شهيين بصورة تدعو للبكاء. وبعد أن دقق وتأمل وتوحد، أغمض عينيه، واستحضر روحها، وجعل وجهها المرسوم على اللوح، ملخصا لكل ما لا يظهر فى الصورة، حتى أن مكمن عذريتها، بوعوده التى لن تتحقق أبدا، تجلى فى خشوع وحسرة، عكستهما الشفتان باقتدار.
امتلأ صاحب المقبرة بسعادة غامضة، امتزجت بشجنه الذى يعرف الجميع مصدره. صحيح هو لا يؤمن بديانة المعبد الشرقى وطقوسه، لكنه نظر لما يفعله صديقه، كشعيرة إنسانية تستحق التعاطف. وهو لم ير التفاصيل، لضعف بصره، لكنه شاهد ظل صديقه منكبا يرسم بإخلاص وتبتل. ورأى جسد الفتاة الممدد عاريا، وكأنه عناقيد من النور، تضىء أرجاء المقبرة. ميز بالكاد ركبتين مدملكتين، وقدمين صغيرتين، واستدارات مشوشة، كانت فى الماضى كمائن عجزه، ومحفزات جموحه. ومن خلفهما تماوجت رسوم المقبرة غائمة، فمنحها عدم الوضوح سحرا إضافيا، جعلها تتحرك على الجدران، تتحدث، وتغنى لحنا جنائزيا.
إنها الرسوم التى طلبها “أوديشو” بتفاصيلها، وحدد لصديقه ترتيبها، لتروى سيرة حياته الطويلة: رسم العذراوات الأربعة، والده الذى رآه مرة واحدة، نساء جنونه ومجونه وحبه المبتسر، موتى الأوبئة، الممرضة “أميلا”، أستاذه “إيديلا”، زملاءه المحاربين، الفتى الطيب دارس الكهنوت، محاربا من الأعداء ذا أجنحة. وجعل جدارا كاملا لـ”إميلدا” وهى تحتضن ابنتهما فى وداعة. رسم الأحداث الأخيرة، والأنبياء الهاربين عبر الصحراء، والبغى الوحيدة التى دفع لها أجرا، ومواكب عرس، وجنازات، وقوارب، وأقبية نبيذ، ورقصات احتفال. رسم كل الأشخاص الذين مروا بحياته عراة تماما، حتى أمه وشقيقاته وحبيبته وابنته.
كان الجميع يحيطون به، فيما يشبه مشهد حشر مهيب، ينتظر العرض على إله بخلاف التاسوع. وفى أسفل كل جدار، رسم أغصانا وأوراق أشجار وزهورا، بينها كائنات تتصارع. رسم حيوانات تتزاوج، وفى أفواهها فرائسها، وأخرى ترضع صغارها، وهى تمضغ عظام كائنات أخرى. ورسم ثعبانه المحنط، والذى اعتبره دليله وتميمته، ورفيق تابوته الوحيد، بدلا من صورة وجهه، وبدلا من أكاليل الزهور، وتمائم “الإيلمار”.
كان “أوديشو” قد عثر على المقبرة المهجورة، قبل سنوات. وجدها ممتلئة بالرمال، فأعاد تهيئتها، وعاش فيها، بعد النوائب التى حلت به، وظل على مدى سنوات، يغادرها ويعود. وخلال ذلك قام بتحسينها، وصنع لها درجا حجريا. ولما عاد مؤخرا، بعد الأحداث الأخيرة، طلب من صديقه، أن يرسم على جدرانها، مذكرا إياه بجبانات “كميت” التى رأوها محفورة فى الجبال، خلال هروبهما. لكن “نوربا” أنجزها مقبرة فريدة، لا تشبه ما شاهدوه فى “كميت” ولا جبانات “أورنارا”. فالقبور من حولهم، مجرد لحود، توضع فيها التوابيت، ويبنون فوقها هياكل صغيرة، يعلو كلا منها شاهد، أشبه برقبة جمل أو حصان. ويقوم ابن حفار القبور، فيما بعد، بعمل رسوم بدائية عليها من الخارج.
