ريهام عيـاد
الدرجة الرابعة
(1)
راقبت سارة والدها، وتكشيرة ملامحه، لأول مرة تراه على هذه الحالة، فكرت أنها السبب الرئيسي في حزنه، فعندما تقابلت عيناها بوالدها في الصالة؛ اقتربت منه حتى وقفت أمامه، رفعت عينيها إلى عينيه، لكنه أدار وجهه إلى الجهة المقابلة.
ــ ورب السماء والأرض، صدقني يا بابا، لم أفعل شيئًا.
نظر إليها ولم يتفوه، لمحت سارة والدتها ليلى تقف وراءه.
ــ أنا استأذنت حضرتك أحضر حفلة عيد ميلاد إليانا، وأنتَ وافقت.
لم يرد عليها، رغم وجود الرد الذي تكرر داخله (عيد ميلاد!) وحين تجاهل كلامها، استرسلت راجية:
ــ أطفأنا الشمع وحين بدأنا الرقص أولادًا وبنات دخلت الشرطة علينا فجأة وكل حاجة بعدها توقفت، المزيكا والرقص والأغاني، كلنا كنا مستغربين وعنينا على بعض وهما بيسحبونا ويشدونا للعربية.
ــ يا بابا.. رد عليَّ.. أما زلت تحب مصر! حتى بعد إهانتها ليَّ!
أخذ إسكندر خطوات للكرسي ليجلس، ارتمت سارة في حضن أمها، فأخذتها إلى حجرتها.
وسأل نفسه، هل صدقت كلامها!
نعم أصدقها، ابنتي ذات الثلاثة عشر عامًا من المستحيل أنْ تفكر في هذه الأمور.
أليس من شابه أباه فما ظلم.
لا، لا تكن قاسيًا، سارة طفلة نقية.. والعديد من هذه الحوادث حدثت لأصدقائي لإجبارهم على الرحيل، وأنا من ضمن من عافروا لعدم تركها.
إذن أخبرني ما بك؟
من الواضح أنه قد وجب علينا الرحيل.. وإلى أين نذهب وكيف وعلينا ترك كل ممتلكاتنا وأموالنا، إنه حكم مؤقت بالموت.
حاول أنْ يفكر، ويرتب أولوياته، ثم أحضر نوتة صغيرة وكتب؛ «نبيع ممتلكاتنا قبل السفر – جواكت ثقيلة للرحلة – حقائب كبيرة وأخرى صغيرة – معلبات غذائية تكفينا لرحلة الخروج».
وكتب على هامش القائمة (إنْ كان في حريتك طردي، فها أنا راحل عنك).
وضع لافتة على شقة والده للبيع لظروف السفر.
نزل إسكندر مع ابنته الصغرى ليندا لشراء المتطلبات.
وفي خلال يومين تم بيع شقة وليم.
تجمعت العائلة بأكملها، تناقش المشاكل التي تواجههم، كيف سيخرجون من هنا بأموالهم ومجوهراتهم. والجميع خرج بأموال قليلة بالكاد تكفي رحلة الخروج من مصر.
قالت إيزيس:
ــ نفتح المعلبات من مربى وغيرها، ونضع داخلها خواتم الألماس.
قال إسكندر:
ــ سمعت إنهم يفتحون ويفتشون حتى المعلبات، لا يتركون خيطًا دون تفتيش.
سأل إسكندر: ما العمل والسؤال الأكبر أين نذهب؟ أإلى فرنسا ضمن اللاجئين اليهود، أم إلى إسرائيل الحل الأسهل؟
اختار الكبار أنْ يكونوا ضمن اللاجئين، على أمل العودة حين تهدأ الأمور وتنتهي الحرب بين مصر وإسرائيل.
قال وليم:
ــ مستحيل أسافر، سافروا وحدكم.
توجهت الأنظار كلها إليه دون رد.. لا مجال للنقاش والإقناع.
كانت كلمات إسكندر إلى أفراد العائلة، على كل فرد أنْ يحضر حقيبته ويجمع ما يخصه فيها.
وظل يبحث بنفسه عن حل لمشكلته.
