فصلٌ من رواية جلنـارة حمراء

موقع الكتابة الثقافي
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

مصطفى البلكي


في أول يوم لي في الشقة, جلست في نفس مكان جلوسنا الآن, وأخذتني سنة من النوم, ورأيت كوب ماء, فلما مددت يدي إليه, لَمس شيء ما يدي, وغاص فيه لمسافة, وحينما نزعته انفصل معه جزء من أديمي, وقع على البلاط, وما إن وصلت إليه حتى تحوَّل لتراب.
وقفتُ على مقربة من الكوب, أنظر إليه بتحد, هو أيضا ظهر لي كأنه العدو المتربص, أو ربما هو الشيطان لكنه في رداء آخر, يقول أنا لن أغويكِ, ولن أقترب أكثر, لكن سيكون هناك العرض الأخير.

جلستُ أتوجع, فالجزء الذي غادرني, ترك مساحة مُحَّمُرة, لم أر الدم ينبثق منها.
قلتُ للكوب, أنظر إليّ, هل تراني امرأة لَعُوب, أم امرأة تتقن الإغواء, أو تدرك أماكن فتنتها, فتستغل ما منح لها, أنا غير هذا, لماذا تؤذيني؟.. انظر, فأنا امرأة ترتدي جلباب رجل غير مرئي, فكل من ينتسب للعائلة تخلوا لي عن أدوارهم بقناعة تامة, فمارسوا القسوة عليّ, فكنتُ ومازلت معلقة في أماكن بعيدة, ليس بينها (بين السماء والأرض).
لا أعرف لماذا وقفتُ بعد ذلك مندهشة من الكلمات التي خرجت مني, وهي نفس الكلمات المتاحة لي في نفس هذه المواقف, كثيرًا ما أردَّدها على مسامع الوجوه المطلة عليّ من الصور, ومع الأيام أصبحتْ روتينا له أبعاده, وفي نفس الوقت عديم الفائدة!
فكلما أعدتُ تلك الكلمات للحياة, فهمتُ أن كل شيء راسخ وأبدي, لذلك خجلتُ من نفسي بينما الألم بدأ يعود مرة أخرى, فغادرتُ المكان, وتركتُ الكوب في مكانه, وتحولتُ لنحلة, توزع جهدها بين تنظيف وغسيل أطباق, وإعداد وجبة الغداء, وحينما استهلكت تمامًا, جلستُ إلى جهازي اللوحي, واخترتُ أغنية لأسمعها, وقتها كنتُ محتاجة لسماء تهديني قطرة ماء.
وصلني الصوت عبر السماعات, كان رخيمًا, وكان السكون كما هو, فغبتُ وكنتُ مع النغمة الشجية, وفجأة انفصلت لثوان عن الإنصات, وكانت تلك الحركة قريبة من رفة جناحيّ فراشة, اقتربتْ من وريقات زهرة رهيفة, تسببت في مولد الفوضى في أوصالها.
في تلك الثواني, وقف عصفور على حافة الكوب, رأيته يحط بهدوء, ويثبت قدميه, وينصب نفسه, فلا ألمح أي اعوجاج فيه, لدرجة أني لم أر اهتزاز ريشه, والمثير في الأمر كان السؤال الذي حرك كل شيء عقب رؤيتي له: من أين جاء العصفور؟؛ فالشرفات كلها مغلقة, ولا يوجد في الشقة منفذ وحيد يتيح لذلك الكائن أن يصل إلى حافة الكوب, فكيف وصل, وكيف لم يصلني رفيفه وتغريده..
كل تلك الأسئلة وغيرها, جعلتني أقف حائرة, وغير قادرة على التركيز, فنزعتُ السماعات من أذنيّ, وأصبحتُ كارهة للغفلة التي جعلتني أفقد البصيرة, وأفقد الاستفادة من مرات فشلي, ففي كل مرة, أقول سأغير الوسيلة, وبعد وقت أنسى, وأعود لنفس الفعل.
