فصل من رواية إبصـار .. لـ سارة شحاتة
سارة شحاتة
يسألني (عمرو) عن ماهية اللون الأزرق..أتوقف عن متابعة القراءة مع المجموعة .. أتحسس الثقوب والبروز بكتابي المطبوع بطريقة برايل وتأخذني لحظة صمت حتى يسألني مجدداً
-" انت كنت بتشوف قبل كده؟"
أهز رأسي إيجاباً لحظة شك مرت بي جعلتني أعيد تأمل الماضي ..كأنه حلم سريع ملون استيقظت منه قبل انتهائه.. أجبته بروتينية
-"أزرق لون السما .. لون البحر"
أطلق ضحكة عصبية مستنكرة فاستدركت خطأي .. فقد ولد كفيفاً لم ير لمحة واحدة مما اتحدث عنه لا يعرف ماهية السماء ولا الشمس ولا شكل الشجر.. أصابتني اسئلته بالارتباك فكيف أشرح له لون أو مشهد الغروب.. كيف أشرح له كلمة أمواج البحر دون أن يراها..
انتهى درس القراءة الاسبوعي.. ظللت جالساً معه عاجزاً عن إشباع حيرته التي اصابتني أنا قبله.. أخبره أنه يستطيع يدرك ما لا يراه بما لا يحسه سواه.. فعندما يستيقظ مبكراً فلحظات ما قبل شروق الشمس والهواء البارد المنعش يلفح وجهه .. يستنشقه بقوة لميلأ رئتيه.. عندها سيشعر بمعني اللون الأزرق.. ضحكته التي حملتها أنفاسه شجعتني على الاستمرار.
. تذكر ملمس يد والده وهو يعلمه أن يمد يده ليتعرف على العالم بأنامله فهذه هي الشمس بدفئها الشتوي المحبب وعطائها اللامحدود.. لحظات صمت طويلة تمر بناننصت فيها لأصوات أنفاسنا تتابع بهدوء.. أخيراً جاء سؤاله عن اللون الأحمر .. أجيبه أنه اللون الذي يحسه عندما يكون مع خطيبته فيضحك طويلاً.. سأل عن كل الألوان حتى أتى دور اللون الأسود..
-" هو. مش كده؟"
أجبته بتربيتة على كتفه.. فهو اللون الوحيد الذي يغلف حياته كل لحظة .. لم استطع التخلص من آثار حديثي مع (عمرو) .. كنت أظنني أتعس الكائنات حيث كان أمر الحرمان من الإبصار بعد معرفة ماهيته وجمال الكون به..هو أفظع شيء بالوجود بالنسبة لي.. وعند سماع كل العبارات المواسية أنني أفضل ممن ولدوا عمياناً كنت أثور لحماقتهم فهؤلاء لم يعرفوا جمال هذه النعمة ولا معنى أن تفقد عالمك كله بأضوائه و ألوانه وملامحه لتقبع في الظلام الدامس منتظراً في كل لحظة أن يشعل أحدهم شمعة ما أو يفتح لك الباب ليعلن لك أسفه عن الخطأ والعطل غير المقصود ..
تخيل حياتك بعد انقطاع التيار الكهربائي وقد توقفت عند لحظات انتظار عودته لتنتظم حياتك من جديد.. لكنك تعرف أنه لن يعودتستمر حياتك في مرحلة الانتظار هذه التي تطول للأبد.. كطفل نسيه والداه يهتف باسمهما في الظلام فلا يأتيه صوت صدى صوته.
فمن ولد كفيفاً لم يعرف سوى الظلام ولا يحيا في أمل انتظار بصيص من النور.. لا يفتقد ملامح أسرته ولا مشهد الغروب ولا أوراق الشجر وهي تتساقط بفعل النسيم.. فيكف يتعذب من لا يعرف ما فقده من الأساس؟
اليوم دق ( عمرو) مسماراً غليظاً في حائط اعتقادي هذا.. فهو لا يعرف عن هذا العالم سوى ما يأتي لسمعه وما يشمه بأنفه .. وما يتخيله من تحسسه للوجود حوله.. اما الباقي فهو يعتمد على الآخرين لرؤيته .. يحتاج لنظر من حوله لتصل له المعلومة..
القبح والجمال تم تحديده له مسبقاً في قوالب .. هم من يصفون له من هو جميل ومن هو قبيح وفقاً لمقاييسهم.. ما عليه سوى الرضوخ لذلك دون حتى ترف الخيال. أوجعني رده عن سؤالي عن خطيبته التي هي ابنة عمه .. أحبا بعضهما منذ الصغر ولما سألته عنها أجاب
-"بيقولوا أنها حلوة"
لا أجد إجابات لكثير من اسئلته.. معني بشرة خمرية..ما الفارق بين شكل الأرنب والقط والكلب.. مسماراً جديداً يدق بحائطي ..فلدي مخزون عن العالم استدعيه عندما تأتي سيرة شيء ما أو وصف ما. أما هو فيتساوى عنده كل شيء.. الليل بالنهار.. رغم أننا نحيا في الظلام معاً.. لكن يكفيني أن أعرف أنها منتصف الليل حتى تستعيد ذاكرتي مشهد اللأضواء الشاحبة بالطرقات وآخر المارة يحث في سيره.. والمحلات قد أغلقت أبوابها.
فقط أخبره أنه أكثر مني حظاً في التخيل.. فهو لديه حرية في تخيل كل شيء .. ليرى الحصان يقف على قدميه الخلفيتين لو أراد أو يرى أوراق الشجر كأيدي ممدودة ..فيجيب باستنكار ما الفائدة عندما اتخيل ما هو بعيداً تماماً عن الواقع وما لاوجود له..
أغوص في كلمته أكثر حتى يتحول حائطي لمجموعة معقدة متشابكة من المسامير.. فهو لا سبيل أمامه إذن إلا أن يقبل حقيقة أن السماء زرقاء والأشجار خضراء وعليه أن يردد ذلك دون أن يقدر على معرفة لا شكل الشجر ولا السماء.. فقط عليه مجاراة الآخرين..أشعر بعجزه حين يطلب وصف شيء لا يرى بوصفي له أنه يشبه شيئاً آخر لا يراه.. يصمت متقبلاً حقيقة أنه لن يحصل على أكثر من ذلك .. فكأنما لا ينتمي لذلك العالم ومن ثم عليه ألا يطمح للمزيد..فليكن كالضيف خفيفاً في اسئلته ولا يخيل له أنه صاحب بيت
***
يعلو صوته حتى يكاد يخترق طبلة أذني ؛لازال مصراً على الصراخ عند الحديث في الهاتف وكأنه يطلب من عامل السنترال "ترانك".. مراراً اوضح له أنه ليس عليه الصراخ كما السابق لكن دون جدوى.. ينهي المكالمة أخيراً ويعود لمدحه الطبيب المعجزة الذي ننتظر بعيادته الفخمة.. زحام شديد ورائحة بخور زيتية ثقيلة .. وكشف باهظ الثمن لدرجة مبالغ فيها.. يردد أنه رجل شديد التدين لا يوظف سوى فتيات محجبات .. يبرر لي المبلغ الفادح الذي جعل الحافظة خاوية على عروشها لشدة الاقبال على عيادته وضيق وقته فهو ينتقل بين عيادتيه .. الزحام الشديد يشي بانتشار تلك النظرية لدى ريحة كبيرة من المجتمع وليس لدى صديقي.. فلابد أن الرجل مقنع بالفعل وله قدرة شفائية ناجزة
-"وعليكم السلام ورحمة الله.. لحظات وأكون معاكو"
يرد بها علينا فور دخولنا لمكتبه.. يهمس الصديق أن الحائط مرصع بالشهادات العلمية من جامعات أجنبية.. يتملكني الفضول فأطلب منه أي يخبرني بأسمائها.. شهادة ماجيستير من جامعة تايلاند.. شهادة تقدير من جامعة رومانيا.. وصور كثيرة له يصافح شخصيات شهيرة.. أسأله عن درجته العلمية المصرية فلا يجدها معلقة ثم يرد هازئاً
-" حيسيب شهدات بره ويعلق بتاعتنا"
أهم بسؤال جديد فيبتلعه عند عودة الطبيب.. يسألني عن شكواي وتاريخي المرضي.. ويرد بهمهمات وصوت خرفشة قلم..يقوم بالحديث لجهاز تسجيل و يرطن بمصطلحات لاتينية يتخللها بعض المصطلحات الانجليزية..
Abdominal cramps
اسمعها وسط حديثه فأصاب بالدهشة وأعيد وصف حالتي موضحاً أنني لا أعاني مغصاً.. يطقطق بلسانه وتصير نبرته أكثر عدائية . يكتب لنا روشتة ويطلب مني بعض الفحوصات ويرشح لي أحد المعامل بعينه لإجراء الفحوصات بها.. أسأله عن التشخيص فيجيب في عجالة وصوته يأتي من اتجاه مختلف أنها حالة صداع نصفي مزمن migraine يقولها بتأن فيصيبني بالغيظ الشديد .. فإنه يخبرني بما أخبرته به مسبقاً فما الجديد الذي اضافه.. يحدد لي جلسات حقن وأشعة موضحاً أن مفعولها أثبت نجاحاً كبيراً في تايلاند.. أسأله عن تأثيرها على وظائف الكلى حيث لا تحتمل كلتي المسكنات القوية فيردد أنها منتجات طبيعية وقد داوي بها إحدى مريضات الروماتيزم وصارت اليوم تهرول خلف ابنائها بعد أن كانت تعجز عن تحريك قدمها من الألم..
-"الله أكبر"
يقولها صديقي فيزيد غيظي.. يزيد من مدحه فأعيد سؤاله عن مكونات الحقن فيصمت قليلاً ويجيبب أنها حقن خلاصة الزعفران .. ويؤكد لي أنني لن أجدها في أي مكان حيث أنه من يقوم بتحضيرها خصيصاً لعلاج مرضاه وأن وقت كشفنا قد انتهى!
أردد كالأبله
-"زعفران!. حتحقني زعفران؟"
يجذبني صديقي ..وأسمع الباب ينفتح وصوت الطبيب يرحب بالمريض التالي رغم أننا لازلنا جالسين في مكتبه.ز افهم أنه قد أنهى كشفنا الذي دام لدقائق معدودة رغمانتظارنا لساعاتين بالخارج.. يعرج صديقي على إحدى السكرتيرات التي تقف أمام صيدلية صغيرة ويسألني إن كنت سأبتاع هذه الحقن فأطلب منه الرحيل في نفاذ صبر .. يبتاع دهن النعام لرقبته فيزيد نفاذ صبري..يتحدث طويلاً عن العسل الجبلي الرائع وبذور البردقوش المستوردة و..فأجيبه هازئاً أنه لم يتبق سوى أن يحدثني عن بول الإبل فيسألني بخجل
-" ماله بول الإبل.. ده الدكتور بيشكر فيه جدا"
اتمالك أعصابي وألومه على قذفه لكل تعليمه الجامعي عرض الحائط وانسياقه خلف تلك الترهات.. بول الإبل والبردقوش كان علاجاً منذ آلاف السنين.. المادة المستخلصة منه الآن توجد بمئات العقاقير الطبية بصورة انقى وبلا شوائب وبجرعات مدروسة.. ما الداعي إذن لشرب البول إلا إذا كنت شخصاً مريضاَ بالماسوشية
-" يا راجل حرام ده طب نبوي.. وبعدين انت شكلك زعلان عشان دفعت 400 جنيه كشف؟"
يسألني بجدية فاتنفس بعمق كي اتحاشى الرد الغاضب وابدأ بالاستغفار فيدرك أنه حان الوقت لتجنبي.. يلح أن ننتحي جانباً لابتياع بعض الخضروات من باعة الرصيف .. يسأل عن سعر كيلو الطماطم ويفاصل مع البائعة حتى تخفض سعر الكيلو نصف جنيه.. الكثير من الشد والجذب بينهما مما أصابني بالضيق.. لا أطيق الفصال ولا المفاصلين في شتى أمور الحياة.. تكسبني تلك المفاوضات ضيق خلق واشمئزاز من الأمر برمته.. عراك لا معنى له بين الطرفين يحاول فيه كل منهما إثبات كونه الأقوى والأكثر تأثيراً.. اتنفس بضيق عله ينتهى سريعاً مما يمارسه من عقد نفسية على البائعة التي اختبرت كافة أصناف الفصال والمفاصلين وصارت ردودها مرتبة وتلقائية.. يحصل على السعر الذي يرضيه ويطلق سراحها أخيراً أعود خطوة للخلف وأمد يدي لها ببضع ورقات مالية .. يلومني على ما فعلت وهوينطلق بجواري شاعراً بالانتصار فلا استطيع ألا أكتم غيظي وانفجر فيه مندهشاً من كونه قد فرد عضلاته على تلك البائعة المتجولة المسكينة التي تقضي يومها في أشعة الشمس و الغبار منتظرة بضعة جنيهات بينما دفع طواعية كشف طبيبه المعجزة ودهن نعامه وبول إبله بمبالغها الفلكية دون أن يجرؤ على فتح فاه لمناقشة السعر.