أنهى “نوربا” رسم وجه الفتاة، وغطى جسدها، وانزوى منهكا، فى زاوية من المقبرة، انتظارا لوالدها، وراح فى النوم. انعكس ضوء القنديل، على وجهها وعنقها، فلمعت كأنها تمثال من الذهب. نهض العجوز “أوديشو” ووقف عند قدميها. تعملق ظله، على الجدار وجزء من السقف المرصع بالعيون. بدا بأرديته الكتانية المهلهلة، ولحيته البيضاء الكثيفة، كوحش خرافى، نهض لتوه من سبات قرون. أزاح الغطاء عن جسد الفتاة، وتأمله غائما. ركع على ركبتيه، وانحنى عليها، وانخرط فى البكاء، وصار ينشج مرددا اسم ابنته.
استيقظ “نوربا” الرسام، فسأله “أوديشو”:
– هل سيجد والد الفتاة كاهنا للصلاة على روحها؟
– أخبرته عن كاهن طيب، كان قد غادر البلاد منذ سنوات، تاركا الكهانة، وعمل نافخا للبوق ضمن جماعة جوالة، وقد عاد مؤخرا فى أعقاب الأحداث الأخيرة. ورغم أنه يبدو غير مؤمن بمعبد ما، إلا أنه ما زال يحفظ التراتيل، وقام بقرأتها إكراما لأم فقدت طفلها منذ أيام. وهو مستعد لآدائها لمن يحتاجه.
– أظننى أعرف من يكون. التقيت به منذ سنوات، وسألت عنه بعد ما حدث فى المعبد، ولم يكن قد عاد. إنه فعلا إنسان طيب.
سمع “نوربا” طرقا على الباب الخشبى للمقبرة، فنبه صديقه الجالس عند جثمان الفتاة. نهض “أوديشو” وصعد الدرج، بينما أحكم “نوربا” لف الجثة. نزل الوالد المكلوم، وأعطى “نوربا” مبلغا من المال، وشكر صديقه على الاستضافة. حمل ابنته وصورتها، وصعد الدرج. راحت عيون الرجلين تشيعانه والفتاة. وعندما أوشك على الخروج، سأله “أوديشو” عن اسم ابنته، فقال له بأسى:
– كان اسمها “أورنينا”.
شعر “أوديشو” بحزن عميق. وطلب من صديقه أن يعود إلى بيته، ويأتى غدا، ليملى عليه رسالته. ذهب “نوربا” الرسام شاعرا بالإنهاك. وانخرط “أوديشو” فى بكاء طويل. وفى كوخه أخرج “نوربا” خصلة من شعر الفتاة، وأحكم لفها وربطها بطريقته المعتادة، وفتح صندوقا خشبيا، ووضعها مع المئات من الخصلات الأخرى، والتى تنوعت ألوانها من الأسود إلى البنى والأحمر والأصفر. وكالعادة مرت أطياف بعض من صاحبات الخصلات بذاكرته.
اعتاد “نوربا” أن يسير فى شوارع المدينة، متأملا الوجوه، وأن ينظر بأسى للجميلات، شاعرا بالحسرة. وكلما شاهد متكبرا، أو شخصا يصارع للحصول على شىء، أويتكالب فيذل نفسه لمنفعة، يتذكر لحظة استلقائه أمامه عاريا، وكأنها حدثت فى الماضى، ويشعر بسخرية مريرة. وقد جعله عمله كئيبا زاهدا، لم يرد شيئا لنفسه، وعاش فقط يبحث عن شخص، اعتقد أنه خلق فى الحياة لينقذه، ورأى أن هذا هو الحكمة من وجوده.
