أو أفراد غرباء نزلوا المدينة في الوقت الخطأ. وكان هذا هو الوقت المناسب، لظهور السيدة الأول، أما ظهورها الثاني فيكون قبل الغروب بوقت كاف، وفى كل مرة تكون مرتدية نفس الفستان، عاري الذراعين، والذي يصل حتى الركبة. لا تحمل في يدها سوى حقيبة قماشية، ولا شيء آخر.
قبل أن تصعد إلى شقتها في الطابق الأول، تقعد قليلا على كرسي بجوار البواب العجوز، الذي لم يعد يفارق مكانه في مدخل العمارة، ومن خلف نظارته السميكة، يضيق عينيه، ويقول: برنسيسة. فتضحك السيدة، وهى تمرر أناملها برفق على تجاعيد وشها، ثم تنهض ناحية السلم، تستند على الدرابزين، وقبل أن تختفي صاعدة في عتمته، كانت تسمع البواب العجوز يتنحنح، وهو يقول مرة ثانية: نعم.. برنسيسة.
كانت تمشى على مهل، رأسها منحنية إلى أسفل دائما، وشعرها القصير المصبوغ بالأحمر، يبدو من بعيد مثل قبعة. تبص في مداخل العمارات التي تمر عليها، كانت تتواجد دكك قديمة، عادة تكون خالية، أو عليها أجساد مغطاة ببطاطين متسخة، وعندما تصل إلى ناصية الشارع، تحت عامود النور المطفأ، تتوقف، فتخرج القطط من تحت العربات، ومن صناديق القمامة، والشوارع القريبة، وهى تنفض أجسادها في سعادة، وتحك فراءها في قدمي السيدة. كانت تخرج لهم من حقيبتها بقايا الأكل، تنثره على الرصيف، فتتقافز وهى تصدر في مرح مواء متقطعا.
بائعة الجرائد عند التقاطع، كانت تعزم عليها بالشاي كلما مرت من أمامها، فتقعد على حجر مسنود بجوارها، تبص على العربات الواقفة في إشارة المرور، ثم تتابع شابا أفريقيا طويلا، وقف يستطلع عناوين الصحف. عندما تفتح الإشارة، تكون البائعة قد صبت الشاي، من تُرمس مركون بجوار حزم الجرائد، تخرج السيدة بحرص من حقيبتها، صورة مُبروَزة لفتاة جميلة، تبتسم كاشفة عن أسنانها الأمامية، كانت الصورة أبيض واسود، تفرجها لبائعة الجرائد، التي تتأملها بدقة، قبل أن تقول: مثل ممثلات السينما. ثم تواصل وهى تبص في وجه السيدة: عيناك كما هما. تأخذ رشفة من كوب الشاي، ولا تعلق. في تلك اللحظة، تتذكر أنها ظهرت في السينما في عدد من الأفلام، لم تكن كومبارس، مثلت أدوارا ثانوية، مجرد مشاهد قليلة، لكنها مبشرة بظهور ممثلة جيدة، كما كتبت عنها الصحف في ذلك الوقت، كانت تجربة دخلتها لفترة ثم توقفت، لو واصلت لصارت الآن نجمة كبيرة. حاولت تذكر أسماء الأفلام التي شاركت فيها ففشلت، فشلت أيضا في تذكر أسماء المخرجين، وأماكن التصوير، والممثلين، والكاميرات، والملابس، والماكياج.
مشهد واحد فقط كان واضحا بشكل مدهش، وبكل تفاصيله الدقيقة، الفستان القصير عاري الذراعين، والمرقش بزهور صغيرة، الحذاء الأبيض، عطرها المفضل، شعورها بأنها خفيفة كسحابة، تلك البهجة التي كانت تسرى في جسدها، وعمر الشريف يضع يده خلف ظهرها وعينيه في عينيها، وقتها لم تقدر على فعل شيء، سوى أن تترك شفتيه تمتصان شفتيها، وهو يشدها بيده ناحية حضنه. لم يظهر هذا المشهد في أي فيلم، كان في فترة الاستراحة من التصوير، عندما ذهبت إليه في حجرته. أحست برعشة خفيفة في جسدها، فوضعت كوب الشاي على الأرض، فكرت أن تقول لبائعة الجرائد، أنها مثلت في السينما، لكنها لم تفعل.