(2)
في ظلام الليل، دخل فايز البيت، كان الصمت مُطبقًا، يلف طوال النهار من الصباح الباكر في الكنيسة ومنها إلى الغيط ثم إلى الجبل، وجد شبابًا صغارًا في طريقه إلى الجبل الغربي، يلعبون كرة شراب، فرفع أكمامه وطرف جلبابه ولعب معهم.
حاول أنْ يلعب، كان مثل طفل لا يعرف كيف يلتقط الكرة من أقدام غيره ليجري بها، لم يستحوذ عليها مرة، بل كان يجري وراءهم، منتظرًا أنْ تأتي عند أقدامه والغريب أنه ضحك، ضحكًا كثيرًا، منذ زمن لم يسمع ضحكته تدوي في الهواء وترن كالأجراس العالية، فتعود بصدى داخل قلبه. تنفس عميقًا عندما وصل إلى قمة الجبل، جلس حتى ظهر القمر واضحًا، لكنه كان مشقوقًا من المنتصف، كان منظره عجيبًا، وعندما اشتد صقيع الليل، عاد فايز إلى بيته، فلم يجد والده عطا الله كالعادة أمام الباب. بحث عنه داخل الدار وعلى حجرة السطوح، ولا شيء على الإطلاق، حتى القطط لم تكن هناك. أتكون بنت فوزية ماتت أيضًا؟
منذ أسبوع مضى، عاد إلى داره وقت أذان العشاء ولم يجد والده عطا الله، فجرى مسرعًا، طرق باب أم سمعان وأم خليل وأم إسماعيل، كلمتان ظل يكررهما دون إجابة.
أبوي.. أبوي! أين هو؟
وتتلاقى الأعين في همس دون رد.
ويخرج طفل صغير من إحدى الديار، ولد غلبه النعاس، يدعك عينيه برفق، ويعلن: أنا عارف أين هو! ساعة المغرب، كان معه لفة لونها أبيض، ورأيته يبكي، وقططه تمشي وراءه.
وبدأت رحلة البحث عن عطا الله هنا وهناك.
وجده سمعان يبكي في قلب الليل، بجانب المكان الذي دفن فيه فوزية وانتحب بعدها، وانتشر الخبر.. فصرخ سمعان:
ــ وجدنا عطا الله، طمئنوا فايز عم عطا الله بخير.
عادوا به وهو يحمل اثنين على يديه واثنين حوله.
ــ هلعتني عليك يا أبوي!
تظهر على وجه عطا الله علامات الاكتئاب ويبكي ماتت فا..اا.. وزية.
تضحك أم سمعان وتغمز قائلة: الرجل اتخبل أكثر!
ينفض الجمع وينام عطا الله عند الباب ويصعد فايز إلى حجرة السطح، رأسه ثقيل أكثر من المعتاد، ويشكر الله على كل حال.
يضع رأسه على المخدة، ويسافر سريعًا إلى أعماق النوم.
أسبوع مضى وقد نسيَ ما حدث، مَن مات اليوم من القطط؟ فايز متحيرًا ودون أنْ يسأل أحدًا، بحث عن القطط فلم يجدها، مد خطواته حتى المدافن وفتش عنهم، لم يكُن أحدٌ هناك! واصل السير حتى الكنيسة، وجد أبوابها مغلقة، فتعجب فايز من تفكيره، منذ أنْ وُلِد، لم يرَ والده داخل أبوابها مرة واحدة، لماذا إذن يطرق أبوابها الآن؟
يمشي بخطى سريعة باحثًا عنه مرة، وأخرى متسكعًا يجر أقدامه جرًا، مهدودًا من التعب. أصوات كلاب تنبح، وقطط تموء، تُصارع الصقيع. وهو داخل دوامة الحياة. توقف قليلًا وسأل نفسه، أي هدف أحيا لأجله؟! ولم يعثر على إجابة لسؤاله.
تناهى الليل وتقارب النهار ولا جديد، عاد إلى داره، نادى عاليًا: أبوي.. يا أبو فايز.. وساد الصمت.