كان الحزن يتملكه أياما، بعد رسم طفل، أو عروس استعدت لزفافها، أو أم تركت صغارا. فكر مرات أن يغير مهنته. جرب أن يتعيش من أعمال مختلفة، وتيقن من أنه محرم عليه كسب رزقه بطريقة أخرى، وكأنه منذور لما يقوم به. كان الغريب أنه رغم أحزانه، والأسى الذى صبغ حياته، يشعر بلذة غامضة، وهو يقوم برسم الموتى. حاول أن يفهم مصدرها، وتأملها طويلا. رأى أنه يتوج الناس فى نهاية مشوارهم، وهو شرف يفوق ما لدى الملوك. وخطر بباله أنه يجهزهم لبداية حياتهم الحقيقية، وهى سلطة تقارب صلاحيات الآلهة. ووجد أن قيامه بعمله، وكونه من يقوم بالرسم، يعنى أنه ما زال حيا، وأن كل ميت، هو إعلان لنجاته مرة أخرى. تأمل تلك الطبيعة الروحية للذته، والتى تنبع من طريقته الخاصة والمحرمة فى الرسم. وعرف أنه لم يلمس الحقيقة، ولم يلتذ ببلوغها، إلا بإتيانه المحرمات، تلك التى وضعت لحجبها. تأمل فوجد أن الحقيقة مؤلمة، ولذته أيضا.
شعر “نوربا” بأنه يعيش مفارقة صارخة، فهو يخلق بالألوان وجوها تنبض بالحياة، متطلعة عبر أفق لا نهائى، ولكنه يفعل ذلك فى لحظة فنائها. وهو يمنح الحياة والخلود للصور، فى لحظة زوال الأصل. رأى التناقض بين مثول الجسد أمامه عاريا، بأقصى ما يمكنه من حضور، بينما يجهز ليغيب إلى الأبد. وهو دون غيره يمتلك تلك اللحظات، وينفرد بها، ويعيشها طازجة متجددة كل مرة، سحرا ورهبة وقداسة وحسرة. ووجد أن الموت يمنح الناس حضورا مضاعفا واستثنائيا، قبل أن يبيدهم ويمحوهم. تعاطف “نوربا” مع كل الموتى الذين رسمهم، الطيبين والأشرار، بل شعر بشفقة مضاعفة على الأوغاد، لأنه رأى عبثية شرورهم، ومجانية تدنيهم.
ظل “نوربا” عبر حياته، يقوم بعمله مخلصا، متوحدا مع ذاته وفنه، ومنكبا فى تبتل على رسم وجوه الجثث، لكنه أدرك مع الوقت لذة أخرى، قاوم طويلا أن يعترف بها، تلك التى كانت تتعاظم فى حضرة أجساد النساء الجميلات. ضبط نفسه متلبسا بهذه المشاعر، وهو يتلهف للانفراد بهن. شعر بالخجل من نفسه. وحاول أن يفهم طبيعة تلك الأحاسيس. وتأكد أن الأمر ليس شهوة بمعناها المعتاد، وأن غريزته الجسدية، لا يمكن أن تتحرك فى حضور تلك الأجساد الجميلة الميتة، لأنه حاول أن يقحم على خياله تلك الرغبات، فكاد يتقيأ. إنها ليست رغبة حسية، ولا يمكن أن تكون. تأمل فى الأمر طويلا، ورجح أيضا أن السر يكمن فى التناقض. إنه المفارقة فى أقصى صورها هنا، بين عرى الأجساد الأنثوية الفاتنة، كذروة ما يمثله معنى الحياة، وبين الموت الذى يطل عبر الأجساد ذاتها. إنه جمال اللحظة الفاصلة والحرجة والمستحيلة، وهو مصدر ذلك السكر الغامض، والنشوة المخدرة، والتى يحس تيارها يسرى تحت أحزانه وكآبته. رأى الجمال بوصفه سلطة جبارة آسرة مستبدة لا تقاوم، وهى ترقد أمامه مستسلمة فى خضوع. تعجب أن يكون للموت أيضا جماله، وتعجب أكثر عندما خطر بباله، أنه ربما يكون الجمال فى أفدح أشكاله.
