يمكن اعتبار محمد خان أول أبناء جيله، الذي يلجأ لأسلوب أقرب للسينما المستقلة في مفهومها كتيار سينمائي يسري الآن في أعصاب السينما المصرية الخاملة، يقدم تجربة لا تحتوي على أسماء أي من النجوم البلاستيكية، التي أضرت السينما بأجورها المبالغ فيها في مقابل الفتات من الفن، ولا يحتوي فيلمه على أغاني المهرجانات، أو الأفراح الشعبية، التي تهز فيها صوفينار تضاريسها اللحمية، ولا يحمل الفيلم اسم شركة إنتاج كبرى تفرض شروطها الخاسفة للإبداع، وباستثناء منحة الدعم الخاصة بوزارة الثقافة، ومنحة إنجاز من «مهرجان دبي» كأي مخرج شاب، يستقل «خان» عن نظام النجوم، وعن الكيانات الإنتاجية الكبرى في مصر، ويخوض طوال 3 سنوات عملية تمويل شاقة، لكي ترقص فتاة المصنع في نهاية الفيلم رقصة الثورة القادمة.. ثورة النساء.
رغم أن الفيلم تدور أحداثه في إطار ميلودراما اجتماعية ذات بعد عاطفي، إلا أن التصنيف النوعي له يظلمه كثيرًا فيما يخص البناء الفكري والنفسي والوجداني للعمل ككل، السؤال الأول الذي يمثل مفتاح استعياب التجربة هو هل تكبد صناع الفيلم كل هذا العناء من أجل أن يقدموا لنا قصة «هيام» عاملة الخياطة، التي تحب المشرف عليها في المصنع لكن الفروق الطبقية تحول دون أن يكتمل حلمها بعد أن كاد يتحقق بشكل غير مباشر عندما أشيع أن المهندس الشاب هو والد الطفل الوهمي، الذي تحمله في أحشائها الغضة؟
الإجابة بالطبع لا، فالبناء الدرامي والبصري للفيلم يحتوي على الكثير من العمق الفكري والوجداني، الذي يتجاوز القشرة الميلودرامية الظاهرة.
مصنع الخياطة ليس مجرد ظرف مكان يمثل بيئة الحدث الدرامي الأساسي، وهو تعلق «هيام» بالمشرف الشاب، أو اتهامهما بالخطيئة وسط دائرة اجتماعية لا ترحم، بل يبدو من خلال المعالجة البصرية أنه نموذج نفسي مصغر لطبقة كاملة وواسعة تمثل قلب هذا المجتمع ومخزونه البشري.
تحتل مشاهد المصنع ما يقرب من نصف مشاهد الفيلم، ولا تتوقف كاميرا «خان» عند الزاويا التي تقتصر على وجود «هيام» التي تجسد شخصيتها الفنانة ياسمين رئيس، ونظراتها للمشرف الشاب، الذي يجسد شخصيته الفنان هاني عادل، أو خواطرها الغنائية الراقصة على صوت سعاد حسني، التي لا تأتي كمرثية لزمن منتهي، بل ثمة تأكيد من خلال مستوى اللقطات الواسعة لصالة العمل أو لغرفة تغيير الملابس أو ساحة البراحة الضيقة.
لا يتوقف هذا التأكيد عند حدود اللقطات القريبة من الوجوه لزميلتها «الأنتيم» أو الأخرى الصامتة، التي تبدو صاحبة اختبار الحمل، الذي أطلق شرارة الشائعة، التي كادت تحرق «هيام»، بل يتجاوزه إلى خطة التتابع المونتاجي، الذي ينتقل من «هيام» لزميلاتها، ليس فقط في مشاهد شعورهن بالحسد تجاهها، لأنها تملك جرأة المبادرة تجاه المشرف، بل لأنها في مستوى من اللا وعي بالنسبة لهن وتمثل رغبتهن جميعًا في الانعتاق من أسر عنوسة جحيمية، ورغبة في ممارسة حياة طبيعية تهون من مشاق الوضع الاجتماعي والمادي، الذي يفتك بأرواحهن الشابة.