(3)
خرج إسكندر ممسكًا ليندا بيدٍ، والأخرى حاملًا بها حقيبتين كبيرتين، ذهب إلى أقرب معبد له، وضع إسكندر ما معه بجوار الحائط، ركعا وصليا هما الاثنان، وحين انتهيا، سأل إسكندر عن الحاخام، وحينما علم أنه رحل مع من رحلوا، انسحب قلبه، فلم يبق أحد سوى قليل من هيئة المساعدات الخيرية، تبرع بالحقيبتين الممتلئتين بملابس وأدوات مطبخ وغيرها.
عاد بكيس كبير من المعلبات الغذائية، برطمانات مربى وتونة، لتكفيهم طوال فترة الرحلة، وفي أثناء عودته، اشترى باقة ورود بلدي، قربها من أنفه، وتنفس رائحتها حتى امتلأ صدره بها وأعطاها لابنته.
ينظر لكل شيء حوله، الشوارع، والناس، والسيارات، والمباني، كأنه يراها للمرة الأولى، وسيفتقدها للأبد، جاز في نفسه سيف من الألم، لماذا.. لماذا عليه أن يترك بلده مجبرًا؟
وصل إلى العمارة، رأى إبراهيم واقفًا يحيه كعادته، فجلس على الدكة وطلب منه الجلوس، وضع الكيس أرضًا، ورفع ليندا بنت العشر سنوات على قدميه، ومرت أكثر من نصف ساعة وهم يتحدثون بصوت خفيض لا يسمعه أحد سوى ثلاثتهم!
رفض إبراهيم في بادئ الأمر:
لا يا أستاذ إسكندر، صعب
- لا يا أستاذ إسكندر، صعب عليَّ، كتر خيرك، مسؤولية كبيرة.
رد إسكندر:
- لكن اسمعني أنا واثق فيك.
وبعد مناهدة طالت، وافق أخيرًا على طلبه، دون أنْ يسأل عن الشقة ومحتوى الحقيبة. تخيل لوهلة أنها أوراق مهمة، فقط عليه أنْ يفتح عينيه وتظل العمارة أمانة يحافظ عليها حتى يعود الأستاذ إسكندر، بعد سنة لا أكثر.
باع شقة والده والاستلام بعد أسبوع من تاريخه، وقرر أنْ لا يبيع شقته، بالتأكيد سيأتي يومًا ويعود، بعد شهر، اثنين، ستة، لكن غربته لن تطول لأكثر من سنة في أسوأ الأحوال، حتمًا سيعود.
واتفق مع إبراهيم، إنْ لم يَعُد في خلال اثني عشر شهرًا من سفره، تكون الشقة بما فيها مِلكًا لإبراهيم وحده ولا أحد غيره، وإنْ عاد سيكرمه بهدية عظيمة أعلى من أحلامه وتصوراته.
فكر إسكندر كثيرًا قبل أنْ يتخذ هذا القرار، كمن زُجَّ به من السماء، وظل في الفراغ تائهًا لأيامٍ، وحين سقط تلقاه إبراهيم، الشخص الوحيد الذي ائتمنه.
وفي أثناء صعوده السلم، فتحت هنية الباب، محتضنة فساتين ومكياج وحذاء.
- تسافروا وترجعوا بالسلامة يا أستاذ.
- الله يسلمك يا هنية.
تابعت نزول السلم ودخل إسكندر الشقة، بجانب الباب عشر حقائب كبيرة، نظر حزينًا إلى كل ما حوله من المطبخ إلى الحجرات ومن الشبابيك، كمَن يفارق الحياة.
مشغولة ليلى تساعد حماتها وبناتها طوال اليوم، وحين انتهت من كل شيء، وقفت أمام مكتبتها وكتبها، أمسكت ببعض الكتب ولمستهم، وقربتهم من صدرها، احتضنتهم بحب ودفء، وانحنت على البيانو قبلته، ذرفت دموعًا على كل شيء، على أب تفتقده، وعلى أم لا تعرف مكانها، على أيام سعيدة وأخرى حزينة مرت بها، على مستقبل مجهول أُلقيت فيه دون سابق إنذار، على بلد حسبت ديانتها خطيئة تستحق العقاب والطرد من أراضيها.