صارح صديقه “أوديشو” ذات يوم عن تلك اللذة، فأخبره بأنه يعرفها، وأنه شعر بمثلها مرات عندما كان هو الآخر يؤدى عمله. لكن “أوديشو” كان قد وصل إلى تصالح مع الموت. ولم يعد يرى حدودا فاصلة بينه وبين الحياة، ولا بين اللذات المختلفة. وهو حتى لا يستشعر دنس الغريزة، ولا تدنى الاشتهاء. صار عالمه طليقا، وغائم الحدود، يشبه ما يسمح بصره برؤيته الآن. وهو عالم يراه الكثيرون لا أخلاقيا، لكنه رآه فطريا متحررا مما وجده أو وضعه الناس من قيود.
نام “نوربا” متوقعا أن تزوره الفتاة التى رسمها الليلة لتشكره، كما يحدث عادة، لكنها لم تأت. وبدلا من ذلك رأى نفسه داخل كهف، يتدفق الماء فيه من بين الشقوق، ويتجمع فى مجرى تحته، ويواصل الانسياب داخل هوة، تذهب إلى المجهول. كان يرسم جثة رجل ممددة فى الماء. وعندما أتم الصورة، تأملها، فإذا هى وجهه. أصيب بفزع، ونهض ليتحقق من هوية الجسد الميت، وكان غارقا فى الظلام. أشعل قنديلا، واقترب مرتعشا، فوجد أنها جثته. أخذ يهزها بعنف دون جدوى، وشعر باختناق مميت. عندما استيقظ، كان على يقين بأن موعده قد اقترب. ما شغله هو أنه لم يؤد بعد رسالته فى إنقاذ شخص ما.
فى مقبرته استلقى “أوديشو” داخل تابوته الخشبى. أثار اسم الفتاة الميتة شجونه، فلم يستطع النوم. نهض وصعد الدرج. أطل برأسه من المقبرة. كانت الشمس على وشك الشروق. ورأى نسوة يجلسن عند أحد القبور، يقرأن من “الإيلمار” معريات صدورهن، وبين شجيرات قريبة، وقف قرد يستمنى، ولمح ثعبانا، يتجه نحوه. بصق ودخل جبانته. أغلق بابها، وعاد إلى تابوته. كان ما يؤرقه، هو الرسالة التى سيقوم بإملائها على صديقه الليلة.
استيقظ “نوربا” عند الغروب. شاعرا برهبة وهلع. إنه موعده مع “أوديشو”. هذه اللحظة التى خشيها طويلا، منذ أخبره بأمر الرسالة. لو كان الأمر بيده لأقنعه بعدم جدواها. لكنه عرف أنه سيفعلها. وكل ما تمناه أن يمر الأمر بسلام.
يعتقد “نوربا” أنه خلق فى الحياة لأجل أن ينقذ شخصا ما. سيطر عليه هذا الهاجس منذ طفولته، كنداء داخلى، ظل يوسوس له على الدوام. وكان دائم التحفز والاستعداد للقيام بذلك. استشعره كغريزة ملحة، ورآه المعنى وراء حياته، لذلك شعر بالحزن، وهو يفكر فى موته الوشيك، وفى أنه سيرحل دون أن يؤدى ما عليه. لقد فعل أشياء كثيرة اعتقد أنها جيدة، ولكنها ليست إنقاذا لأحد. وربما ستكون كتابته رسالة صديقه، آخر تلك الأعمال، لكنها أيضا تختلف عما تصور أنه سيقوم به. صعب عليه الأمر، وصار مشوشا.
