نال سيديل عن بعض هذه المجموعات جوائز مهمة، لكنه لم يذهب لتسلم أي منها بنفسه، هو الذي لا يحب إجراء المقابلات الصحافية، ولم يحدث أن قرأ شعره أمام جمهور قط. في عام 1963، نشر أولى مجموعاته الشعرية ثم توقف بعدها عن نشر الشعر لنحو 15 سنة، وقتها لم يكن يعرف كيف يستمر من دون أن يكرر نفسه. منذ مجموعته الأولى «حلول نهائية»، أثار سيديل المشاكل، فهو شاعر قاس جريء لا يقدم ما يتوقع أن يقرأ، وما زالت كلمات مثل القسوة والصدمة تصاحب التلقي الأول لقصائده حتى الآن. تلك القصائد التي كثيراً ما تناولت الفقراء والمعوزين وضحايا العنصرية، واتخذت من السياسة موضوعها الدائم، وربما بسبب ذلك! وهو على الجانب الآخر الشاعر المُترف، الذي يسكن أعلى غرب نيويورك: «أحيا حياة شهية/ هذا صحيح/ أحيا حياة مميزة في نيويورك/ آكل التوست بالزبدة في السرير، بأصابع خارجة من فرج امرأة صباح الآحاد/ قل هذا ثانية؟/ عندي قواعد…/لا أمنح المتسولين الذين يمدون أياديهم في الشوارع شيئاً…»
بعدما كاد مخطوط ديوانه الأول أن يحصل على جائزة من «مؤسسة ياماها»، كما أخبره أحد أعضاء لجنة التحكيم بأنه سيسمع أخباراً سارة قريباً، عاد وأخبره أنه لا يمكن أن يحصل على الجائزة، التي كانت تتضمن نشر المخطوط، لأن كتابه ببساطة «سيزعج، وربما يهين عدداً كبيراً من الناس». اتهمت القصائد بالفحش وبمعاداة الكاثوليكية والسامية، واتهمت بالتشهير بمامي آيزنهاور والكاردينال ليبل سبيلمان. رفض سيديل الجائزة ونشر الكتاب عندما طلب إليه أن يحذف عدداً من تلك القصائد «المهينة»، كما أرادت مجلة «تايم» أن تنشر القصائد محل الخلاف مصحوبة بتغطية للموضوع بأكمله، لكنه رفض، لأن «تايم»، على حد تعبيره، «مكان مبتذل». استقبل الديوان استقبالاً صاخباً، ووجدت القصائد مزعجة لكثيرين، لأنه يحب أن يكتب قصائد مزعجة، ولا يمانع إطلاقاً أن تصدم قصائده أحداً.
منذ صباه، أحب سيديل شعر إزرا باوند، وسعى للقائه، ومن هارفارد أرسل إلى إزرا باوند رسالة فيها قصيدة طالباً رأيه فيها، قائلاً: «إن كانت هذه القصيدة تستحق اهتمامك، فهي تستحق اهتمامي». وللمفاجأة رد باوند بعدها بفترة، فذهب سيديل الشاب إلى واشنطن لملاقاته في المستشفى المحتجز فيه. حينها، شجعه باوند وصحح له ونصحه بالبقاء في هارفارد، ونشأت بينهما صداقة لطيفة، لكنهما لم يلتقيا بعدها. مع ذلك، يرى سيديل نفسه مختلفاً تماماً عن باوند وعن ت إس إليوت، الذي التقاه كذلك في لندن في إحدى زياراته إليها. ينفي سيديل تأثر شعره بسيلفيا بلاث وفرانك أوهارا، لكنه يؤكد على حبه وافتتانه بأوهارا شاعراً وشخصاً رائعاً، وقد عمل لفترة على سيناريو فيلم عن قصة حياة أوهارا لكن هذا المشروع لم يكتمل.
هذا الأسبوع أتم سيديل عامه الحادي والثمانين، وما زال يكتب لأنه «يكون أفضل عندما يكتب، ويشعر أن الحياة ممتلئة، وأنه مخلوق لغرض ما».
أغنيةٌ للربيع
أستطيع أن أجد الكلمات المناسبة
وأحياناً لا أستطيع
ها هي الأزهار التي ترمز إليه
وأنا واقف هنا على الرصيف
لا أتحمل ذلك
لكنني متفهم بالطبع؛
يجب أن يكون لكل شيء معنى
وعلى الأشياء أن ترمز لشيء ما
لا أستطيع استيعاب الزمن
حتى السطحي منه عميق جداً!
أقول لبائع الزهور:
الزهور جميلة في دكانك يا رجل
سآخذ عشر سوسنات
منتصباً
لكن كما لو كنت راكعاً على ركبتيّ
وقبل أن يقترب الصبي من المدرج المنقوش العالي
حيث تصطف زهوره خارج الدكان
آخذ شعلاتي، وأدفع حسابي في الداخل
أنصرف لأحظى بمضاجعة
هذه هي المرأة التي أحب
في الغرفة ثلاث عشرة سوسنة
وأنا واقف على السطح.
