كان أبي حينئذٍ ميتاً بلا شك. حدث أن احتضر مرات عدة، لطالما ترافقت بشكوك دعتنا لإعادة النظر في موقفنا إزاء حادثة الوفاة. وكان لهذا مزاياه. جعلنا أبي نألف موته بتجزئته إلى دفعات. تدريجياً لم نعد نبالي بعودته-التي كانت تزداد قصراً وتعاسة في كل مرة. كانت قسماته قد تفرقت في أنحاء الغرفة التي عاش ونشأ فيها، مبتكرة في بعض الأماكن صوراً غريبة من التشابهات كانت معبرة إلى حد بعيد. بدأ ورق الجدران في عدة أماكن يحاكي عِرَّته العصبية الاعتيادية، رتبت تصاميم الزهور نفسها على شكل ابتسامته الكئيب متناظرة مع النقش المتحجر لحيوان مفصلي منقرض. لفترة من الوقت منحنا مساحة واسعة لمعطفه المصنوع من الفراء المبطن بجلود الظربان. فاحت رائحة المعطف المصنوع من الفراء. عبر به ذعر الحيوانات الصغيرة المدروزة معاً، يتشبث واحدها بالآخر، في تيارات بائسة وضاع في طيات الفراء. إذا ما قرب المرء أذناً منه قد يسمع تناغم خرخرة نوم الحيوانات الشجية. صمد أبي سنوات عديدة في هذا الشكل المدبوغ جيداً وسط الرائحة الخفيفة للظربان، القتل، والتزاوج الليلي. لكنه لم يدم.
.
عادت أمي ذات يوم من البلدة مغتمةً. “انظر يا جوزيف،” قالت،” يا للصدفة السعيدة. أمسكت به على الدرج يقفز من درجة إلى أخرى”-ورفعت المنديل الذي يغطي شيئاً في طبق. تعرفت إليه في الحال. كان التشابه صادماً بالرغم من أنه كان حينها سرطاناً أو عقرباً كبيراً. تبادلت وأمي النظرات: كان التشابه لا يصدق بالرغم من الانمساخ.” هل هو حي؟” سألت.” بالتأكيد. بالكاد يمكنني الإمساك به،” قالت أمي.” سأضعه على الأرض.” وضعت الطبق أرضاً، وانحنينا عليه وراقبناه عن كثب. كان يوجد مكان مجوف بين قوائمه العديدة المقوسة التي كان يحركها بخفة.
بدت ملاقطه المرفوعة ومجساته تصيخ السمع، أملتُ الطبق وسار أبي على الأرض باحتراس وبشيء من التردد. وحالما مسَّ السطح المستو تحته، انطلق فجأة بجميع قوائمه في حين أصدرت مفاصله صوت طقطقة. أعقته فتعثر متحققاً من العقبة بمجساته ثم رفع ملاقطه واستدار يركض جانباً، لم يكن في الاتجاه الذي اختاره أثاث ليتخذ منه ملجأ، فوصل إلى الجدار يجري في نخعات متموجة على قوائمه المتعددة وقبل أن نتمكن من إيقافه ركض برشاقة متسلقاً إياه دون أن يتوقف في أي مكان، نفرت مرتجفاً بشكل غريزي وأنا أراقب تقدمه على ورق الجدران. في هذه الأثناء بلغ أبي خزانة صغيرة في المطبخ، تعلق للحظة بحافتها مختبراً المجال بملاقطه، ثم دخلها زاحفاً.
كان يعيد استكشاف الشقة من وجهة نظر سرطان، يظهر أنه تحسس جميع الأشياء بواسطة حاسته الشمية فبالرغم من تفحص دقيق لم أجد أي عضو بصري عنده. بدا أنه يراعي الأشياء التي تعترض طريقه بحذر، متوقفاً ليتحسسها بمجساته ثم يحتضانها بملاقطه كما لو ليختبرها ويتعرف عليها، ليتركها بعد حين ويواصل سيره جاراً جوفه وراءه يعلو الأرض بقليل، وهذا ما فعله مع قطع الخبز واللحم التي كنا نرميها له على الأرض آملين أن يأكلها، كان يتفحصها لا مبالياً ويواصل السير غير عارف بأنها صالحة للأكل.