تذكر المرات التى اعتقد أنه يقوم برسالته، وكل منها كشفت وجها لسذاجته، أو فشله وإخفاقه. كانت الأولى فى صباه، عندما رأى فتاة تبكى أباها فى المقابر. أحس بتعاطف جارف تجاهها، اختلط بعاطفة استشعرها لأول مرة. وقع فى حب بياضها المريب، الذى جعلها كتمثال من الثلج.، وعشق حاجبيها الأسودين المتشابكين كجناحى غراب. ورغم أنه رأى شاربا خفيفا ينبت فوق شفتيها المحتقنتين الزرقاوين، لكنه وقع فى هواها بمذاق حارق، حتى أنه أصيب بالحمى لعدة أيام، وظل جسمه يرتعد، وهو يشعر بها تتخلله، كأنما قد حلت به. حام حولها، فتجاوبت معه بسرعة، وببعض من البلاهة. كانت تبالغ فى كل شىء. تنهمك فى الحديث وتتصايح، وفجاة تبكى. أرادت أن تلقاه كل يوم عدة مرات، وفعلت لأجل ذلك أشياء جنونية.
رأى “نوربا” الصبى أنه خلق فى الحياة، ليبدد أحزانها، ويعوضها عن أبيها، وينقذها من الضياع. استحضر قصص فتيات اضطررن للعمل كباغيات، بعد موت آبائهن. واسترجع حكايات مأساوية لأسر فقدت عائلها. قرر أن يكون عائل هذه الفتاة، وحتى أسرتها إذا لزم الأمر. وكان مستعدا لعمل أى شىء ليحقق ذلك. اختلطت مشاعر حبه بعزمه على إنقاذها، لكنها سرعان ما ملت طيبته وانصياعه. كان آخر شىء قاله لها، إنه مستعد ليمنحها روحه، لتعيش بدلا منه. فاجأته فى اليوم التالى، وأحبت شابا عربيدا، لم يعرف أبدا كلمات الحب، لكنه كان جريئا يختصر الطرق إلى أجساد الفتيات، وقد طلبت منه أن يحميها من “نوربا” المتطفل.
فى إحدى المرات، اعتقد “نوربا” أنه خلق لأجل أن يهب حياته لفتاة مقعدة. كانت جميلة وحزينة، وفى وجهها المستدير أنوثة لا تقاوم. شعر نحوها بعاطفة أبوة لا تناسب سنه وقتها. هيأ حياته لإسعادها، وإنقاذها من اليأس والحزن، لكنها رحلت بعد شهور، وتركته غارقا فى خيبة جديدة.
عندما صار “نوربا” – الرسام الأبرع لوجوه الموتى فى “أورنارا”، قال لنفسه: ربما يكون هذا ما خلقت فى الحياة لأجله. أليس رسم الوجوه إنقاذا لأرواح الموتى من الضياع؟ إنه يمنح الناس الفرصة للخلود، ويحميهم من التلاشى، وهو أهم إنقاذ يمكن أن يناله شخص. لكنه شعر بعدم صفاء، لأنه كان مضطرا لأخذ المال مقابل هذه الصور. كان يعتقد أن ذلك الإنقاذ الذى خلق ليقوم به، هو عطاء دون مقابل. أما المرة التى أوجعته حتى الموت، فكانت قصته مع الغجرية، لكنه اكتشف أن خسائر قلبه تهون أمام مآس، خبأتها له الأيام، وتجرعها واحدة تلو الأخرى.
بدا “نوربا” أشبه بناسك، يؤمن بكل الآلهة، وكل المعابد، ورأى الحياة متعددة الأوجه بلا نهاية. أخبر صديقه “أوديشو”، بأنه مستعد ليكتب رسالته إلى ابنته، وجلس بجسده النحيل ممسكا قلمه وصحائفه، بينما نظر “أوديشو” صوب الصورة الغائمة لـزوجته “إميلدا” وابنتهما “أورنينا” على الجدار المواجه، وبدأ فى إملاء رسالته.
………………
* صدرت أخيراً عن دار بتانة بالقاهرة