……………..
أكره الأزواج العجائز
الذين يطلقون في سيرهم روائح الحب
وفي مطعم «سيتي دينر» يأكلون شعاعاً من الأمل
ثم يدفعون
ويترنحون خارجين من برودواي
يطبلون، يرقصون، يثرثرون
شيء لا يكاد يطاق
ينشرون أجنحتهم لتكون أكثر جمالاً
وأكثر فظاعة…
…………..
نغمة برودواي
امرأة عارية في مثل عمري هي كابوس مطبق
امرأة في مثل عمري هي كابوس
ليس مهماً
لا يكترث المرء
لا أحد يقول هذا بصوت مرتفع
من النادر أن يكون هناك أحد على استعداد لقول ذلك
لأن هذا يعادل شراء لافتة لعرض ذلك عليها
لعرض كم هي رهيبة الحياة بعد الموت
كم رهيب أن ترسم آخر نفس لك
بينما تستمر في العيش
……………
فبراير 30
الحمامة الرقطاء التي تقف على إفريز النافذة هي جون كيندي
يقف على ساق واحدة، ينظر حوله ويحجل
وعبر الغرفة، ينظر إليّ مباشرة
لا تسأل عما يقدمه لك وطنك
اسأل عما تقدمه أنت لوطنك
وها هي الطريقة التي سوف أفعل بها ذلك
أخشى أنك لا تترك لي خياراً الآن
التتابع يبدأ بأخاديد من ألواح منحوتة
مليئة بدماء اللحم المشوي
كل شيء يتغير باستمرار
ونحن نريد له أن يتغير
لكن احلم ألا يتغير شيء،
يطير الحمام غدواً ورواحاً
يبدو وكأنه يبحث عن شيء ما
ذهبت للنوم في هافانا
انقلبت على ظهري في سايجون
واستيقظت في كابول
وزرت بغداد حيث مكيف هواء وبطانية تحتية معاً
الحمامة الرقطاء التي تقف على إفريز النافذة
تبدو وكأنها تشبهني قليلاً
أنا أقف على ساق واحدة، أنظر حولي وأحجل
وعبر الغرفة أنظر إليّ مباشرة
الرجال الملتحون يحكمون إيران
وبالتالي، نيكسون مع ظله في الساعة الخامسة
يرتفع من المقبرة إلى الحملة الانتخابية
حتى في وضح النهار
شبحه لا يستطيع التوقف
في أحياء معينة تسمع غناء الضحايا
كورازون أنت تمضغ قلبي
لا تنس أن تبصق البذر بعيداً
قرع الباب
وفي الشارع رصاص قاتل
الحمامة الواقفة على الإفريز
عادت من العراق مصابة باضطراب ما بعد الصدمة
تقف هناك، على ساق واحدة
في تمويه مضبب
وخلال النافذة تحدق إلى المعالج الفرجيني
كل شيء يتغير باستمرار
ونحن نريد له أن يتغير،
لكن احلم ألا يتغير شيء،
استمر…
كل شيء يتغير باستمرار
ونحن نريد له أن يتغير
لكن احلم ألا يتغير شيء،
كل يوم لا أموت فيه هو الثلاثون من فبراير
ما يعني أن المزيد من الجنس في الإمكان
أسراب الحمام ترفرف في الأجواء
في ضوء الشمس يبدو الوميض الأبيض وكأنه يعرف شيئاً
ماذا الآن؟
من يريد أن يكون مزيفاً
هنا ما سوف أفعله
في المكتب البيضاوي يقوم الماكيير بعمله جيداً
نار المدفأة أضيئت ومكيف هواء على أشده…
……………………….
أوراق الخريف
غطّس سرطانات البحر الحية في الماء المغلي
واتركها تصرخ
سيتحول كلاكما إلى اللون الأحمر
طبعاً سيكون عليك أكلها ميتة
محتمل أن تكون هناك بطارخ غير مخصبة، ستتحول أيضاً إلى الأحمر،
بطارخ لذيذة بخبث تسمى مرجان
بقدر برودة المحيط الذي جاءت منه الكابوريا، بقدر حلاوة اللحم المسلوق في مخ ساخن
وفي النهاية، سرطانات البحر مثل أوراق الخريف
غير قادرة على ضبط نفسها
لا تعرف أن العذاب هو التحول إلى شيء آخر، حين لا يكون ذلك في نيتك يقيناً!
