علي عطا
إلى الحفيدتين حنان شادي وأروى رمضان… وإلى ناس الكوثر
ماركيز: “مَن لا ذاكرة له، فليصنع له ذاكرة”.
“الحب في زمن الكوليرا”
ابن خلدون: “العربُ لا يحصلُ لهم المُلكُ إلا بصبغةٍ دينيةٍ مِن نبوةٍ أو ولايةٍ، أو أثرٍ عظيمٍ مِن الدين على الجملة”.
“المقدمة”
3 سبتمبر 2018.
قلبي منقبض.
أنتظر اتصالا يخبرني بوفاة خالتي أم كلثوم.
ستكون آخر الراحلين مِن إخوة أمي الأشقاء وغير الأشقاء والذين تقول الأسطورة إن عددهم فاق الأربعين!
زرتُها ومعي أخي ماهر بعد أيام مِن إصابتها بجلطة تركت نصفها الأيسر مشلولا، وكانت دعاء قد سبقتنا ومعها حنان في أداء الواجب.
كانت تنطق بصعوبة.
قبّلتُ جبينها وتبادلنا الكلام المعتاد في مثل تلك المواقف.
تذكرتُ ارتباطي الشديد بها وخصوصا في الجانب المتعلق بسعيي المضمر نحو وضع أفضل. بفضلها أصبحت أحرص على قراءة الصحف منذ أن كنت في المرحلة الإعدادية، ثم قادني ذلك إلى تفكير غائم في أن أعمل صحفيا، وهو ما اتضح إلى حد ما بعد زيارتي لمعرض القاهرة للكتاب وأنا في الصف الثاني الثانوي، ثم وأنا أشاهد معها مقتل السادات.
اتضح لي وأنا أعودها أنها زهدت الحياة؛ إلا قليلا، فلمحتُ طيف عقل وعلى وجهه ابتسامة رضا.
يبدو أنه كان في استراحة نادرة من ضجره المقيم.
بعد أيام ستفقد النطقَ وسترفض تناول أي طعام، ثم سيحملونها فاقدة الوعي إلى العناية المركزة في مستشفى المنصورة الدولي. ثم ستتصل أختي أمل لتعلمني بالخبر المتوقع.
أمل أيضا هي مّن أخبرتني بوفاة أمي في 11 فبراير 2013، فيما كانت حنان تلد أول أحفادي في اللحظة ذاتها.
كلمتُ ماهر وعرفت أنه علم أيضا بالخبر واتفقنا على اللقاء في ميدان العباسية لنسافر إلى المنصورة عسى أن نلحق الجنازة.
…
قد تتعجب يا طاهر من افتتاحي تجدُد اتصالنا بعد انقطاع دام شهورا طويلة على ذلك النحو. أنا نفسي أتعجب من الحاح خاتمة رواية “صورة عتيقة” لإيزابيل الليندي على الزج بنفسها هنا: “لولا جدتي إلزا، التي جاءت من بعيد لتضيء الأركان المظلمة في ماضيَّ، ولولا آلاف الصور الفوتوغرافية المتراكمة في بيتي، كيف كان بإمكاني رواية قصتي هذه؟ كنت سأضطر إلى صوغها من المخيلة، دون أي مادة سوى الخيوط المنفلتة من حيوات كثيرة لأناس آخرين وبعض الذكريات المخادعة. إن الذاكرة خيال. نختار أكثر ما فيها تألقا وأكثر ما فيها قتامة، متجاهلين ما يخجلنا. إنني أحاول بجزع، من خلال الصورة والكلمة المكتوبة، أن أنتصر على شرط حياتي المحكومة بالزوال، فاقتنص اللحظات قبل أن تشحب ويبهت لونها، وأجلو الغموض عن ماضيَّ. كل برهة تتلاشى في نفخة وتتحول في الحال إلى ماضي، فالواقع عابر وزائل. محض حنين. بهذه الصور وهذه الصفحات أُبقي الذكريات حية؛ فهي فرصتي للوصول إلى حقيقة متفلتة، ولكنها حقيقة على أي حال، تثبت أن هذه الأحداث قد جرت وهذه الشخصيات مرت في قدري. وبفضلها أستطيع أن أبعث أمي، التي ماتت حين ولدت، وجدتيَّ المحنكتين، وجدي الصيني الحكيم، وأبي البائس وحلقات أخرى في سلسلة أسرتي الطويلة، جميعهم من ذوي الدماء المختلطة والملتهبة. أكتب لأجلو الأسرار القديمة في طفولتي، ولتحديد هويتي، ولأخلق أسطورتي الخاصة. فما نعمله في آخر المطاف ملء أيدينا هو الذاكرة التي نسجنها. كل واحد يختار درجة اللون التي يروي بها قصته الخاصة، وأنا أرغب في أن أختار الطبع بالبلاتين دائم الوضوح، ولكن ليس هناك في قدري ما يملك هذه الخاصية المتوهجة. إنني أعيش ما بين تدرجات ألوان مختلطة، وأسرار مغبَّشة، وارتياب؛ اللون المناسب لرواية حياتي يتفق أكثر مع لون صورة عتيقة باهتة لون السيبيا”.
….
وإليكَ المزيد:
أريد أن أجرب السُكر.
أن أشرب حتى الثمالة، كما يقال.
وعندما أفيق أقرر أن الخمر تُذهب العقل، وأنها تفقد الوقور وقاره، ثم أعود إليها وأقول: ما الكارثة التي يمكن أن يرتكبها إنسانٌ يفقد عقله لبعض الوقت، ثم يعود إليه ثانية أو لا يعود مطلقا.
مثلا؛ أريد أن أنام مجددا مع امرأة تريد هي أيضا أن تنام معي من دون وجَل.
كنت أفعل ذلك منذ أن بلغت الحُلُم.
فعلتُه في سرية تامة لسنوات في وضع الوقوف، أولا، ثم في أوضاع أخرى من دون نزع الملابس كاملة.
في غرف عدة فوق سطح بيت في عزبة عقل، وفي فضاء قريبٍ من حمَّامٍ وحيدٍ يستخدمه ساكنو الغرف نفسها، مستندا معها على جدار بارتفاع نصف متر، ما يسمح بأن يلمح أي منا الصاعد على سلالم البيت، لنفترق من فورنا، إذا تأكدنا أنه سيكمل الصعود حتى يبلغ السطح باعتباره إما من سكانه، أو أنه أحد ضيوفهم، أو مجرد راغب في ضبط ايريال التلفزيون الوحيد في البيت والقابع فوق طاولة في وسط صالة شقة أم أمل، في الطابق الأول فوق الأرضي والذي يعلوه سطح البيت بحجراته المؤجرة للسكن وبينها حمَّام للجميع.
كان الوجل حاضرا بالتأكيد، ثم كان يتقهقر، وكذلك الشعور بالذنب الذي سرعان ما كان يتلاشى فيتجدد لقاء الجسدين اليافعين.
يدٌ خشنة مِن شدِ حبال “تحبيش” أقفاص الخضار والفاكهة، تدعكُ نهدا بازغا في يمين الصدر، ثم تنتقل إلى توأمه في اليسار.
تتأوه هي نشوةً؛ بصوتٍ خفيض، وأكتمُ أنا صرخة تدهمني الرغبةُ في إطلاقها مدويةً.
يلتصق البدنان حتى ليخيَّلُ إلى الرائي أنهما بدنٌ واحد تهزه رعشةُ اللذة.
………………….
*الرواية قيد الإصدار