يبدو “جاي تاليز” في هذه القصة وهو يدور حول سيناترا كالمصور الذي يلتقط الصور للحظات ثمينة لن تتكرر، وكمخرج الأفلام الذي يركز علي مشاهد بعينها يعلم أنها تقول كل شيء دون أن تقول شيئاً في حوار لتاليز لمجلة باريس ريفيو قال : “أنا متأكد أن سيناترا كان يعرف بوجودي،ويعرف من أنا، لكنه لم يتحدث معي ،وأنا لم أطلب أي شيء. فقط كنت أتحاور مع الكثير ممن يمكن أن نسميهم شخصيات ثانوية. وحين عدت أخيراً إلي نيويورك، قابلت”جيلي ريزو” مالك “صالون جيلي” وهو من الشخصيات المقربة لسيناترا، وقد قادني لرؤية والديّ سيناترا في نيوجيرسي، وقد كانت فرصة عظيمة بالنسبة لي، فوالدة سيناترا امرأة لطيفة ،وقد تحدثت معي حول علاقة سيناترا بآفا جاردنر. بإمكاني الاعتقاد بأن سيناترا قال لوالدته أن بإمكانها أن تتحدث معي، وإلا لما وافقت علي مقابلتي. يمكنني أن أقول أن سيناترا وأنا كنا نتعاون سوياً بشكل غير مباشر، فأنا لم ألح في طلب مقابلة ،وهو لم يقل لا تكتب عني، كان الأمر أشبه برقصة صغيرة مرحة”.
كانت مجلة “إسكواير” الأمريكية قد كلفت تاليز بكتابة ست قصص صحفية علي مدار عام كامل، كان من بينها القصة التي بين أيدينا، والتي نشرت للمرة الأولي عام 1966 ، وأصبحت رائدة لنوع من الأعمال الأدبية غير الخيالية ، والذي سمي لاحقاً ب “الصحافة الجديدة”. و تم اختيارها في الذكري السبعين لتأسيس المجلة كأفضل قصة نشرتها المجلة في تاريخها، وقد نقلها إليالعربية المترجم والكاتب إيهاب عبد الحميد، وصدرت الترجمة عن البرنامج المصري لتطوير الإعلام.
تبدأ أحداث القصة – والتي تبدو تماماً كرواية قصيرة- بإلقاء الضوء علي المزاج الغاضب الذي يعانيه سيناترا بسبب العرض المرتقب لفيلم وثائقي عن حياته قيل إنه يتعرض لخصوصياته ،ويلمّح إلي صداقته المحتملة بزعماء مافيا؛ بالإضافة إلي قلقه من ظهوره المرتقب في برنامج تليفزيوني حيث سيكون عليه أن يغني ثمان عشرة أغنية بصوته المحتقن فاقد الثقة جرّاء إصابته بنزلة برد، وقد وصف تاليز نزلة البرد هذه بمهارة كبيرة، حتي أن مذيع أحد البرامج التليفزيونية التي استضافته للحديث عن الكتاب حرص علي قراءة الفقرة كاملة، وحتي قبل أن يوجه أية أسئلة إلي تاليز: “كان سيناترا مريضاً. كان ضحية مرض شائع لدرجة أن السواد الأعظم من الناس لا يعيرونه أدني اهتمام، لكن عندما يتعلق الأمر بسيناترا فإن تلك الوعكة يمكن أن تغرقه في بئر من الآلام، في بحر من الكآبة العميقة، أن تجعله مذعوراً، بل وغاضباً. كان فرانك سيناترا مصاباً بنزلة برد.. إن سيناترا المصاب بالبرد يمكن أن يرسل ذبذبات تربك صناعة الموسيقي والسينما والاستعراض وما وراءها من صناعات، تماماً كما يمكن لوعكة مفاجئة أصابت رئيس الولايات المتحدة أن تهز الإقتصاد القومي بأكمله”.
ولعل التفاصيل الدقيقة التي نسجها تاليز بجمالية عالية، هي أكثر ما يميز هذه القصة الرائدة، حتي أننا نشعر أنه لم يغفل أي شيء، برغم أن القصة لم تتعدي خمسة عشر ألف كلمة، فقد تحدث عن كل شيء تقريباً، حتي مسألة الشهرة، والتي يعد الحديث عنها عموماً من الكليشيهات المحفوظة عن ظهر قلب، إلا أن هذا لم يمنعه من ذكرها، كما لم يمنع ذلك لاري كينغ من الحديث عنها مع سيناترا في برنامجه الشهير.
لكن الأهم من كل شيء هو تحليله العميق لشخصية سيناترا، الذي “يخرج أفضل ما في الناس وأسوأ ما فيهم”، “ذلك الرجل الذي ليس من الفطنة أن تحاول توقع ردود أفعاله، فهو رجل غير متوقع بالمرة، متقلب المزاج، ومتعدد الأبعاد، رجل يتصرف من واقع اللحظة وبدافع الغريزة، يتصرف فجأة، وبشكل درامي، ولا يستطيع أحد أن يتوقع ما يحدث بعد ذلك”.
كنت قد أمسكت بالقلم كعادتي أثناء قراءة الكتاب ،لوضع الخطوط أسفل السطور الهامة، لكني لم أستخدمه كثيراً ، فالكتاب ليس من النوع الذي تعود إليه لتقرأ بضع فقرات،وذلك لأنه ينتمي لتلك الكتابات التي تحدث بعد الكثير من البحث ثم يتم إنجازها في دفقة واحدة سهلة.. مكثفة وممتعة، ذلك النوع من الكتب الذي يُقرأ بنهم وفي جلسة واحدة تقريباً، وإما أنك ستعود لقراءته بأكمله مجدداً في وقت لاحق، أو أنك لن تقرؤه ثانية أبداً مكتفياً بالمشاهد التي علقت في ذهنك أثناء القراءة الأولي، تلك المشاهد المرسومة بعناية بالغة بما يكفي لتشعر أنك لم تقرأ قصة صحفية ، بل شاهدت فيلماً سينمائياً من كلاسيكيات السينما العالمية، فيلماً يحكي ببراعة عن شخصية سيناترا، قاموسه الخاص، زيجاته ،أبنائه،والديه،أصدقائه،أعدائه، قصة كفاحه،أماكنه المفضلة، أغنياته الخالدة..فيلماً من تلك الأفلام الملهمة التي تدفعك لتتعمق أكثر في حلمك الخاص حتي تراه “بالجلاء الذي رأي به سيناترا حلمه”.
ربما يكمن السر في نجاح تاليز أنه رسم بعض المشاهد بموهبته الفريدة، ثم ذهب في طريقه، وربما لأجل هذا ثارت كل هذه الضجة حول الكتاب، وربما لأجل هذا حقق كل ذلك النجاح، فقد ترك القراء في تعطش للمزيد.. للمزيد من سيناترا وعالمه.. للمزيد من الفن والإبداع.. وللمزيد من الكتابة الجميلة.