هذه الغرفة يجب أن تكون غرفة النوم
لكن لها رائحة فأر اصطاده الفخ
وها هو ملتصق بالصمغ
كرجل عالق
واقف على سقف سيارته الغارقة
أو كامرأة تمارس الحب مع نفسها أمام مرآة
الصرخات الخافتة التي تصدر عنك وأنت تحاول الفكاك من نفسك تتحول أفراس نهر تغني وتتنهد!
وقود هذه الدراجة أحادية العجلة، ناهبة العالم،
يصير أسرع فأسرع
إنه مجرد قوة
ولم يعد رئيساً للولايات المتحدة
الرجل الواقف على سقف سيارته يطوح بذراعيه
فراشات أرض الحب تحط على القطران الطازج اللزج الحقير
وأنا أتحول
بعد تحول مريع مفاجئ، إلى إنسان
أُحتضر،
أتحول إلى شيء لم يكن في نيتي التحول إليه!
رائع أن تشاهد امرأة تستمني
يتحوّل لون عينيك إلى الأزرق
كأن المرأة تفعل ذلك لأجلك
إنها تراقبك أيضاً
وأنت مدرك أنها تفعل ذلك لأجلك
تبلل تليفون الرجل الذي ما زال عالقاً هناك
فوق سقف سيارته ذات الدفع الرباعي الغارقة
يصرخ في المدى
ساعة اليد الجديدة، «ماركة سواتش»، على معصمي
تُكبل المشتبه به، ليضاجع شخصاً يافعاً
يتلويان كحبل
دعهما يتدليان ويلتفان
كم هو مؤلم التحول إلى شيء آخر!
نوع من الصراصير له رائحة العفن الخفيف، يتجول على شعر ساقين
فيغمغم بشيء، ثم يلبس حلة أنيقة، ويخرج
الخريف في الخارج
الطقس الذي يحبه الناس
المثالي تماماً للذين يكرهون الحر
تشرق الشمس في كل الزوايا، في الأجواء
مخلفة هذا المنظر، وذاك النور
فيأتي أول المستجيبين في زورق، لإنقاذ الرجل الواقف على سقف سيارته،
تُدلي الهليكوبتر بسلمها إلى الكابوريا المسلوقة
دعني أوضح لك أمراً؛
لم أفهم شيئاً قط…
………………
إلى فيليب روث بمناسبة بلوغه الثمانين
أنا موسوليني،
والمرأة التي استلقت على مكتبي تبدو صغيرة جداً
صار المكتب مذبحاً مقدساً
المرأة عارية
دعوت المرأة بالصغيرة فقط لأني بحاجة إلى قافية
تبدو صدمة المرأة العارية عارمة
على سطح المكتب، وفي الوحل
الدوتشي، الدوتشي، الدوتشي، من يجعل الفتيات تبتل
ربما تكون هذه هي الأكثر بللاً على الإطلاق
غالباً ما فعل موسوليني هذا
وضع البوت على المكتب الذي يعمل عليه
وأنا أجلس على كرسي مكتبي، أحدق إليها
وقد أعجبها ذلك
أعجبها أن أحدق إلى صندوق إيراداتها
الحقيقة أن كل شيء هو مسرح
لقد تحصلت على وجه آكل النمل
الذي برز كقضيب ليتناول وجبة
أنا الحليق الخائن ضارب الزوجة
أحضر عروض المسرح
عليها طبعاً أن تكون زوجة رجل آخر!
أعيش وحدي مع حياتي
بالنسبة لي، طلاق واحد كان كافياً تماماً
فكرت في الراحل جو فوكس
ومفهومه أنه لا يستطيع النوم دون امرأة في فراشه
هو أيضاً أحب المحيط
ونشر أعمال فيليب روث، عندما حصل فيليب البذيء على أول قراءة
في مارس
عندما يتساقط ثلج ما قبل الربيع، ويغطي المدينة بنعومة
وتنشر الأشجار فروعها، كرئات تنشر قصباتها الهوائية
وخيول «الكارتّات» المصطفة تدق بحوافرها، وتبيّض بأناة
أبقى مقيداً بالسلاسل إلى مكتبي وأصفّر
……………….
من باربادوس
ضفادع القصب ظهرت لهم
وهم لم يروا شيئاً غريباً كهذا في حياتهم
الآن الأرض كلها ممتلئة بهم
فجأة اكتظت الأرض بالأسلاف
صارت أفراس النهر ودودة تجاه القرويين
لكن فوراً جاء صياد أبيض فأردى أفراس النهر الودودة قتلى
لو أنهم عرفوا أن تلك الصداقة ستنتهي هكذا..
لما تورطوا فيها أبداً
فجأة امتلأت الأرض بالأرواح
أرض قصب السكر امتلأت أفراس نهر وضفادع قصب
إنهم دائمو الشكوى…
كان الإكسيليفون مرتفع الصوت جداً
ملك التماسيح مات
العالم لا نهاية له!
………………
*نقلاً عن “الأخبار” اللبنانية