منذ فترة أصيبت السيدة بالقلق، عندما توقفت عن المشي، بصت حولها في حيرة، وتساءلت في سرها: أين أنا ؟ كانت خائفة ومتوترة قليلا، رغم أن المباني التي حاصرتها، والرصيف، وتقاطعات الشوارع، وفتارين الصيدليات، كانت مألوفة لها بشكل ما. قالت في انزعاج: لقد تهت. فزعت من فكرة كونها تائهة، لكن شيئا فشيئا بدأت التفاصيل تتضح، فواصلت سيرها كالمعتاد. وفكرت أن المدينة صارت معقدة أكثر من اللازم، فالشوارع تتشابه عليها كثيرا في الفترة الأخيرة، وهذا أمر محير للغاية، وأنها منذ خمسين عاما كانت تمشى في نفس الشوارع، مغمضة العينين.
اعتادت السيدة على حالة التيه التي كانت تأتيها من وقت لآخر، وبدأت تتعامل معها كلعبة مسلية، تستمتع بممارستها، كانت تترك نفسها ـ بلا خوف ـ للشوارع، تأخذها إلى أماكن لم ترها من قبل، مندهشة من أشياء لم تكن تتوقع وجودها، وعندما تتعب كانت تعثر على بيتها بسهولة، لكنها واحتياطا من الاندماج في اللعبة أكثر من اللازم، وضعت في حقيبتها القماشية، دفترا صغيرا دونت فيه بدقة، كل بياناتها الشخصية، حتى العناوين القديمة للأقارب والأصدقاء، والذين لم تعد تتذكر ملامحهم الآن. حكت ما حدث لها، للبنت النحيفة التي تقابلها صباح الأحد، حدست أنها الوحيدة التي ستفهمها، دون أن تفكر في أشياء مريبة، وكانت تقول في سرها: بنت حبوبة. البنت بدورها، خففت من توتر السيدة، قائلة بابتسامة: لا تشغلي بالك. ثم أضافت وهى تقبلها، قبل أن تمشى: المهم صحتك.
لعبة أخرى، كانت السيدة تمارسها أحيانا، في فترات نزولها آخر النهار، تظل لوقت طويل تبحث عن الأماكن التي كانت ترتادها زمان، فتمر على المقاهي، وصالونات التجميل، ومحلات الفضة، والأثاث، مكان واحد ظلت تبحث عنه لفترة، حتى عثرت عليه، كان مختفيا بين باعة الرصيف، وإحدى ضلف الباب مواربة قليلا، وماسح أحذية يقعد قدام الضلفة المغلقة، عندما وجدته تملكتها الفرحة، بصت على اللافتة، كانت حروفها باهتة وقد تآكل حرفين منها، نطقتها بصوت هامس:”بارادايس”. تأملتها قليلا، ثم دخلت، كان كما هو، بعتمته الخفيفة المحببة إليها، ولوحاته الزيتية المعلقة على الحوائط. والحمام المندس في الركن، قعدت على منضدتها المفضلة، كان خاليا تماما من الرواد، وعندما وجدت البارمان الشاب يبص عليها، هزت رأسها، فتركها وأخذ يتحدث في الموبايل، فكرت: الأماكن لا ذاكرة لها، إنها تنسى روادها بسرعة. ثم خرجت وهى تهمس لنفسها: كانت ضحكتي تملأ المكان، لا أفهم، إنه يتجاهلني تماما، لقد تغير.. تغير.
هناك أشياء أخرى لم تعد السيدة تفهمها، وحتى ترتاح، توقفت عن التفكير فيها، مثلا هى لا تتذكر شيئا، عن فترة الأربعينات والخمسينات من عمرها، أيضا لم تكن متأكدة، إن كانت تزوجت مرة واحدة فقط أم أكثر، أحيانا كانت تعتقد أن هناك ثلاثة أزواج في حياتها، لذلك لم تنزعج كثيرا، عندما اكتشفت أنها ترتدي كل يوم، نفس الفستان الذي كانت ترتديه، في مشهد عمر الشريف.
في الصباحات المبكرة، تكون شوارع المدينة خالية من المارة، فقط سيدة تحمل في يدها حقيبة قماشية، بداخلها دفتر صغير، وصورة بالأبيض والأسود، لفتاة حلوة، ذات شعر قصير حتى الكتفين. كانت تمشى على مهل، وقطط كبيرة وصغيرة، بدأت تتجمع حولها وخلفها، وهى تمسح فراءها في قدمي السيدة، وتتقافز في الهواء مطلقة مواء مرحا، كانت القطط تأتى من كل مكان، وتزداد عددا كلما مشت السيدة، حتى إنها اختفت تماما في جموعهم الكثيفة، ولم يعد يراها أحد.