كان يمكنني أن أقف عند هذا الحد, لكن ما حدث زاد الأمر تعقيدًا, فقد ولد التبرير, كان كمطية جاهزة, فهمست نفسي: الخطأ وارد, انزعجتُ وقررتُ أن أقترب من الكوب, وحتى أريح نفسي, قلت:
ربما هناك الخلل الذي لم أنتبه إليه, ومنه تسلل.
شعرتُ ببعض الراحة, ولم أكلف نفسي عناء البحث, وعدتُ لأكمل عملي, وكنتُ رغم هذا لم أنفصل عن الكوب والعصفور, فلو فعلت لضعفت, ولذكرني الألم الذي لم ينقطع وخزه.
في اللحظة التي فكرتُ فيها بالعودة للمطبخ, تذكرتُ أني أقوم بنفس الأفعال التي لم تتغير من خمس سنوات, منذ أول مرة وضعت فيها قيد العاهرة في رقبتي؛ لذلك قررت أن أعيش اللحظات بكامل وعيي فخرجتُ, وجدتُ العصفور قد انضم إليه عدد آخر من العصافير المختلفة عنه في الشكل, والمتشابهة في الحجم, مؤسف حقا أني لم أشاهد حضورهم, وحتى لا تتبدد الرغبة في المتابعة اقتربت منهم, فلم تجفل مني, فقلت لم لا أقوم بضيافتهم, فأحضرت لهم الماء.
أخذت طفاية السجائر, غسلتها جيدًا تحت الماء الجاري عدة مرات, وتأكدتُ بواسطة حاسة الشم من زوال رائحة التبغ, وملأتها بماء نظيف, ووضعتها على سطح المائدة, رأيت العصافير وهي تنهل من الماء, ورويدًا رويدًا, انسلختُ عن نفسي, ورأيتني أندمج أكثر في المتابعة, وجدتُ كل عصفور يمارس طقس ارتشاف الماء بطريقة مختلفة, أحدهم لا يهز جناحيه, وآخر كلما نهل الماء وقف قليلاً بين كل رشفة وأخرى, ويرفع منقاره لأعلى, وثالث يبدو كأنه في حلقة ذكر, باختلافهم حركوا شهيتي لشرب أي شيء, فدخلتُ المطبخ وأعددتُ فنجان قهوة, عدت به مع قطعتين من الكيك المحفوظ في الثلاجة, وجلستُ أحتسي قهوتي, والعصافير كانت تمرح حول الكوب على سطح المائدة, وعندما تشبعتُ, هممتُ بفتح الشرفة ليعرفوا طريق الخروج, كدتُ أفعل, لولا تبادر إلى ذهني سؤال: هل يترصدون حركاتي؟
انكمشت على نفسي وحدثتها: 
حتى لو كان الأمر كذلك, فلن أخرج من شقتي لأعرف إن كان خبري قد تسرب خارج الجدران التي أعيش بينها أم لا.
نظرتُ إلى جسدي الذي لا يستره إلا شورت, وفانلة بيضاء, وعدتُ إلى العصافير ونظرتُ إليها بعين أخرى, عين راحت ترسم ما سوف يحدث لو وقع التلصص, ابتسمت ابتسامة كبيرة, أظن أنها كانت ساحرة, ومختلفة, لأن العصافير لأول مرة تغرد في صوت واحد, وفي اللحظة التالية, قمت من مكاني, وعدتُ للنغمة التي فارقتني, ورقصتُ على وقعها, وكأني أحضن آخر, والعصافير غادرت مكانها, وفي اللحظة التي أصبحتُ ممتلئة بالموسيقى, بدأتْ العصافير تتحلق حولي, وبهدوء رحتُ أتحول لامرأة أخرى, خف وزني, وكبر الفضاء المحيط بي, وفجأة فتحت ثغرة في جدار, ووجدتني أغادر الشقة معها, وأنا شبه عارية.

 

 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي مصري ـ الرواية صادرة مؤخرًا عن دار سما 

مقالات من نفس القسم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 12
تراب الحكايات
عبد الرحمن أقريش

المجنون