وقف يعقوب مُخبِرًا إياهم أنّ السيارة الأجرة وصلت. وضعت ليندا الورود على سريرها مودعة، نزل يعقوب وإبراهيم بالحقائب ووضعاها في السيارة، حمل يعقوب وليم على أكتافه، مُجلسًا إياه على كرسي السيارة، وركب الجميع، ثم صعد إسكندر مع إبراهيم وأعطاه مفتاح شقته ووصاه وصيته الأخيرة، وانطلقت بهم السيارة إلى الإسكندرية.
بعد أنْ سافر وليم والعائلة، خرج يعقوب يبحث عن فكرة أو مشروع أو عمل أكثر ربحًا، يسأل عن محلات بقالة للإيجار وعن الأجرة، عن… وعن… حتى تعب من اللف والدوران على الأرض وبين الناس.
مرت ساعات ثقيلة على الجميع، كان الصمت فيها سيد الموقف، تتحاشى العيون بعضها، ما بين شرود وتركيز، تشاهد الطريق من شبابيك السيارة، بينما سارة وليندا يغطان في نوم عميق، حتى وصلوا إلى مدينة الإسكندرية، وهناك أحضر إسكندر كرسييْن لوالديه وظلت ليلى معهما، وعند الميناء في انتظار ميعاد السفر، كان الزحام شديدًا لا يطاق، ألسنة عدة تصل أذنيك ما بين العربية للفرنسية للإيطالية واليونانية.
أخذ إسكندر ليندا وتمشيا معًا على الميناء، اشترى بعض المجلات والصحف، القلق يكسو الوجوه وسمع البعض يتذمر، وهناك في البعيد سيدة عجوز، تحمل عصفورين في قفص، وحقائب لا تحصى موجودة في كل مكان.
وقبل دخول السفينة وقف رجال الجمارك، يفتشون الحقائب، والملابس وكل ما فيها حتى وصل الدور إلى إسكندر وعائلته.
(4)
سأل فايز الجيران في الشق، وامتطى حمارة سمعان جاره، وجاب القرية شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، وهو يبحث ويسأل عنه، وعند الغروب عاد دون أن يعرف مكانه.
جلس على الكنبة فشعر بالنعاس، وعند استيقاظه كانت العتمة تغطي المكان، أرهف سمعه فلم يصل إليه سوى حفيف الأشجار، فصعد إلى السطح، ونظر من أعلى، القرية هادئة ولا أحد مستيقظ، تمشى وقبل أنْ يصل إلى الجبل الغربي سمع صوتها.
- فايز.. فايز.
فتقدم نحوها..
- كنت عارفة أنك ستمر من هنا،
وسألت:
- عطا الله رجع؟
- أبدًا يا خالة، وصلك أي خبر عنه؟
سكتت ثُمَّ طلبت منه أنْ يساعدها في نقل (بستلة) مياه من الدور الأرضي إلى العلوي وحين تخطى عتبة البيت ارتعشت ساقاه، تنفس بقوة، لأول مرة يدخل دارها، منذ طفولته يصيبه الخوف والارتجاف عند سماعه اسمها.
- لا وجود للشياطين، ما شيطان إلا بني آدم.
هكذا سمع سيدة عجوز كانت تسكن في الشق.
ولكن في ذلك الوقت أجابها، إنْ كان الشيطان لا وجود له إذن الله أيضًا.
وجود الله يحتم علينا الإيمان بوجود الشيطان، ومعرفتنا ، ومعرفتنا للخير يؤكد وجود الشر.
وشعر بالغلبة أمام العجوز حين سكتت تفكر دون رد.
وحمل البستلة على كتفيه صاعدًا وراء عزيزة.
أسرعت تساعده.
- تعال أساعدك.
- لا يمكن يا خالة.
- هات يا فايز.