وفي لقطة تمثل مفتاحًا آخر من مفاتيح الخوض في مستويات الفيلم، نشاهد من زاوية علوية «هيام»، وهي تنام في صندوق السيارة السوزوكي الصغيرة الخاصة بزوج أمها وسط أختها الصغرى، وخالتها المطلقة، التي تعاني من حرمان جنسي وعاطفي، بل أمومي يدفعها للتصنت على مكالمات الزبائن في السنترال، الذي تعمل به، والاستسلام للمداعبات الجسدية الخائبة من صاحبه.
هذه اللقطة تؤكد شعوريًا أن الأزمة ليست أزمة «هيام» بمفردها، بل أزمة طبقة وأجيال متوالية، فأخت «هيام» هي صورتها المصغرة حين كانت في عمرها، و«هيام» هي مستقبل أختها طالما ظل الوضع الاجتماعي والنفسي على هذه الحالة، بينما الخالة هي مستقبل «هيام» وأختها، إنها لقطة تبدو لنا، وكأنهما كائن واحد في مراحل تطوره العمرية والاجتماعية من الفتوة للشباب للكهولة والأزمة واحدة.
بالطبع لا يمكن إغفال شخصية الأم، التي تجسد شخصيتها سلوى خطاب، والتي تمثل الوجه الآخر من عملة الخالة المطلقة، إنها المرأة / الأرملة / الزوجة التي لا تحتمل العيش دون رجل مهما بدا فظًا غليظ القلب كزوجها، في لقطة تذكرنا بتداعيات من أفلام «خان» السابقة كـ«شقة مصر الجديدة»، وحتى «ضربة شمس»، تنام الأم خلف زوجها بعد أن قضوا أياما في معركة حول شرف «هيام» مزقت فيها الأم يد الزوج الشاب دفاعًا عن ابنتها، تنام المرأة / الزوجة، وتحتضن زوجها بشدة من الخلف كأنها تستمد منه طاقتها الروحية والجسمانية، للبقاء على قيد الحياة، يذكرنا هذا الحضن باحتضان نورا لنور الشريف في فيلم «ضربة شمس»، أو غادة عادل لخالد أبوالنجا في «شقة مصر الجديدة»، لكنه هنا احتضان أقرب للرسالة، وكأنها تقول للرجل أنا بعض منك، وكلي لك فيا ليتك تقدر هذا وتفهمه.
إن كلا من الأم والخالة هما وجهان لعملة واحدة تمثل مستقبل فتيات المصنع في ظل قدم الواقع الخشنة الغليظة، التي توضع بكل وحشية وامتهان على وجه «هيام» حين تقرر جدتها معاقبتها على سوء سمعتها، والشك في سلوكها وشرفها.
في هذه اللقطة تحديدًا تتمثل لنا الذروة الوجدانية والفكرية للفيلم ككل، إنها ليست قدم الجدة، التي توضع على وجه «هيام»، بل هي قدم المجتمع الذي يعاني من أمراض الفقر والجهل والكبت والفوارق الطبقية، وتفتت الأحلام واليأس من المستقبل، والعيش على الحافة، والرضا بالقليل حتى لو كان فتات الآخرين.
في مشهد جروبي حيث المواجهة العنيفة بين «هيام» و«صلاح» عندما تكبر شائعة العلاقة الآثمة بينهما، يخرج «صلاح» خلف «هيام» ليحاول استنطاقها بخصوص حقيقة حملها من عدمه، مهددًا إياها بالفضيحة، فتمر مظاهرة بوسط البلد تطالب بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، حتى يطغى صوتها على صوت الشجار بينهما.