قد يستنتج المرء من خلال مراقبته لهذا الاستطلاع الصبور للغرفة أنه يبحث بحثاً حثيثاً عن شيء ودونما كلل. يجري من حين لآخر نحو زاوية المطبخ، زاحفاً تحت برميل الماء الذي كان يرشح ويشرب من بركة صغيرة. اختفى لأيام متواصلة أحياناً. بدا أنه يتدبر أمره تماماً بغير طعام، لكن هذا لم يبد أنه يقلل من حيويته. بمزيج من العار والاشمئزاز أخفينا نهاراً خوفنا السري من زيارته لسريرنا ليلاً. لكن هذا لم يحدث أبداً بالرغم من أنه قد يتجول في النهارات على الأثاث إلا أنه أعجب بشكل خاص بالبقاء في الفراغات بين الخزائن والجدار.
لم نستطع أن نغضَّ الطرف عن عدة مظاهر من تفكير وحس دعابة أيضاً. فعلى سبيل المثال لم يتلكأ أبي أبداً عن الظهور في غرفة الطعام أثناء الوجبات بالرغم من أن مشاركته فيها كانت بحت رمزية. إذا صودف أن كان باب غرفة الطعام مغلقاً خلال تناول وجبة العشاء، وقد ترك في الغرفة المجاورة، خربش أسفل الباب يجري جيئة وذهاباً على طول الفرجة حتى نفتحه له. تعلم مع الوقت كيف يدخل ملاقطه وقوائمه من فرجة الباب السفلية وبعد عدة مناورات متقنة نجح أخيراً في دس جسده خلالها جانبياً ليدخل غرفة الطعام. هذا بدا سبباً لمتعته. ثم بعد ذلك سيتوقف تحت الطاولة مستلقياً بهدوء بجوف ينبض قليلاً، ولم نستطع تصور ما قد تعنيه هذه النبضات الايقاعية. ومع أنها بدت فاحشة وخبيثة لكنها عبرت في نفس الوقت عن ارتياح شامل وشهواني. كان كلبنا نمرود يقترب منه ببطء ودون اقتناع، يشتمه باحتراس ويعطس ثم يبتعد بغير اكتراث من غير أن يتوصل إلى أي استنتاج.
كان التثبيط في عائلتنا يتنامى في هذه الأثناء. تنام جينيا طوال اليوم يموج جسدها النحيل الضعيف مع أنفاسها العميقة. غالباً ما كنا نجد في الحساء بكرات قطنية رمتها دون تفكير مع الخضار. كان متجرنا مفتوحاً ليل نهار دون توقف. تواصل عمليات البيع في خضم مساومات معقدة ومباحثات. توج ذلك كله مجيء العم تشارلز للإقامة.
كان مكتئباً وصامتاً على نحو غريب. أعلن متنهداً عن قراره بتغيير طريقة عيشه بعد تجاربه الأخيرة التعسة وتكريس نفسه لدراسة اللغات. لم يخرج مطلقاً بل ظل حبيس الغرفة القصية وقد أزالت جينيا منها جميع السجاجيد والستائر إذ لم يستسغ زائرنا وجودها. أمضى وقته في قراءة قوائم أسعار قديمة. حاول عدة مرات بوحشية أن يطأ أبي. طلبنا منه صارخين هلعاً أن يكف عن ذلك. فيما بعد اكتفى بابتسامة ساخرة لنفسه، في حين كان أبي يتسكع ويتفحص بعض البقع على الأرض غير مدرك للخطر الذي يحدق به.