أمسكت بالبستلة معه عنوة فلمست يده، أنزل الحمولة، فاقتربت أكثر واحتكت بجسده، انزلق إيشاربها عن شعرها، فسقط أرضًا، للمرة الأولى أدرك أنها تريده، وفي نوبة جوع حادة، يدفعه فيها الخوف إلى الخلف، وتجذبه غريزته لخوض التجربة، وتلامسا، حتى استكانت أياديهما فوق أجساد بعضهما، تذكر يوسف الصديق لكن ألف احتياج قد ألمَّ به، هذه المرة فقط وسيتوب بعدها، لوهلة تسرب داخله الخوف وانساب جسده بعدها مندمجًا في أحشائها.
وبنفَسٍ متسارع بكل طاقة الرهبة، تناسى كل شيء، السحر وسيرتها وأعمالها.
لم تكُن المرة الأخيرة بل كانت الأولى لمراتٍ بعدها، تعتم الدنيا ويتسلل إلى بيتها، يملأ احتياجه بها ويعود يندم مؤنبًا نفسه، ستكون الأخيرة وهذه الأخيرة نوالها بعيد بُعد السماء. لم يحبها، لكنه يحتاج لها، إلى قسط كبير من الحنان، ويد طرية تدغدغ مشاعره.
في كل مرة يعود إلى بيته يشعر بالقرف والاشمئزاز منها ومن نفسه، وعند حلول المساء يعود ناسيًا ما كان، وما وعد به رب العباد، فكر في مرة أنها عملت له عملًا، سحرت له أو ربطته بها.
انقطع عن حضور الكنيسة والوقوف في الهيكل شماسًا. مر أسبوعان إما في الغيط وإما على الجبل الغربي وإما عند المؤونة ليشبع الاحتياج.
(5)
سمعت هنية الخبر متأخرًا جدًّا عن والدها.
“أنا مسافر أسبوع، أطمئن على الحال والأحوال وإخواتي البنات،” قال إبراهيم.
“أسافر معك، أطمئن على أبوي وفايز وأعود معك،” ردت هنية.
“وأسأل عن موضوع الخلفة عند داية القرية، يمكن لها حل،” هكذا قالت في نفسها.
وافق يعقوب دون إبداء أي اعتراض، على أنْ يتولى هو زمام الأمور، العمارة واحتياجات سكانها حتى يعود إبراهيم.
دبَّت الحياة في الدار بوجود هنية، تنظف وتطبخ، وساعة المغربية تتسامر مع الجيران في الشق، كما ضاع أمل عودة والدها، فاستسلما لفكرة فقدانه للأبد.
وفي اليوم الثاني آخر النهار عادت إلى الكوخ الصغير، كل شيء كما تركته، الشجرة الكبيرة أمها الثانية، بأغصانها المورقة، احتضنتها هنية وجلست عند جذورها تحكي لها، عن يعقوب والست ليلى والسفر والفساتين وهمها الأكبر الخلفة.. وقبل أنْ ينزل الظلام ليغطي الأرض، عادت هنية للدار.
كانت أم سمعان وأم حنا جالستين خارج الديار داخل الشق.
“أكيد مشاهرة يا حبيبتي”، قالت أم سمعان.
ومع طلوع أول شعاع نور، ذهبت هنية مع أم سمعان إلى المقابر، نزلت سلالمها وداست الأرض بأقدام مرتجفة، كادت تسقط على وجهها، انتفضت عظامها داخلها.
“يا رب أنا خائفة، لكن لأجل الحَمل أعمل أي شيء،” همست هنية ويداها على صدرها، مترجية جسدها أنْ يقلل من حدة الارتجاف. وسارت داخل المقبرة ذهابًا وإيابًا سبع مرات وخرجت.
- ترجعي المرة القادمة من مصر وعلى كتفك الولد.
- يا رب يا خالة.
وفي صباح الأحد، سمعوا أجراس الكنيسة ترنّ وفي صباح الأحد، سمعوا أجراس الكنيسة ترنُّ عاليًا، أصرت هنية على حضور القداس مع فايز.
خاف فايز أنْ يرفض فيفتح على نفسه بابًا من الشكوك والتساؤلات، كان صباحًا هادئًا، تمشيا معًا حتى وصلا إلى أعتاب الكنيسة، وهناك وقف فايز..