هنا يقدم لنا «خان» وجهة نظره فيما يخص الأسباب الواقعية لمعاناة فتيات المصنع، إنها الأوضاع الاجتماعية والسياسية والنفسية والإنسانية الفاسدة والبشعة، التي يعيشها المجتمع ككل، الذي تتجاوز فيه المسؤولية النظام والحكومات إلى البشر أنفسهم من مواطني هذا المجتمع المشوه والمريض، الذي يعتبر المرأة رغم كل ما تقوم به من عمل في المصنع، وإمتاع في البيت، كالأم التي نراها تتأهب لاستقبال زوجها بفستان معطر برائحة الصابون، وحب وحنان، في المستشفى حين يدخل «صلاح» لإجراء عملية «المصران» تظل مخلوقا أدنى اجتماعيًا وإنسانيًا يمكن بسهولة أن يسقط من شرفة الحياة بلا ثمن تمامًا، كما سقطت «هيام» في لحظة ما من شرفة شقتها في الحي العشوائي حين تبين لها أن حلمها بالحب والحياة الحقيقية لن يتحقق مع «صلاح».
ليس هذا فيلمًا نسويًا يهدف لرفع شعار قضايا المرأة، بل هو تكثيف درامي جيد لواقع نفسي وذهني عام تمثل فيه المرأة مرآة الأزمة العامة، التي نعيشها، صحيح أن أغلب شخصيات الفيلم من الفتيات والنساء في مشهد نزول «صلاح» إلى البحر (تهجم عليه فتيات المصنع بكثرتهن العددية في تجسيد ساخر لواقع اجتماعي وإنساني مؤلم) إلا أن هذه الغلبة لا تتخذ عمقها، ولا وظيفتها إلا من خلال نماذج الرجال المزروعين بداخل السياق على رأسهم صلاح، وزوج الأم الغليظ، وصاحب السنترال الشهواني، الذي تعمل به الخالة، وحتى والد «هيام» الغائب بالموت.
ليس هذا فيلمًا عن أزمة شرف يمكن أن تودي بحياة فتاة صغيرة في ظل تفاقم الكبت، والقيم الزائفة للرجولة والنخوة، بل هو مشرط يشرح لنا نفسية هذا المجتمع العاطل عن كل ما هو وجداني وروحي، إن تنكر فتيات المصنع لزميلتهن واتهامها بالخطيئة يبدو في أحد مستوياته وكأنه حسد لها على أنها ذاقت ما لم تذقه أي منهن من متعة وإحساس، وأوصلهن الكبت واليأس إلى التحول لوحوش تنهش في عرض زميلتهن حتى بعضهن يتمنى أن يكون في موضعها مهما تكلف الأمر، ألم ترتو من جسد رجل، وتعرف طعم شفتيه وأحضانه، كما مشهد «هيام» و«صلاح» في قبلتهما المختلسة بالمطبخ قبل أن تداهمهما أمه، التي تصر على اعتبار «هيام» مجرد خادمة تستحق المكافأة، وليست فتاة تليق بابنها المهندس.
يبدو إصرار «هيام» على رفض الكشف عليها لإثبات براءتها كعذراء لم تمس إصرارًا غير مفهومها على المستوى الواقعي، لكنه على المستوى الوجداني، وربما الشعوري يبدو أقرب لتمسكها بالحلم في أن يعلن «صلاح» حبه لها، ويتزوجها، ويصير هذا الحلم حقيقة (الطفل الوهمي، الذي تحمله هيام في رحمها الشاب)، ونلاحظ بالطبع دلالة الاسم، وارتباطه بمقاطع أغنيات سعاد حسني على شريط الصوت، التي تحوي ولعًا بالخيال والحب والفرحة والحياة البمبي، التي لا تتحق (هذا الطفل ليس سوى ذلك الحلم، الذي تكاد تفقد حياتها بسببه)، في مشهد مواجهتها مع «صلاح»، وكلاهما يعلم أن الأمر بينهما لم يتجاوز القبلة، تصر «هيام» على أن يفهم «صلاح» مغزى هذا الحمل، لقد حبلت منه نفسيًا وشعوريًا حين باح لها بمشاعره عبر قبلتهما البريئة الخافتة، إنها ليست مجرد فتاة تريد أن توقع رجلًا في شرك الزواج منها حتى لو على حساب سمعتها أو بوسيلة رخيصة كادعاء الحمل، وفقدان العذرية بدليل أنها ترفض إحضاره إلى منزلها من قبل زوج أمها وأقاربها الرجال، وتكاد تكون قد ألقت نفسها عمدًا من الشرفة، كي تتلخص من ألم تلك اللحظة، بل إنها كانت تريد له أن يستوعب مغزى هذا الحمل، وما احتملته من أجل أن يراها في صورة غير كونها مجرد عاملة بسيطة في مصنع.
