د.رضا صالح
1
فصل خاص
أحمد شاكر..
كنا فى رمضان، انتهينا من السحور؛ قبيل آذان الفجر استدعانى عاصم للكشف على أحد المرضى بسفينة كارجو ستدخل الميناء بعد قليل، بالرغم من الإجهاد والرغبة فى النوم إلا أننى صممت على الذهاب حتى لا يظن أننى أتهرب منه ، لم أكن قد رأيته منذ أيام ثورة يناير ، كنا نتلاقى أحيانا على صفحات الفيس بوك وعلى اتصالات هاتفية نادرة من حين لآخر .
***
تقابلنا وركبت معه فى سيارته؛ فى الطريق رأيته يعرف كل مداخل ومخارج ميناء السخنة، شبكة عجيبة من الطرق، قلت له لو كنت وحدى لتهت فى هذه الغابة.
شقشق النهار، لحظة صعود الشمس من مرقدها ؛ ريح عليل وموج خفيف يسرى فوق سطح البحر؛ أفواج من نوارس هائمة تحوم حولنا تتابعنا بطيرانها الرشيق وزقزقاتها المميزة؛ بين الحين والآخر تهبط إحداها الى جوف الماء وتصعد مقتنصة نصيبها من السمك، معالم شركات البترول بفناطيسها المتعددة اللامعة تتراءى ناحية الشرق، انسكب نور الصبح مضيئا جنبات الأرض؛ اتجهت بنظرى ناحية السفينة، كانت تقف كالجبل شامخة جوار الرصيف، امتلأ قلبى بشرا وسرورا.
عندما اقتربنا من السفينة، سبقنى إليها عاصم ،أشار لى أن أصعد وراءه على سلم جانبى ضيق ملتصق بالجدار، تحتنا البحر مباشرة، عمق سحيق لا يستهان به؛ صعدنا حتى ولجنا إلى الداخل، صالة طويلة وأسانسيرات فى المواجهة، دخلت الأسانسير وراءه، بعد لحظات قال لى إننا فى الدورالسابع، تعجبت من ضخامة السفينة ورونقها وفخامتها، وجدت أخلاطا من جنسيات مختلفة، قدمنى عاصم لرجل فضى الشعر يجلس أمام طاولة واسعة؛عيناه الزرقاوان المحليتان بدهاء قد ظهرتا من تحت نظارته الطبية؛رحب بى؛ قال عاصم انه القبطان؛ كشفت على عامل كورى، ظل القبطان راسما ابتسامة هادئة على وجهه، يتحدث بانجليزية بسيطة، نظر إلى المريض وابتسم لى قائلا اذا لم يصلح فمن الأفضل أن نرميه للسمك ! ضحكت؛ قال لى عاصم إنه إيطالى محب للنكتة!
***
انتهينا من مهمتنا وهممنا لمغادرة الميناء؛ قال لى رامى: ابنى ينتظرنا .
سألته عن مكانه قال إنه فى الأتكة وسوف نذهب اليه
جلست بجوار عاصم فى سيارته؛ سألته عن توكيل الباسيفيك الذى يعمل به، وعن أحواله الآن وأحوال أسرته.
قلت له لماذا لا تأخذ رامى ليعمل معك فى التوكيل؟ رد مكتئبا: هو يعمل معى الآن؛ ولكن هناك أمورا أحبطته لفترة..
قلت له: اتركه على راحته ..
لقد قدم أوراق تخرجه الى المجلس العسكرى؛ أريد أن أذهب اليه
وأين المجلس العسكرى ؟
بالمحافظة
على العموم لا مانع ؛ نذهب سويا .. ولكن ما علاقة المجلس العسكرى بالتوظيف ؟ قال انه مسئول عن الدولة الآن ، انه يقوم مقام الحكومة ووزاراتها!
***
كنت أرنو إلى الفضاء ؛ الطريق واسع وجميل؛ هناك بعض المنحنيات والمطبات؛ خصوصا عند تقاطع شريط القطار القادم من داخل الميناء. وصلنا الى الأتكة ؛ أخذنا رامى من هناك ؛كان ينهى بعض الاجراءات خاصة بالسفن؛ قال لى عاصم اليوم الأحد، إنهم يعملون اليوم، لأن أمس– أول الأسبوع عندنا– أجازة !