- ادخلي يا هنية.
فتقدمت أمامه ووقفت دقائق ثم دخلت الكنيسة، رائحة البخور تعبق بالمكان وصوت الصلاة يبث سلامًا عميقًا في النفس، لكن فايز لم يخطُ خطوة واحدة إلى الداخل، رفع عينيه، قرأ المكتوب فوق الباب “بمخافتك أدخل إلى بيتك”، وقف مرددًا الآية ثم جلس على العتبة حتى انتهاء الصلاة.
(6)
وقف إسكندر وعائلته والحقائب حوله في الطابور.
أخذ المفتش جوازات السفر، وفتشهم وملابسهم، وقام آخرون بفتح الحقائب، وبعد الانتهاء، أُجبروا على توقيع استمارة تدعي خروج بلا عودة.
دخلوا السفينة وسط حشود من المهاجرين العرب والأجانب، حالة من الشجن تعمُّ الكل، بكاء أطفال رضع وصغار قد أصابهم دوار البحر.
وعندما بدأت السفينة في الإبحار، صرخ وليم بملء حنجرته: رجعوني بيتي، رجعوني مصر وبكى بمرارة.
التفتت نحوه العيون ولا مُعزي، الجميع يحتاج لمن يشجع ويواسي، لمن يبث الطمأنينة بأنّ القادم أفضل.
يصمت وليم قليلًا تائهًا، عيناه متورمتان، وأنفاسه لاهثة، ثم يعود بصرخته المدوية مرة أخرى: رجعوني بيتي، رجعوني مصر.
وعلى ظهر السفينة تعرفت سارة على بنات في مثل سنها، يحكين، ويغنين ويتراقصن، وهكذا كانت ليندا تلعب مع أخريات مصريات وأجانب.
أما الألم والحزن فمحفور داخل أصحاب الذكريات، ومن عاشوا عمرًا في بلدهم وقد تركوها مجبرين.
تجلس ليلى بجانب حماتها وحَمِيها، وإسكندر يدور حول نفسه، وقد هدَّته المسؤولية، أين سيعيش؟ وكيف؟ وماذا سيعمل؟ وغيرها من أسئلة ظلت بلا أجوبة، وقبل أنْ تصل السفينة كانت العائلة بأكملها قد أصابها الإعياء. وعندما رست السفينة، استقبلتهم جمعيات خيرية، وأنزلتهم في مبانٍ رثّة، حتى يستوضحوا الأمر.
زارتهم إحدى العاملات في الجمعية الخيرية اسمها أستير لتدرس حالتهم، وكان تقريرها كالآتي:
- رجلان أحدهما عاجز ومسن وآخر كهل.
- سيدتان إحداهما عجوز وأخرى لم تعمل من قبل.
- بنتان صغيرتان في سن الدراسة.
وعندما علم إسكندر بما يحوي التقرير، اعترض وأعلن لها أنه يستطيع أنْ يعمل في أي وظيفة، وحاول إقناعها، إلا أنّ السيدة لم تُبدِ أي اهتمام أو تعاطف.
فرُفِعَ التقرير، وبعد أسبوع راسلتهم الجمعية، برفض أمريكا استضافتهم على أراضيها.
نزل إسكندر ومعه ليندا إلى الشارع، كان الجو شديد البرودة، لم ينطقا بكلمة واحدة وعادا كما ذهبا.
كان الحال قد ازداد سوءًا، وليم حالته الصحية تتدهور وكذلك إيزيس، أما ليلى صامتة محاولة الصمود.
وبعد محاولات ومراسلات من إسكندر والجمعية الخيرية وافقت فرنسا على استضافتهم وتأمين مبلغ زهيد بالكاد يكفيهم.
أقاموا في فرنسا بلا مال أو طعام، فقط ملابسهم؛ حيث مبانٍ خُصصت للاجئين اليهود وبدأت مرحلة أخرى في حياة إسكندر وعائلته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدرت مؤخرًا ضمن سلسلة “كتابات جديدة” ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب