“غرام وانتقام” ومارجريت أتوود .. هل ثمة نهاية سعيدة ؟
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام
ماتت ممثلة قبل أن تنتهي من فيلمها الأخير، استمرت الحياة، وتضررت الحبكة بعض الشيء، عدلّوا النهاية، ثم مرّ الأمر.
في قصتها القصيرة "نهايات سعيدة" تُفجِّر الأديبة الكندية مارجريت أتوود، فكرة النهايات السعيدة أصلًا، ثمة حكايا مُتعددة لجون وماري، يلتقيان ثم تتفرع التفاصيل، في رواية ما يتبادلان القُبل، في رواية ثانية يهرب جون، في رواية ثالثة يكون هُناك شريك ثالث بينهما، وفي رابعة يُصاب أحدهما بالسرطان، وفي خامسة يغرق منزلهما ويتمكننان من الهرب، وفي كل الروايات تنتهي الحكاية دائمًا، النهاية الوحيدة المنطقية، والواقعية أيضًا، تلك التي لا يستطيع تجاوزها أرفع أنواع الخيال جنونًا، ربما يقف خطوة قبلها، لكنه أبدًا لا يتجاوزها. الموت.
تقول مارجريت أتوود في قصتها التي يُترجمها باسم عبد الحليم "النهاية المنطقية الوحيدة هي تلك المُثبتة هنا : جون وماري يموتان، جون وماري يموتان، جون وماري يموتان".
في الفيلم المصري "غرام وانتقام" إنتاج عام 1944 وإخراج يوسف وهبي، تسير الأحداث إلى نهاية سينمائية معروفة ومُحددة سلفًا، النهاية السعيدة، التي ستقصّ بالضرورة كُل التفاصيل المُتفرعة، لقصة تتعلق بالشرف على الطريقة الشرقية وخيانة الأصدقاء، ينبغي أن تُهذب النهاية السينمائية المُتوقَعة كل سوء الفهم بين البطلين، وأن تحقق ترضية مُقنعة للبطل الذي هو النجم، يوسف وهبي، نهاية مُحددة، كما هو فكر الفيلم يُحدد بسذاجة طفولية، الفرق بين الشر والخير، الفضيلة والخطأ، الخيانة والإخلاص.
"غرام وانتقام" ولأنه فيلم ينتمي لعهد قريب من بدايات السينما، لا يحمل فكرًا تُقدميًّا، ولا يلتمس للبشر الأعذار على خطاياهم، الحياة غير آمنة تمامًا، والخيانة رابضة في كل الأركان، الأغنيات موضوعة كما توضع الأغنيات عادة في الأفلام السينمائية القديمة، التي كانت تريد أن تقدم كل شيء للمُشاهد، نجومه، ومُطربيه، قيم مُجتمعه السائدة، تقاليده، عبارات رنانّة تُرضيه، أغنيات ورقصات.. كل شيء، كل شيء.
عفوًا خرج "غرام وانتقام" عن القُضبان دون إرادته، أتى موت أسمهان، في المشاهد قبل الأخيرة، كي يُفجِّر مفاجأة لا يمكن أن تكون سارّة، الآن تموت، قبل النهاية السعيدة بالضبط. لأسباب لا يمكن معرفتها وإن كان يمكن التنبؤ بها، قرر يوسف وهبي أن تتماس نهاية حياة أسمهان، مع نهاية حياة سُهير سلطان، بطلة الفيلم وهي أيضًا مطربة شهيرة وهامّة.
هل أراد يوسف وهبيّ أن يستغل شكل حادث وفاة أسمهان في الفيلم، كي تأتي الناس وتتفرج على النهاية الجديدة لقصة حياة البطلة غير المكتملة؟ هل شعر أن هذه نهاية أكثر فنيّة؟ هل رأى إنه ربما يكون يقدم جديدًا لن يتكرر من بعده في النهايات السينمائية؟ هل كان الحل، وليد مباشر لحادثة موت أسمهان، لم يُبدع فيه وهبي، ولم يجتهد، مجرد نقل من الواقع إلى الشاشة؟
لا أحد يدري. حين يتهيأ لبطل غرام وانتقام "جمال" أن كل شيء يسير إلى الحل، شقيقته سوف ترتبط بابن عمّه، فيتم قمع الفضيحة، وهو يحصل على البراءة من مقتل "أنور وجدي" إذ أثبت الدفاع إنه لم يتعمد القتل، وأن القتيل أصاب نفسه بنفسه دون أن يدري، بعد أن يكون المجتمع كله، عبر صُحفه، إعلام ذلك العصر، قد تعاطف مع هذا الذي تورط في القتل حماية لشرف عائلته، هذا الشرف المُختزَلْ في دم بِكارة البنت الواقعة في "براثن الخطيئة الفاسدة" وتستحق تمامًا القتل، حين يحدث كل ذلك ويكون البطل جمال على شفا السعادة الكاملة والانعتاق من الذنب التام، يحدث أن تموت المُمثلة الي تؤدي دور بطلة الفيلم، أسمهان لا سُهير سلطان. ماذا سيفعل؟
نهاية "غرام وانتقام" الجديدة، تقول إن "سُهير" ماتت في حادثة على الطريق بين مدينتين، إنه حين يذهب للبحث عنها، لا يجد غير جُثمانها المُكفّن، لقد ماتت أسمهان، وماتت أيضًا سُهير، ووجد يوسف وهبي أو جمال نفسه، سائرًا في طريق رثائها حتى الموت، حد فقدانه عقله، حد إصابته بالجنون، والجنون انفصال عن الواقع، أو رفض للواقع، يدخل جمال إلى مشفى المجانين، هو الموسيقار الشهير سيقضي ما بقى من عُمره، يعزف للحبيبة المفقودة، لحنًا لم يتم عنوانه اسمها "سُهير".
هذه النهاية السينمائية الفريدة، لا تُشبه عادةً النهايات السينمائية، لا التي جايلتها، ولا التي تُقدمها السينما الآن، إنها ليست نهاية فنيّة أبدًا، نهاية لا تلعب بالخيوط، ليست نهاية ملحميّة ولا دراميّة، إنها كما تقول أتوود "النهاية المنطقية الوحيدة".
ربما تكون ميتة أسمهان قد صنعت واحدة من أكثر النهايات السينمائية جنونًا وشذوذًا، وربما جماليّة أيضًا، إنها نهاية تُشبهنا في حيواتنا كلها، في كل الأزمنة، إذ سيأتي الموت بالنهاية على الدوام، على الدوام.