***
جبل عتاقة يهيمن على المنطقة ويطل عليها بمزيد من الشفقة ، تكاثرت الصهاريج والطواحين والمداخن وامتدت الأنابيب أسفل الطريق لتصب عوادمها فى البحر وتسحب ماءه للتبريد ،ظل عاصم يتكلم .. هل هذه حسنة من حسنات ما قبل 25 يناير ؟ ربما نعم تقال بالفم المليان ، وربما لا تقال أيضا ، المشروع فى ظاهره يمثل لجوء الدولة إلى ضرب عصفورين بحجر ، الأرض موجودة ؛ لماذا لا نستغلها ؟ نبيعها للمستثمرين ، الكبار منهم ذوو الحظوة يسيل لعابهم من أجل وضع أياديهم عليها وتملكها ، يعرفون بالطبع من أين تؤكل الكتف ، سوف ينالونها ، يسورونها ويسقعونها وربما ينشئون عليها بعض المشاريع ، ما المانع ؟ الدولة تشجع المشروعات الإنمائية ، الصناعية والزراعية ، وتشجع المصدرين أيضا ، تمنحهم خصومات وميزات ، ينالونها حسب قربهم وتقربهم من النظام ،هذه غلطة النظام ، النظام أفسد النظام ، انقلب عليه ؛ الحيتان اقتطعوا المساحات الشاسعة ، آلاف وملايين الامتار المربعة ، مساحات تطل على البحر، وأخرى فى باطن الجبل، بعض الصغار أيضا استفادوا؛ لابد أن يبدو المشروع فى صورة حسنة ، حتى لا يشوبه عوار .
***
لم يكتفى رامى من الدراسة بالشهادة الثانوية، كان مثل أبيه وجده مجتهدا ؛بعد رفضه فى الكليات العسكرية قدم أوراقه الى كلية الهندسة التى قبل فيها وتخرج منها ؛عندما وصلنا إلى مبنى المحافظة ؛ كانت الشوارع المحيطة بالمبنى القديم من الجهة الغربية مليئة بالطوب والقاذورات وبقايا أخشاب متكسرة وحطام بلاطات وبرك مياه منتشرة فى المكان؛ كانوا يحاولون فض المظاهرات بخراطيم المياه كما كان يحدث فى ميدان التحرير وهنا فى المدينة ؛ كان الناس ينظرون إلى آثار التدمير ويحوقلون، البعض كانوا مشمئزين ، أحدهم قال بيأس الناس تعبانة ، مفيش حاجة اتحققت لغاية دلوقتى ! الوقت يمر ولم يتغير شىء حتى الآن!
صعدنا درجات متهالكة، دخلنا المبنى؛كان عاصم يرتدى بدلة البحر وربطة عنق حمراء بها خطوط سوداء، استأذن لدخول دورة المياه ، رأيت مجموعة من الشباب مزدحمين حول كشوف التوظيف ،اتجه رامى اليهم؛ فى الردهة حركات الناس تبدو هوجاء ، الزحام شديد ، يتحركون فى كل مكان ، لم أجد أحدا من أفراد الأمن أو العلاقات العامة ؛ توجهت إلى المدخل المؤدى إلى مكتب خدمة الجماهير، قابلتنى احدى السيدات ، تبسمت فى وجهى ؛ لم أعرفها ، فى البداية قلت لها متسائلا : أنتى فين دلوقت ؟ قالت لى وهى تحرك رأسها أسفا حضرتك نسيتنى ..أنا فى المكتبة زى ما أنا !
فرحت لاستردادى المعلومة التى هربت من ذاكرتى ، أمينة المكتبة ! نظرت إلى المدخل المؤدى إلى المكتبة فوجدت قفلا كبيرا على باب مغلق ، تعجبت ، لم أكن أدرى أن هذا المدخل جاء عليه الوقت ليقفل ، سألت عن الموظفين، أين ذهبوا ؟ قالت زى مانت شايف ! ماحدش يعرف يشتغل فى الجو ده!