أبي السريع والمتنقل كما عهده عندما كان يقف على قدميه، تقاسم سمات جميع القشريات فعندما كان ينقلب على ظهره يتجمد جموداً شديداً، ستشعر بالحزن والشفقة إذا ما رأيته وهو يحرك جميع قوائمه ويدور حول محوره بعجز. كنا نجبر أنفسنا بصعوبة على النظر إلى آلية تركيبه البنيوي اللافتة والمخجلة إلى حد ما، المكشوفة تماماً تحت البطن الممفصل الأجرد. في مثل تلك اللحظات لم يكن بوسع العم تشارلز كبح جماح نفسه عن أن يطأ أبي إلا لماماً، وكنا نهرع لإنقاذه ببعض الأشياء التي في متناول اليد، فيتشبث بها بملاقطه ويستعيد سريعاً وقفته المعتادة، بعدئذ، في الحال، يشرع بجري خفيف متعرج، بسرعة مضاعفة كما لو أنه راغب بإلغاء ذكرى سقطته القبيحة.
يتعين عليَّ إرغام نفسي على رواية المأثرة التي لا تصدق رواية صادقة، التي لا زالت ذاكرتي تنتفض بسببها حتى الآن. إلى هذا اليوم لم أستطع فهم تحولنا إلى جناة عمداً. لا بد أن فاجعة غريبة أفضت بنا إلى ذلك إ لأن القدر لا يتفادى الوعي أو الإرادة بل يجتاحهما في آليته، بحيث نكون قادرين على الاعتراف والقبول بأمور-كما لو في غيبوبة منومة-كانت لتملأنا رعباً في ظل ظروف طبيعية.
بارتعاش شديد سألت أمي يائساً مراراً وتكراراً، ” كيف أمكنك فعل ذلك؟ يا ليتها كانت جينيا من أقدم على ذلك-لكن أنت بنفسك؟” انتحبت أمي مقلبة راحتيها ولم تجد جواباً. هل فكرت أن أبي سيكون أفضل حالاً؟ هل رأت في عملها الحل الوحيد لحالة ميؤوس منها، أو أنها أقدمت على ذلك بخفة وطيش لا يمكن تخيله؟ عندما يختار القدر أن يفرض علينا أهواءه اللا معقولة، لديه ألف مكيدة. تعتيم مؤقت، لحظة سهو أو عمى كاف ليدس عمل نفسه عندما يتوجب الاختيار بين أمرين أحلاهما مر. بعد ذلك تأملنا طويلاً بإدراك متأخر ذلك الفعل شارحين دوافعنا، محاولين اكتشاف نوايانا الحقيقية، لكن ما فعلناه لا يمكن الرجوع عنه.
عندما جُلب أبي على طبق ثبنا إلى رشدنا وفهمنا تماماً ما حدث. تمدد عريضاً ومنفوخاً بعد سلقه، رمادياً شاحباً وقد صار هلامياً. جلسنا في صمت وذهول. وحده العم تشارلز رفع شوكته نحو الطبق لكن وضعها من فوره متردداً ينظر نحونا شزراً. أمرت أمي بحمله إلى غرفة الجلوس. فيما بعد وضع هناك على طاولة مغطاة بمفرش مخملي، بجانب ألبوم صور العائلة وصندوق سجائر موسيقي. معرضين عنه جميعاً، وضع هناك فقط.
لكن جولات والدي الأرضية لم تكن قد وصلت إلى منتهاها بعد، والدفعة التالية-يتجاوز نطاق القصة الحدود المباحة-هي الأكثر إيلاماً على الإطلاق. لماذا لم يستسلم، لماذا لم يعترف بهزيمته عندما كانت لديه أسباب الاعتراف جميعها، وعندما لم يعد بوسع القدر أن يوغل في إزعاجه مطلقاً أيضاً؟ بعد عدة أسابيع من السكون في غرفة الجلوس، استجمع قواه بطريقة ما وبدا أنه يتعافى ببطء. ذات صباح وجدنا الطبق فارغاً. قائمة ملقاة على حافته، انتشرت آثار فراره في صلصة طماطم متخثرة وهلام. وبالرغم من أنه كان مسلوقاً تتناثر قوائمه على الطريق، جر نفسه بما بقي من قوته إلى مكان ما كي يبدأ تجوالاً شريداً ولم نره مجدداً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ترجمتها عن البولندية سيلينا فينيسكا.
ترجمتها عن الانجليزية: أماني لازار.
الصورة من أعمال برونو شولز