فراشةٌ للاحتراق

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

جيلان الشمسي

داخل جدران المستشفى الخانقة يقفون دون حراك. دائرة صغيرة تتكون حول الكرسي المتحرك الذي أجلسوها عليه، ممرضة عابرة تحاول إبقاءهم ملاصقين للحائط حتى لا يسدوا الطريق، نظرات مرافقتها المطمئنة نحوها و ابتسامة راثية ترتسم على ركن فمها، يضغطون فرامل الكرسي حتى لا يدفعها أحدهم فتسقط، رأسها الذي لم تعد تستطيع أن تقيمه فتسنده طوال الوقت فوق كتفها باستسلام. جسدها الذي استباحته الأدوية الكيميائية منذ أشهر قليلة دون توقف. لم تعد قدماها تقويان على حملها. "هانت قربنا ندخل" تتمتم مرافقتها في أذنها بحنان. أشخاص آخرون يحيطون بكرسيها المتحرك متحدثين دون أن تتمكن من التعرف عليهم. لم تعد تذكر أحد. لا تتذكر سوى أن أمامها هذا الطابور الطويل قبل أن تتمكن من الدخول في دورها و أخذ جرعتها. الحائط المتشقق بجوار رأسها الذي عبث أحدهم به يوما، ربما من كثرة ضجر الانتظار. تمر ممرضة أخرى تربط على ذراعها هامسة "ربنا يشفيها" قبل أن تدس مرافقتها عشرة جنيهات في جيبها. "عايزين ندخل بسرعة". همهمات مفاوضة بينهما. الأعين الزائغة للمرضى من حولها. تريح رأسها أكثر فأكثر حتى كاد يتضخم ليسقط بها من فوق الكرسي

 

[أنامله تمتد لتضفر خصلات شعرها ببطء و مهارة فائقة. “أتعرف أني كنت أعشق يديّ أمي تصففان شعري”. يبتسم. فراشة ما تمد جناحيها لتحلق بجوار مصباح الغرفة المضيء. “يقولون أن الفراشات أرواحا هائمة يجب علينا الصمت في حضورها”. يسكنان قليلا دون صوت. يداه تتحركان فوق وجهها و عنقها . تستكمل الفراشة رقصتها حول الضوء. يمد يده ليغلق مفتاح النور المجاور لرأسه. يداه تتوغلان في أعماقها أكثر فأكثر. تظل الفراشة متخبطة في الظلام، ثم حين تفقد بغيتها تحلق من النافذة نحو نور يتراءى لها في نهاية الشارع . “تركتك الروح و رحلت”. يداعبها مبتسما. تريح رأسها بين ذراعيه مطمئنة و تبتسم.]

 

الفراش الذي لم تعد تنهض من فوقه، الذي لم تعد ترى سواه. يدسون في فمها بعض الأكل المهروس. ليس مهما ما تتذوقه أو ما طعمه، المهم أن يمر لداخلها. إحساس الغثيان الذي لم يعد يفارقها أبدا. لن تمر أيام قليلة حتى يدسون أنبوباً في حلقها محملا بمادة صفراء اللون. سيزجون بالطعام لداخلها مباشرة. لن تتعرف عليه و لن تعرف ما هو. سيتخللها دون إرادة. كقبلات الزائرين التي تمتد نحوها دون أن تتمكن من منعها. كحسرة تراها في الأعين يظنونها تغفلها حين تغمض عينيها. كجسد حبيب فارقها تاركا إياها لبرودة وحدتها. تحاول تذكر أي اسم ممن يحيطون بها دون جدوى. إبرة ما تدس داخل عروقها. تشهق قليلا متألمة ثم تغمض عينيها مجددا. يعتصرون بأنفاسهم الثقيلة الهواء حولها. يدها تمتد بحركة لا إرادية نحو هاتف ليس موجودا لتضغط رقما لم تعد تتذكره. تريح رأسها للخلف مغمضة عينيها.

 

[يخبرها أنه لن يعانقها مجددا. بذلك الصوت الرتيب و عبارته الفعلية يغلق الهاتف. أنفاسها مازالت على الجانب الآخر وحيدة تتزامن مع صوت الجرس القصير المنذر بانتهاء المكالمة بغتة. تعلم أنها ربما تكون آخر مرة تستمع لذلك الصوت الحبيب. الخذلان يغمرها. تتلفت شاعرة أن المارة كلهم قد استمعوا لحديثهما و صراخهما الهاتفي. تغلق معطفها جيدا ململمة بقاياها المبعثرة داخل الأعين. تفكر في الاتصال مجددا قبل أن تتراجع. لن تتلامس أيديهما بعد اليوم، لن تستنشق رائحته داخلها، لن تريح جسدها وسط ذراعيه، لن يملأ ما بداخلها. تتأمل واجهة المحل الذي يعلن عن تخفيضات الملابس. بكلمة واحدة أخرجها من دفئه للأبد. الإضاءة الرخيصة تتلاعب من خلف زجاج الفاترينة. كفها تعتصر الهاتف بعنف. فراشة ما تصطدم بالمصباح الرديء فيشتعل جناحها لتهوي.]

 

كانت أول مرة تأتي لهذا المكان الكئيب. تمد يدها باحثة عن نقود داخل حقيبتها لتدفع الكشف. يدها لا تتوقف عن الارتعاش و هي تفتش في محفظتها. تخشى أن تملأ المواد الكيميائية جسدها فتنهار بعدها. مازال الأمر في بدايته أو هكذا يقولون. لا تود أن تصير صورة باهتة لامرأة كانت. لم تعد تأمل سوى في ألم أقل. “عايزة فكة” ترد عليها موظفة الاستقبال غير عابئة بارتعاش يدها و اضطرابها الملحوظ. تفتش أكثر داخل حقيبتها. تلمحه من بعيد خارجا من غرفة الأطفال في نهاية رواق المستشفى. لم يظهر اسمه على شاشة هاتفها طوال تلك الأعوام. تبتسم له. يداه محملتان بأوراق أشعة، روشتة، و كف طفل. ابتسامتها تتحجر فوق وجهها. يدير رأسه كأنما لا يراها مبتعدا. “عايزة فكة يا آنسة .. باقي خمسة جنيه” تقاطعها الموظفة. تتلفت حائرة و قد توقف ذهنها للحظات. تعاود النظر في الرواق الذي صار خاويا إلا من بقايا عطره.

 

تفتح عينيها، تغلقهما، فوق نفس الفراش. الآلام التي لم تعد تفارق جسدها كأنما توحدت معه. تحاول تحريك أعضاءها قليلا دون نجاح. لم يعد هناك من خلايا تعمل سوى ما يمكنها من فتح و إغلاق عينيها. لا تتمنى سوى أن تحتفظ بالخلية التي تحمل ملامحه و عطره داخل رأسها. فليذهب ماعداه. شعرها المتساقط كله بجوارها دون أن يفكر أحدهم في تنظيفه. تفتح عينيها. تغلقهما.

 

ستخبرهم الممرضة في اليوم التالي أنها لم تجد سوى بضع ملاءات تعتلي الفراش. هاتف قديم بلا أرقام مسجلة عليه. نافذة مفتوحة. و جناحان يحلقان دون توقف حول مصباح الغرفة.

 

 

 

قاصة مصرية

 

صدر لها:”يوماً ما سأكون شمساً” مجموعة قصصية عن دار العين 2011

 

مقالات من نفس القسم