يهددني أنه لن يوصلني لمنزلي لو استمريت على نغمة التوبيخ هذه فاتكئ على ذراعه وأمطره بمزيد منها حتى يبتسم..نقترب من حينا حيث الأصوات المميزة لشارعنا الذي صرت أحفظها صوت متهدج يطلب مننا حسنة فيدعو لها أن يسهل الله لها الأمور انتظر قليلاً متوقعا الرد القادم
-" إلهي تنحرق في نار جهنم"
ينتفض جسده ويسحب ذراعه من بين ذراعيّ ويهم بالعودة للعراك مع المرأة فأسحبه وأكاد أجره جراً.. يردد عبارات الدهشة بطريقته المكررة للمقاطع حين يرتبك وينفعل فلا أملك إلا الضحك مما يزيد من غيظه.. يتساءل عن سبب سعادتي الجم في الدعاء عليهما بالعذاب فأحاول إفهامه أنها لا تقصد ما تقول .. فتلك المرأة المسكينة هي "أم صدام" .. ابنها أحد حارسي العقار بشارعنا أخبرني (أحمد) ذات يوم بافتراشها إحدى النواصي وقيامها بالتسول فتعجبت لذلك لأكثر من سبب فالسيدة عجوز بلغت من العمر أرذله لا تحتمل أي تعب ولا مشقة بعد كل السنين التي عاركت فيها الحياة.. والأهم أن ابنها ليس فقيراً فهو يحرس العقار المجاور لبيتنا وينال راتبه مع أجرة مسح السيارات إلى جانب عمل أبنائه في جلب طلبات الساكنين أو صبيان للميكانيكي على أول شارعنا .
طلبت من (أحمد) في إحدى المرات أن يستفسر عن مكوثها في الشارع ويحاول إعادتها لمنزلها الذي صار منزل ابنها وعائلته فانهمرت منها الدموع موضحة أنها تعليمات الابن أن تجلس يومياً على ناصية الشارع تتسول عند موعد ذهاب الموظفين صباحاً لأعمالهم وعودتهم منها ظهراً.. وأنه لا يسمح لها بالعودة قبل أن تجمع له مبلغاً محترماً من المال.. لم أحتمل ما أخبرني به (أحمد) ووجدتني أجره جراً لحيث منزل ابنها ناوياً على فاصل طويل من التوبيخ وتوضيح عقوبة عقوقه الذي يمارسه على تلك البائسة التي ربته ليرميها بالشارع
-" وأنا اعملها ايه.. مصاريف أكلها وشربها ودواها انا مش حقدر عليه.. وانا علي ديون وعيال مصارينها مفتوحة"
الكثير من الكلام والتقريع واللوم لا أذكره قابله الكثير من الردود الموضحة والمتذللة للابن ثم المتبجحة التي أعلنتها صراحة أنني اتدخل فيما لا يعنيني .. هكذا صارت "أم صدام" من علامات شارعنا تتسول للمارة وتلعنهم حين لا يأبهون لها .. سنها الطاعنة وحالتها الصحية تجعل الجميع يترفع عن سبابها .. وكأنها بسبابها للمارة تلعن هذه الدنيا وهذا العالم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائية وقاصة مصريّة ـ والرواية صادرة مؤخرًا عن دار المحروسة