منذ أفلامه الأولى لا يصور «خان» الشوارع بل النفوس، المدينة بالنسبة له هذا النبض البشري، الذي يتحرك في الشرايين، التي تسمى مجازًا حارات، أو كما كتب عنه مرة الناقد سامي السلاموني أن محمد خان لديه القدرة على التقاط جماليات القبح في مدينة تكره التصوير بطبيعتها كالقاهرة.
إن لقطات الشوارع الضيقة في المنطقة العشوائية، التي تعيش فيها «هيام» وأسرتها أو مشاهد الفرن المعبرة جدًا عن حقيقة اجتماعية، (وهي المرأة التي صارت تحضر عيش الأسرة). هذه اللقطات لا تنقل لنا حركة الشخصيات فقط، أو ذهابها إلى المصنع، أو عودتها ليلًا بل هي إشارة بصرية واضحة لطبيعة الواقع، الذي أصبحنا نعيشه، دمامة وفوضى وضيق، واختناق ونفوس ملتوية، وقبح وجداني كامل.
ولكن رغم كل هذا القبح الذي يطالعنا في لقطات الشوارع يقدم «خان» مشهد المصنع في إضاءة بيضاء براقة تبدو مبهجة في تناسقها اللوني مع ملابس الفتيات، وقصاصات القماش والملابس، التي يعملن على خياطتها، لم يكن أسهل من أن يقدم لنا المصنع إضاءة فاترة كئيبة توحي بأنه قبو أو قاع للمعاناة، ولكنه يتجاوز تلك الكآبة الميلودرامية السطحية إلى ما هو أعمق، إنه تعبير بصري واضح عن محاولة هؤلاء الفتيات الابتهاج وتلوين حياتهن المعذبة والمكبوتة بقليل من المتعة والسعادة، أو على حد قول «هيام» عن الرحلة السنوية (إحنا بنستناها من السنة للسنة) إن إضاءة المصنع البراقة هي انعكاس للأمل، الذي يتشبثن به في أن أحلامهن البسيطة يمكن أن تتحقق يوما.
ويمكن بسهولة الربط بين هذا والمشهد الأخير حين تفي «هيام» بنذرها، وتصعد إلى ساحة الرقص في قاعة الأفراح، لكي ترقص في فرح صلاح، وعلى وجهها ابتسامة مشرقة وقانعة وواثقة من أن المستقبل يحمل لها الأفضل، إنها ليست رقصة الطير الذبيح، ولكنها رقصة الروح التي تحررت من أسر الوهم بأن الحياة لن تمنحنا أفضل مما نحن عليه، إنها رقصة الثورة القادمة، ثورة النساء في هذا المجتمع الرجعي الطبقي على كل ما هو مادي ومهين ومُحقر.
إنها نفس الابتسامة التي يستقبلنا بها وجه ياسمين، رئيس بطلة الفيلم، على الأفيش، التي نؤكد أنها ستكون أحد أهم وجوه السينما المصرية في المرحلة القادمة مع هذه القدرة على التوحد، والذوبان في الشخصية، التي تقدمها، هذه ممثلة جاءت كي تدشن جيلًا جديدًا من الوجوه الشابة القادرة على التلون النفسي والملامحي والمخلصة لأبعاد الشخصيات، التي تقدمها بلا افتعال مبالغ فيه، ولا تواضع مبتذل.
أما سلوى خطاب في دور الأم فهي بلا شك تعيش الآن أهم مراحل نضجها الفني والتشخيصي على الإطلاق، إلى جانب سلوى محمد علي في دور الخالة، وهي الممثلة التي تؤكد أن لقب مخضرمة لا يليق سوى بأمثالها من أصحاب القدرة على التمثيل بالروح، وليس فقط بالصوت والوجه والجسد.