***
لم نجد اسم رامى ،خرجنا؛ أطرقت حزينا من هذا الموقف
كنت أتثاءب ؛حاولت فى اللحظة أن ألطف الجو؛ابتسمت ابتسامة واسعة ونظرت فى عينيه ملتقطا أحزانه :
يا سلام لهذه الدرجة يا رجل؛ شىء بسيط إن شاء الله ؛ لا تحمل أى هم
قال رامى ضاحكا:
هناك مليونيرات فى البلد وأنا لا أجد وظيفة!
***
فى الخارج تناثرت أكوام من الحجارة و أكياس البلاستيك الفارغة وأخرى مليئة بالقمامة تعبث بها القطط والكلاب، كل يوم تتكاثر أعداد الحيوانات الهائمة بالمدينة ؛ كنت أستمتع بالنظر إليها وهى فى حالاتها المختلفة ..أسفل المبنى وفى ركن خبىء هناك كلبة ترضع صغارها ؛كانت راقدة على جنبها فوق كوم من أكوام الرمال والقمامة؛ عدد آخر من القطط ؛ذكر يداعب أنثاه ويجرى وراءها يتبادلان العدو وراء بعضهما فى محيط مبنى المحافظة ؛يضع فمه فى فمها ويعضعضه !
***
أثناء ركوبنا السيارة قال رامى إنه فرح لعدم وجود اسمه ؛يقول ان نفسه انسدت عن التوظيف، ضحكت وتساءلت عن الوظيفة؟ قال نعم ! يستشهد على كلامه بخصوص عدم جدوى التعليم والسهر على الفاضى بوالده عاصم الحاصل على ليسانس لغة فرنسية.. ومع ذلك لا يعمل بشهادته ولا يستفيد منها ، ولكنه يعمل فى مكتب شهاب الألمعى .
***
رامى كان يتحدث عن عمل أبيه بفخر؛كان ملازما له فى صغره، كان ينزل معه اللانش ولا يخاف من الأمواج ،يفرح عندما تتجاذبه الرياح ؛يتناثر رذاذ البحر المالح على جسده ويتبلل وجهه ورأسه وذراعاه.
يقول عاصم مازلنا محلك سر، النحت فى الصخرمطلوب؛ يبدو انها سنة الحياة ؛لا فكاك منها ، هل يمكنا ان نحلم بالوصول الى يوم يجد فيه الشاب وظيفة فى إنتظاره ؟ ايه.. أين ذهبت أيام كنا نقترب فيها من إقامة تماثيل رخام على الترعة وأوبرا؛صناعة كبري.. وملاعب خضرا كما جعلنا صلاح جاهين نحلم بها !.
تركنا مبنى المحافظة ؛وسرنا فى الطريق الى بورتوفيق؛كانت العواصف تتجاذب السيارة ؛نظر عاصم إلى رامى قائلا :
هدىء السرعة يا رامى ..على مهلك يابنى حتى تنتهى العاصفة..
***
حزنت مثل غيرى لأوضاع البلد ؛تذكرت قصة كان قد حكاها لى خالى مجدى؛ لو كان بيننا الآن، أعتقد أنه ربما يستاء لما يحدث لمبارك، لحبيبه القديم ؛بالرغم من أن له تجربة من الممكن أن نقول أنها قاسية معه !!…من المؤكد أنك ياخالى لن تكون شامتا فيه لأننى أعرف أن قلبك مثل الحليب، وانك من السهل أن تنسى القسوة.
كفانا الله واياكم شر بلاوى الدنيا !
***
ذكرنى لقاء عاصم ورامى ببيتنا القديم وسكانه ؛ ذكرنى بشارع الفنارات وبوالدى شاكر وعمى شهاب وأمى ونينا أم آدم وخالى آدم وخالى مجدى والأيام الماضية ..عاصم آدم يعمل مع عمى شهاب بتوكيل الباسيفيك الملاحى،توكيل الباسيفيك ضمن عدد من التوكيلات الملاحية المتناطحة لنيل صيد البحر ، الفائز بتوكيل ملاحى من الجائز أن يتحول إلى أسطورة من الأساطير ، تنفتح له الدنيا من أوسع أبوابها ،عمى شهاب صاحب التوكيل رجل مغامر ؛ يمتلك قلبا جريئا، دائما على لسانه عبارة ..ارمى نفسك ، الموج يا يجيبك يا ياخدك، مفيش وسط !!
***